لا أتحدث عن الذين فصلهم الحزب الوطني الديمقراطي بعد الثورة من عضويته ومناصبهم المهمة في قمة الحزب بعد سقوط زعيمه «الراجل الكبير» من زعامة الحزب ورئاسة مصر!، لكنني أتحدث عن هؤلاء الذين سارعوا باعلان انسحابهم من الحزب وقد كانوا فيه نجومه الزاهرة!، وقد أفاد هؤلاء بأن قرار انسحابهم جاء بعد اكتشاف «مدي الفساد» الذي كان يسبح فيه قادة الحزب من رئاسته إلي أصغر المستثمرين فيه!، وقد كان اللافت للنظر في هذه الانسحابات - بعد السقوط- أن هؤلاء المنسحبين كانوا مثل عامة الناس يعرفون أن الفساد قد في استشري في أرجاء مصر، ولكنهم لم يتصوروا أن الفساد كان قد شمل حزب الأغلبية الذي كانوا يتشرفون بوجودهم فيه، حتي اذا وقعت الواقعة واندلعت الثورة وانكشف كل المستور والمخبي.. هالهم ما كان أقطاب الحزب عليه من الفساد!، وأنهم كانوا مجرد «ديكور» بشهاداتهم العلمية الرفيعة لأصحاب دكان «المفسدة» التي لم تعرف مصر مثيلاً لها في كل العهود!، ولم أستطع تصديق هؤلاء المنسحبين في دعواهم أنهم فوجئوا بفساد حزبهم المتين!، وبدا اخواننا أمامي وكأنهم قد عاد إليهم «وعيهم» بعد كل هذا العمر الطويل لهم في صدارة الحزب!، وعيهم المشابه لوعي عمنا الراحل كبير الفكر والمقام «توفيق الحكيم» عندما أصدر كتابه «عودة الوعي» مكتشفاً فجأة أنه بعد طول عشرته مع نظام الزعيم الراحل عبدالناصر أنه كان يعيش فاقدا للوعي!، وكان ظهور الكتاب بعد رحيل عبدالناصر بفترة وجيزة، فلم أصدق لرجل غفر الله له، وكذا لم يصدقه غيري من الملايين التي لم تسمع له طيلة وجود عبدالناصر كلمة واحدة في نقد نظامه حتي يثبت للشعب المصري أنه لم يكن فاقدا لوعيه!، بل كان في رياضة فكرية يحاول أن يفهم ما يجري حتي إذا كاد يفيق وينتبه لما يسير عليه الحكم الناصري، كان صاحب العهد قد أدركته الوفاة!. وفيما يبدو فإن الذين انسحبوا من الحزب الوطني بعد سقوط الزعيم والرئيس السابق كانوا مثل «الحكيم» في رياضتهم الفكرية وتدريباتهم العقلية محاولين التأكد مما يسمعون عن فساد نجوم الحزب من الرجال الكبار! حتي اذا داهمهم شباب ثورة التحرير بأن «الشعب يريد اسقاط النظام» لم يعرفوا أن أسباب مطلب الشعب أن «حزب الأغلبية» كان المعمل الرئيسي لتوريد الفساد لعموم مصر!، ولم يصدقوا أن وجهاء الحزب ليسوا صناع الفساد فقط، بل هم شركاء لكل حرامي من حرامية هذا البلد!، ولكنني لم أصدق المنسجين ولم يصدقهم الناس!، فهؤلاء -كما نعلم- كانوا يطلون علينا صباح مساء حاملين الملفات الضخمة التي تحمل عصارات أذهانهم في التخطيط وابتكار السياسات التي تتكفل باصلاح كل مصر!، وهم الذين أفنوا اعمارهم في تحصيل العلوم في مصر والخارج، وكان لابد أن ينفعوا مصر بعلومهم يضمهم «عقد فريد» انتظموا فيه لآلئ تعزز السياسات الحاضرة والمستقبلية الكفيلة بتحويل مصر إلي «نمر اقتصادي» يأخذ مكانه في عالم النمور الأوروبية قبل الأسيوية!، فكيف كان هؤلاء علي كل هذا العجز عن فهم ما يدور في حزبهم العريق وغرفه المغلقة علي مداولات الفساد والافساد!، وكيف تحولت «زبدة» عقولهم الفذة إلي «سوائل» في رءوسهم لاتكاد تثبت في زوايا هذه العقول وأركانها!، فأصبح «العز» هو معجزة الاقتصاد!، وأصبح «الشريف» هو السياسي الوحيد، وأصبح «زكريا» يدير أمور الحزب والرئاسة وسائر أرجاء الجمهورية برمش عينه!، بل كيف استطاع هؤلاء أن يجعلوا من « المنسحبين» مجرد «ولايا» لاحول ولا قوة!.