الدب الروسي يتمطي في مناطق نفوذه القديم .. يزأر بصوت يجلجل ويزلزل أفئدة الغرب المرتعد .. وفق القانون الدولي التدخل الروسي في أوكرانيا -وتحديدًا في شبه جزيرة القرم- مقنعًا وله ما يبرره . موسكو لم ترسل طائراتها أو دباباتها إلى العاصمة سيمفروبول أو إلى المدينة الشاطئية سيباستوبول؛ وهي باليقين ليست بحاجة لفعل ذلك لسبب استراتيجي قائم علي الاتفاق المبرم مع كييف من سنوات والذي يكفل لأسطولها التواجد بحرية في البحر الأسود وهو ما يوفر لها كافة الإمكانيات العسكرية الثقيلة. كما أن روسيا في وضع مميز للغاية من واقع القانون وعلي أرض الواقع بسببين الأول : ولاء الحكومة المحلية وأجهزتها الأمنية والإدارية في سيمفروبول لها ، والحراك الشعبي الحاشد للمواطنين من أصل روسي لصالحها والي وصل إلي تشكيل لجان وميلشيات دفاع شعبي .. و السبب الثاني إرسال الآلاف من قوات الأمن المقنعين الذين لا يكشفون عن انتمائهم لمحاصرة الثكنات العسكرية والمراكز الإدارية بهدف خنق أي نية تحرك موال لحكومة كييف. وهو الأمر الذي استخدمته كييف لتتحدث عن غزو روسي . وصدحت به الإدارة الأميركية والدول الغربية قاطبة للتنديد بانتهاك السيادة الأوكرانية ، ولرفع سيف العقوبات فوق رأس القيصر بوتين . لكن الثابت اليوم من قراءة وتحليل التطورات أن القيصر ماض في استراتيجيته الهادفة لفصل شبه جزيرة القرم عن أوكرانيا وإتمام ضمها إليه بناء علي الرغبة الشعبية لسكان الجزيرة والأصول الروسية لها .. ومستندًا كما جاء في رسالته إلى المجلس الفيدرالي الروسي، إلى الحق في "حماية مصالح روسيا" وحياة الروس "المهددة من قبل العصابات المجرمة والمغالية في التطرف" في كييف. بوتين يمضي مسرعاً لتحقيق "حلم استراتيجي". وهذا الحلم الذي داعبه منذ وقت طويل .. فبوتين صاحب المقولة الشهيرة : أكبر كارثة جيوسياسية حصلت في القرن العشرين هي انهيار الاتحاد السوفياتي ، وأنه عازم على إعادة بناء الاتحاد الأورو- آسيوي.. بوتين علي قناعة أن وقوف روسيا المنهكة في الماضي القريب موقف المتفرج سمح للغرب أن يقضم من دائرة النفوذ السوفياتية السابقة. قضمات مؤلمة .. فتارة عبر ضم قطعة منه إلى الحلف الأطلسي ، وأخري من خلال الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أو إقامة شراكة معه. ببساطة حلف الأطلسي هضم بدون أدني عسر أو تلبك معوي ثلاث جمهوريات سوفيتية سابقة (أستونيا ولاتفيا ولتونيا) وذلك في العام 2004 ، ويرنو لضم جيورجيا وأوكرانيا.. كما أنه ضم إلى صفوفه العديد من أعضاء حلف وارسو المنافس للحلف الأطلسي وهي: بلغارياورومانياوتشيكوسلوفاكيا (سلوفاكيا ثم التشيك) وبولندا والمجر وألبانيا. فضلاً عن جمهوريتين سابقتين من الاتحاد اليوغوسلافي وهما سلوفينا وكرواتيا. وكانت مولدافيا المحشورة بين رومانياوأوكرانيا تريد الانضمام بدورها إلى الحلف. لكن الأخير رفض طلبها لما يحيط بها من مشاكل لا حصر لها . ولاكتمال المشهد لا بد من الإشارة إلى المشروع الأميركي- الأطلسي الخاص ببناء ( درع صاروخي ) يُنشر في أوروبا بحجة حمايتها من الصورايخ الباليستية التي يمكن أن تطلقها دول مارقة مثل إيران. لكن الواقع أن المروجين لهذا المشروع -الذي جمده الرئيس أوباما بعد وصوله إلى السلطة في ولايته الأولى- يستهدفون في حقيقة الأمر تعطيل الترسانة النووية الروسية، وهو بذلك شبيه في أهدافه بمشروع الرئيس ريغان المسمى ب ( حرب النجوم ) . الفارق في التحرك الروسي والغربي في هذه الأزمة أن بوتين كان واضحاً حاسماً منذ اللحظة الأولي ، فحينما بدأت نذر الأزمة تتجمع سارع بوتين وطلب من المجلس الفيدرالي الروسي السماح بإرسال قوات روسية إلى أوكرانيا، وهنا استفاق الغرب علي دوي الدب الروسي وهو يصقل مخالبه وتكاثرت الاجتماعات والاتصالات على كل المستويات للنظر في ما يمكن القيام به لإفهام روسيا أن "الثمن" الذي تحدث عنه الرئيس أوباما مرتفع لدرجة أن من الأفضل لموسكو التخلي عن مخططاتها. لكن تمخض الجبل فولد فأر لا يستطيع حتى السعي ، وخرج وزير الخارجية الأميركي جون كيري ليسارع بالقول الصريح إن آخر ما يمكن أن تفكر به بلاده في مثل هذه الأوضاع هو الخيار العسكري . وأفصح الرجل عن مكنون قلبه المرتجف بصراحة أكبر فجزم قائلاً: " ما نريده هو حل سياسي ". ونسجت علي نفس المنوال المستشارة الألمانية أنجلا ميركل التي أكدت أن لا حل عسكري للأزمة الأوكرانية، وأن الوقت لم يفت للعثور على حل سياسي . أما وزير خارجيتها شتاينماير فقد اعتبر أن الزمن للدبلوماسية التي " لا تعكس حالة ضعف لكنها ضرورية من أجل تحاشي الغرق في أحشاء التصعيد العسكرى " . وأصبح واضحاً وجلياً أن أحدًا لا يريد حربًا مع الدب الروسي من أجل أوكرانيا، سواء كانت حربًا كلاسيكية أو حربًا نووية. والولايات المتحدة في ظل الإدارة الحالية للرئيس أوباما أقل الدول رغبة في اندلاع حرب خطرة طرفها إحدى الدولتين العظميين في العالم التي تمتلك ترسانة نووية بحجم ما يوجد بالترسانة الأميركية. ولذا، فإن الغربيين، بعد التصعيد الكلامي وبيانات التنديد واجتماعات التشاور لن تخرج قرارتهم عن مجموعة من العقوبات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية التي ستأخذ صورة فرض عزلة سياسية ودبلوماسية على روسيا، والتهديد بإخراجها من مجموعة الثمانية، ووقف برامج التعاون معها، وفرض حظر على تأشيرات الدخول لعدد من مسئوليها وتجميد ودائعهم في المصارف الغربية، وفرض العزل التجاري، ووقف الاستثمارات المباشرة وإلى ما هنالك من إجراءات مشابهة. في المقابل هناك في يد موسكو ورقة رادعة هي ورقة الغاز الروسي المتدفق على أوروبا. وتعتمد القارة القديمة في استهلاكها على الغاز الروسي بنسبة 40 بالمائة. وليس في السوق فورًا جهة قادرة على التعويض عنه. لذا، ستحسب أوروبا ألف حساب قبل أن تقرر فعليًّا تدابير قسرية بحق روسيا؛ لأنها تعرف أن ردة الفعل من الطرف الآخر ستكون أليمة. المواجهة في أوروبا مشتعلة وستزداد اشتعالاً .. لكن قوة الفعل الروسي جعلت رد الفعل الغربي بعيداً عن المواجهة العسكرية ... ولو إلي حين ..