غضب اجتماعى على طريقة انتفاضات عمال النسيج وعمال الحديد والصلب، وغضب سياسى ينتظر مآلات الاستفتاءات والانتخابات المقررة ليست هى بالطبع الثورة التى تعد لها جماعة الإخوان، والتى ضربوا لها موعدا فى 25 يناير 2014، وعلى ظن أن التاريخ القريب قد يكرر نفسه، ويمهد له الطريق بمظاهرات الشارع التى تذبل أعدادها وتتآكل خرائطها، أو بمظاهرات الجامعات التى تنتهى إلى عنف مستعر، يعيد صورة الصدام المثير للمشاعر بين الأمن والناس، ويشحن النفوس بالغضب من قوات الشرطة القمعية، ويحشد ليوم الحساب فى 25 يناير الذى يوافق عيد الشرطة القديم، والذى نهضت فيه الموجة الأولى للثورة المصرية المعاصرة المتصلة فصولها من 25 يناير 2011 إلى 30 يونيو 2013، ودون أن تكتب الثورة إلى الآن نهايتها السعيدة، أو تستقر على شاطئ ختام تهدأ عنده وتستريح أمواج الغضب . نعم، ليست الثورة المقبلة فى قصة الإخوان، فربما يكون بوسع الإخوان أن يحشدوا، وأن يعبئوا نفوس شبابهم بحس الجهاد الموهوم فى سبيل الله (!)، وأن يلجأوا لشراسة النساء تعويضا عن تخاذل الرجال، وأن يجربوا صناعة مشاهد تحاكى مشاهد الثورة الأولى، وكل ذلك يفعله الإخوان، وبإتقان مثير للإعجاب أحيانا، لكنه يظل مصطنعا إلى حد كبير، ولا يؤدى إلى ثورة شعب يقودها الإخوان، فثمة حجاب حاجز تكون بين غضب الإخوان وغضب الشعب، وكما أن المؤمن لا يلدغ من ذات الجحر مرتين، فكذلك يحدث للشعب المصرى، والذى أبدى ثقة وارتياحا وحماسا من قبل لصعود الإخوان، لكنه دخل فى التجربة التى هى خير معلم وأفضل برهان، وجرب حكم الإخوان بفوزهم بالأكثرية فى البرلمان، ثم بفوزهم اللاحق والأصعب فى انتخابات الرئاسة، وثبت أن حكم الإخوان ليس البديل بل القرين، وأن العلاج بالإخوان كان نوعا من معالجة الداء بالتى كانت هى الداء، ثم أن الجماعة حلت عند الإخوان محل الوطن، فهى وطن خاص وشعب خاص، لاتهمها حدود الوطن المصرى بقدر ما تهمها مصالحها الذاتية، وتضع شعبها بروح عنصرية صرفة فوق عموم الشعب المصرى، ثم أن قيادة الإخوان لاتختلف عن قيادة مبارك فى جوهر اختياراتها، وأولوياتها هى ذاتها التى تركها مبارك، وكتابها المقدس سياسيا هو الولاء للأمريكيين وحفظ أمن إسرائيل ورعاية مصالح رأسمالية المحاسيب، وقد أراد مبارك اختصار البلد فى مجرد عزبة لعائلته ومواليه، وأرادت قيادة الإخوان اختصار مصر فى مجرد ولاية تابعة لخلافة موهومة، ولا يعنى ذلك أن الإخوان ليسوا من المصريين، بل هم مصريون كرهوا مصريتهم ، واسقطوا من حسابهم تاريخ مصر الألفى، وثراء الفهم المصرى الراقى للأديان وللإسلام بالذات ، واحتقروا الشعب المصرى الذى صارت أغلبيته تكره أو تخاف الإخوان، وتحول عنهم بندول التعاطف الشعبى فى زمن قياسى، وتحولوا من «خيار مفضل» إلى «خطرمستبعد» عند المصريين فى ثلاثين شهرا لاغير . وقد يقال لك إن تضحيات الإخوان عظيمة، وهذه حقيقة مرئية، لكن عظمة التضحيات ليست دائما دليلا على صحة الهدف، فقد استمات الإخوان لاستعادة سلطان الجماعة، وقدموا المئات وراء المئات من الشهداء والشهيدات، وإلى حد صارت معه علامة رابعة برغم أصلها التركى إشارة حزن مستحق، فما من نفس سليمة ولا ضمير حى يستسيغ الخوض فى حرمة الدم، أو يفرق بين دم ودم، فدم شهداء الإخوان كدم غيرهم من الموطنين المصريين، دم شهداء الإخوان كدم شهداء الثورة ودم شهداء الجيش والشرطة، وكل الدم المصرى حرام، ولابد من محاسبات ومحاكمات جدية للقتلة جميعا، وليست تلك المحاكمات الهزلية التى جرت وتجرى، والتى تنتهى دائما إلى إبراء ذمة القتلة، فلا يصح لأحد أن يختلف أو يمارى فى حساب الدم وحساب الحقوق الإنسانية، لكن حساب السياسة شئ آخر، حساب الدم حساب قلوب نازفة بالأحزان، وحساب السياسة حساب عقول محصنة بالتجربة، وقد علمت التجربة المصريين ألا ينخدعوا باختلاط الرايات، فليس كل من يلوك كلمة الثورة هو ثورى حقا، ولم يحكم مصر بعد الثورة سوى جماعات الثورة المضادة، ومن أول حكم المجلس العسكرى إلى حكم الإخوان إلى الحكم الانتقالى الحالى بعد موجة الثلاثين من يونيو، وهو ما يعنى ببساطة أن الثورة لاتزال فى الشارع، ولم تصل بعد إلى السلطة، ولم تغير الاختيارات الجوهرية للسياسة الحاكمة، فقد ظلت كما هى مع تغير الوجوه، وإلى حد تبدو معه مصر كأنها لاتزال تمشى فى حذاء مبارك نفسه، وهو ما يستثير غضبا اجتماعيا وسياسيا تتكاثف إشاراته وعلاماته، غضب اجتماعى على طريقة انتفاضات عمال النسيج وعمال الحديد والصلب، وغضب سياسى ينتظر مآلات الاستفتاءات والانتخابات المقررة، فثمة مخاوف حقيقية من عودة جماعة مبارك بشحمها ولحمها إلى سدة الحكم، خاصة لو جرت انتخابات البرلمان المقبلة بالنظام الفردى الذى يهدر أصوات غالبية الناخبين، وساعتها لن يجدى التعلل بقصص الانتخابات ونزاهة الإجراءات، فالثورة الجريحة لها قانونها، وتعدد موجاتها طبع أصيل فيها، والشعب المصرى لم يقم بثورته من أجل استعادة الهوان نفسه، أو أن تتناوب على حكمه جماعة الإخوان وجماعة مبارك، وهما الجماعتان اللتان سادتا المشهد المصرى الكئيب قبل 25 يناير 2011، وقامت الثورة من خارج الجماعتين، وبهدف إحلال ثلاثية الثورة محل ثلاثية الثورة المضادة، بهدف إحلال اختيارات الاستقلال الوطنى والتصنيع الشامل والعدالة الاجتماعية محل كوارث الولاء للأمريكيين وحفظ أمن إسرائيل ورعاية مصالح رأسمالية المحاسيب. الثورة المقبلة إذن قد تكون فى الطريق، لكنها بالقطع ليست ثورة ولا شغب الإخوان، فالجماعة تقاتل من أجل الجماعة، وليس من أجل الشعب، ولا يعنى ذلك بحال أن يسكت الثوريون عن الانتهاكات والفظاعات، وسواء جرت بحق الإخوان، أو بحق غيرهم، فلابد من تحقيق عادل ومنصف فى مجازر الدم، ولابد من الضغط للإفراج عن الموقوفين والموقوفات بغير جريرة ولا دليل، ولابد من محاكمات علنية نزيهة للمتهمين، ولابد من رفض أى تغول على حقوق الناس المكتسبة فى التظاهر والإضراب السلميين، ومن حق الإخوان كغيرهم أن يتظاهروا بغير عنف ولا إرهاب مدان، فما من جماعة فى التاريخ المصرى نجحت فى مناطحة الدولة أو هزيمتها بالعنف، وممارسة العنف تهلك معنى الثورة، والسلمية هى عنوان التفوق الأخلاقى للثورة المصرية المعاصرة المتصلة فصولها، ومن حق الإخوان كغيرهم أن يتظاهروا سلميا، لكن لامعنى لتعويل ثورى على مظاهرات الإخوان، فغضب الإخوان غضب محجوز، وهو كبقعة زيت لا تختلط بماء الغضب الشعبى، لكن غضب الشعب يحتاج إلى قيادة ثورية حقيقية، غضب الشعب يحتاج إلى حزب ثورى وتحالف ثورى، يستبعد من صفوفه كل قطاعات اليمين الدينى والفلولى والليبرالى، ويستبعد من صفوفه كل جماعات المزورين للثورة، ويستبعد جماعات «المارينز» التى تتلقى تمويلا أجنبيا، ويعتصم بأوجاع مصر وأشواقها، ويضم أقسام الوسط والناصريين والليبراليين الاجتماعيين والإسلاميين التقدميين واليسار فى حلف وطنى جامع، ويتبنى برنامج الثورة بانحيازاته الوطنية والاجتماعية والتصنيعية والحضارية بأفق قومى عربى، وهذه مهمة الوقت الثورى، فأزمة الثورة الحقيقية فى افتقارها إلى قيادة مطابقة لأهدافها، وهو ما يجعلنا ندور ونلف فى المكان نفسه، وينتهى بنا إلى مفارقة أشبه بالمأساة، فالثورة تقوم، لكنها لا تحكم، والموجات تتوالى، لكن صوتها الهادر يتبدد مع الريح السموم، وبسبب من عمق التناقض بين مشهد الثورة ومشهد السياسة، مشهد الثورة عفى ورافض، ومشهد السياسة رخو وراكد ومتواطئ، ولن تكسب الثورة بمجرد سريان الإجراءات الديمقراطية المحكومة بمشهد السياسة المختل، فالديمقراطية مطلوبة، لكنها لا تحقق بالضرورة كسبا أكيدا لقضية الثورة، اللهم إلا إذا فاز حزب أو تحالف ثورى، ولأن هذه ليست الحالة الآن، فانتظروا الثورة المقبلة من فضلكم، حتى لو تأخرت إلى حين. محامى الحلم كان حفلاً مهيباً يليق باسم صاحبه عبدالعظيم المغربى القيادى البارز بحزب التيار الشعبي، مئات الرجال والنساء من مختلف الاعمار والطبقات والمهن والمحافظات، وضيوف عرب كبار من أقطار المشارق والمغارب، لم تمنعهم ظروف الطقس الباردة جداً من التدافع للحضور، والتزاحم على أبواب ومقاعد قاعة كبرى فى «مركز إعداد القادة»، ونشر الدفء والحماس فى احتفالية تكريم الرجل بمناسبة بلوغه الخامسة والسبعين من عمره المديد بإذن الله. وعبدالعظيم المغربى له ألف صفة وصفة، فهو واحد من كبار المحامين، وواحد من أعرق السياسيين والبرلمانيين، وإن كنت أفضل فى وصفه كلمة «الناصري» وكفي، انحيازه الاجتماعي قاطع ساطع، وانحيازة القومى العربى أشد سطوعاً، عاش زمن ثورة عبدالناصر شاباً مقاتلاً على يسارها، وكافح الردة التى عصفت بالحلم زمن السادات ومبارك، تقاذفته السجون والمحن، وأنهكته الامراض وعلل الجسد، لكن روحه ظلت شابة فتية معاندة، وظل مكانه فى الصف الأمامى لمواكب السالكين لسبيل الثورة، وامتد به العمر ليشهد عودة مصر إلى بهائها الثورى الأول، ووصل ما انقطع مع ثورة عبدالناصر بثورة 25 يناير و30 يونيو المتصلة فهو لها إلى الآن. عبدالعظيم المغربى فى كلمة هو «محامى الحلم» بامتياز. نشر في عدد 679 بتاريخ 16/12/2013