أحداث فيلم «هليوبوليس» تدور في مكان واحد، حي «مصر الجديدة» الذي أقيم في عهد الملك فاروق، وكان بمثابة ضاحية بعيدة نسبياً - في ذلك الوقت - عن وسط العاصمة أو مصر القديمة!.. وتدور في زمن محدد مدته 24 ساعة، ومن خلال خمس شخصيات لا تلتقي أبداً. ينسب فيلم «هليوبوليس» إلي ما اتفق علي تسميته «السينما المستقلة» أي السينما التي لا يقف وراء انتاجها شركة سينمائية كبيرة، وهو عمل محدود التكلفة، وتم تصويره بكاميرا الديجيتال، ونقل بعد ذلك إلي شريط سينمائي 35مم.. وما يميز هذه السينما أيضاً ويجعلها مختلفة، أنها تعتمد علي لغة حكي بعيدة عن الشكل الدرامي التجاري الذي يقوم علي التصعيد والإثارة، وتقوم - في الأغلب - علي شخصيات وقضايا بسيطة وعادية، وتميل إلي التفاصيل الصغيرة، ودائماً منشغلة برصد ظواهر نعيشها، وتقدمها لكي نراها أو نتأملها. حقق هذا النوع من الأفلام تواجداً ملفتاً في الفترة الأخيرة، من خلال ثلاثة أفلام هي: «عين شمس» لإبراهيم البطوط، «وبصرة» لأحمد رشوان، و«هليوبوليس» لأحمد عبدالله، والسمة التي يمكن أن نجدها في هذه الأفلام أنها تفسح مساحة حقيقية ومتعمدة لتقدم ما يحدث في واقعنا بشكل «تسجيلي»، داخل العمل الروائي، وتنتقل من «الخاص» المتمثل في شخصيات الفيلم إلي «العام» أي شكل وطبيعة المجتمع الذي صنع أزمة هذه الشخصيات.. لذلك فإن قيمة هذه الأعمال تتحقق فيما ترصده، وليس في أسلوب الحكي الذي يتمرد علي ما هو تقليدي، لأن أسلوبهم أو اللغة التي يستخدمونها مازالت تتلمس المفردات التي تجتذب المتفرج. المكان هو اللاعب الرئيسي في فيلم «هليوبوليس» التي هي مصر الجديدة أو مدينة الشمس عند الفراعنة،إنها حي أو مدينة تم تصميمها بشكل معماري أوروبي، ويتميز تراثها المعماري بالأعمدة الطويلة والأقواس والبوكي، وقد سكنها في البداية أبناء الطبقة المتوسطة العليا وعدد لا بأس به من الأجانب، والشخصية الأولي في فيلمنا هي إبراهيم «خالد أبوالنجا» الذي جاء إلي الحي من أجل استكمال بحث حول «الاقليات في مصر الجديدة»، ويلتقي بالسيدة اليهودية فيرا «عايدة عبدالعزيز»، التي توصيه ألا يقول لأحد عن ديانتها، فيكفي أن يعرفها الجميع بأنها أجنبية تعيش في الحي، فالمجتمع لم يعد يتقبل بتسامح أصحاب الثقافة الأخري، وربما هذا ما جعل د. هاني «هاني عادل» يفكر في الهجرة إلي كندا بعد أن هجر أسرته، ويعلن عن بيع شقته، وفي نفس الوقت لا ينتبه إلي سارة «يسرا اللوزي» جارته المعجبة به، والتي تدعوه لحضور حفلة أناشيد دينية في الكنيسة، وهنا ننتقل إلي علي ومها «عاطف يوسف - آية سليمان» في سعيهما للبحث عن شقة وتجهيز متطلباتها، ولكن زحام المرور يعوق تحركاتهما طوال الوقت، ورابع الشخصيات هي موظفة الاستقبال في فندق متواضع بالحي، أو انجي «حنان مطاوع» التي تركت بلدتها في طنطا بحلم السفر إلي باريس، فعاشت الحلم علي شاشة التليفزيون، واستسلمت لوضعها وهي تحاول أن تصنع لنفسها حياة فتتنقل مع صديقتها في أنحاء الحي، بحثاً عن حياة ما، أما آخر النماذج فهو هذا العسكري الذي يعمل في الأمن المركزي في الحراسات، ويظل «أسير» كشك الحراسة مع راديو بائس وكلب ضال. من خلال هذه الشخصيات نري «هليوبوليس» أو مصر الجديدة اليوم، الناس والمعمار والذكريات، ولا ينسي أحمد عبدالله أن يقدم جزءاً تسجيلياً خالصاً لناس تعيش في الحي، أنهم يتباكون علي الزمن الجميل، وأيام الخواجات أو الأجانب.. وفيما عدا اليهودية «فيرا» و«د. هاني» فإن كل الشخصيات ليس من سكان هليوبوليس سواء موظفة الاستقبال أو العسكري أو الباحث أو الشاب والفتاة في بحثهم عن شقة، وربما لهذا السبب أو بسبب هذا الاختيار للشخصيات خرج الفيلم ككل يرصد مسألة مجتمع مصر الجديدة الآن وعلاقته بالثقافة الأخري أو المغايرة معتمداً علي الرصد الخارجي «المعمار - ما تبقي من أجانب»، وعلي نفس المستوي يتعامل مع شخصيات فيلمه بشكل متواز ليقدم أزمتهم الخاصة، والتي يمكن أن نجدها في أي حي آخر. علي أي الأحوال، نبقي أمام حالة سينمائية مدهشة، نعم يتسرب لها الملل أحياناً، وتتلعثم وتتكرر أحياناً أخري، ولكنها تحتفظ بدرجات من الطزاجة والاختلاف في رصد أشياء من واقع، لم نتأمله جيداً أو نقرأه بشكل جاد حتي الآن، واقع غير كثيراً في سلوكياتنا، وجعل أحلامنا غير مكتملة، وتائهة، وتنتظر شيئاً ما يجعلها تتسلح بالأمل والتحقيق، وأفقدنا هذه الحميمية تجاه أنفسنا ومن حولنا الآخرين.. ثقافة أخري مختلفة تسللت وجعلتنا لا نعيش الحاضر ونترحم علي الماضي.. اننا أمام عمل هادئ، الزمن فيه يتحرك، لكن الأحداث والحياة نفسها متوقفة في إشارة مرور.