منذ وعيت علي الدنيا كنت أري والدي الفلاح -رحمه الله- يستعد لجمع محصول القطن.. وكنت اصحو مع اذان الفجر للفرجة علي الأولاد والبنات وهم في طريقهم إلي الحقول لجني القطن.. وكنت أطرب واستمتع بالأغاني والاهازيج التي يرددونها وكانت كل الاغاني تدور حول الحب والزواج ومدح «ريسهم» أو المقاول الذي يقودهم وكانوا يطلقون عليه لقب «الخولي» وكان الأولاد والبنات الذين يعملون تحت قيادة «الخولي» يعملون له الف حساب ويخافون منه!.. وكان جمع محصول القطن يتزامن مع جني محصول البلح في قريتنا وبعض القري المجاورة.. وكان الانتهاء من جمع القطن وجني البلح ايذانا ببدء موسم الافراح وزواج الاولاد والبنات، لوجود سيولة مالية لتجهيزهم ودفع المهر وخلافه ! ورغم أن جني محصول القطن كان سببا للافراح والليالي الملاح.. إلا أنه كان ايضا سببا في طلاق إحدي جاراتنا.. فقد تصادف أن حضر فريق فيلم ادهم الشرقاوي للفنان القدير الراحل عبدالله غيث والفنانة القديرة لبني عبدالعزيز لتصوير أحد مشاهده في أحد حقول قريتنا المزروعة بالقطن.. ولسوء حظ جارتنا أنها ذهبت لتشاهد طاقم الفيلم وتأخرت في العودة إلي دار زوجها فما كان من الزوج الا إلقاء يمين الطلاق عليها! هكذا كانت القرية كما عشتها في طفولتي.. محاصيل يحب الفلاح زراعتها وينتظر موعد حصادها بفارغ الصبر.. لانها كانت بالنسبة له طوق النجاة في تحقيق المكاسب ودفع الديون إن وجدت.. وكانت الجمعية الزراعية في القرية تلعب دورا في امداد الفلاح بالبذور والأسمدة والارشادات اللازمة لتنقية المحصول من اللطع ومقاومة دودة القطن وكانت الجمعية الزراعية بالنسبة للفلاح الملاذ الآمن الذي يلجأ إليه للحصول علي كل مايهم أرضه.. كانت قريتنا تزرع القطن والقمح وبعض القري المجاورة تزرع الكتان .. وكانت هذه الزراعات تستوعب الكثير من الايدي العاملة في مختلف مراحل نمو المحصول وبعد حصاده.. وكانت قرية ناهيا المجاورة لقريتنا تشتهر بزراعة نبات الكتان.. وكانوا يستخدمون عيدانه بعد تعطينها في المياه لفترة زمنية في صناعة الحبال والدوبارة وكان كل منزل امامه مشغل لزوم هذه الصناعة.. باختصار كانت الحياة تدب في قريتنا و جاراتها بسبب زراعة محاصيل معينة فلما تدخلت الدولة ومنعت زراعة بعض المحاصيل توقفت حركة الحياة تقريبا في هذه القري! تدخل الدولة حدد للفلاح المحاصيل التي يزرعها ومنعوه من زراعة محاصيل أخري مثل القطن بحجة زراعة الخضراوات لزوم غذاء أهل العاصمة! فماذا كانت النتيجة؟.. توقفت زراعة القطن والكتان وفقد الفلاح مصادر رزقه لأن المحاصيل الأخري كلها موجهة لصالح الحيوان مثل البرسيم وخلافه ومع توقف زراعة المحاصيل التي يقبل الفلاح علي زراعتها تفشت البطالة بين أهالي القري فبدأوا في تحويل اراضيهم الزراعية إلي مصانع للطوب الاسمنتي ومشروعات أخري.. واضطر بعضهم إلي بيع أرضه للبناء عليها.. وتسبب التوسع الافقي للمباني في ظهور المناطق العشوائية حول القاهرة الكبري وهكذا تضيع كل سنة مئات الافدنة من أجود الاراضي الزراعية القديمة التي يتحدث السيد وزير الزراعة الآن في الاعتماد عليها! تقلص الارض الزراعية وندرة محاصيلها وقلة العائد من وراء زراعتها دفعت الكثير من الفلاحين إلي هجرة القري إما إلي الدول العربية للعمل أو الهجرة إلي الداخل للبحث عن وظيفة في هيئة النظافة أوشركات المياه والصرف الصحي تذكرت كل هذه الاشياء وأنا اتابع وقائع ما يسمي بمؤتمر الحزب الوطني السنوي والوعود التي اطلقوها بأنهم سيفعلون كذا وكذا من أجل الفلاح! وذكرتني هذه الوعود بتلك التي يطلقها كل المرشحين لعضوية مجلس الشعب في مولد الانتخابات وينفض المولد ويذهب من نجح وفاز بالعضوية ولايراه أهل الريف إلا بعد أربع سنوات!.. وتذكرت ايضا كلام الاغاني عن الفلاح المصري.. فكل من يستمع إلي هذه الأغاني يتخيل الفلاح وكأنه يرفل في النعمة ويعيش في بجبوحة ولاينقصه شيئا فهو تارة «فايت بيغني من جنب السور- سور شريفة فاضل طبعا. ويراها وهي تقطف الورد وتجمعه في طبق بنور ولهذا فهو «متهني قلبه ومرتاح» كما يقول الموسيقار الراحل محمد عبدالوهاب.. وما أكثر كلام الاغاني وما اكثر الذين يغنون للفلاح والذين يغنون عليه!. نجاح الصاوي