الخلافة صالحها وطالحها مجرد واقعة دنيوية تاريخية موقوتة بزمانها وظروفها، وليست أصلا دينيا ولا اعتقاديا، تماما كتقديس الملكية الخاصة، واعتبارها زورا من أصل الدين، مع أن المالك الأصيل فى الإسلام هو الله وحده، والإنسان مجرد «مستخلف» فيما يحوز، ولا شىء فى الإسلام يحظر تأميم الملكيات «الخاصة» متى اقتضت المصلحة، و«الناس شركاء فى ثلاث: الماء والكلأ والنار» كقول رسول الله، ولا يجوز بيع ولا شراء ولا توريث ولا تخصيص الأراضى الزراعية «الخراجية» باجتهاد عمر بن الخطاب والصحابة الأولين.. ليس فى العنوان أعلاه أى خطأ مطبعى، فقد قصدت عمدا وضع كلمة «الدنيوى» محل وصف «الدينى» فى العبارة التى صارت مألوفة جداً، ويرددها الكل بحماس لافت، ومن أول الرئيس عبد الفتاح السيسى، وإلى مشايخ الأزهر والأوقاف، وإلى زرافات المثقفين والإعلاميين، وبنوايا تبدو صافية فى عناوينها، ومسكونة بالشياطين فى تفاصيلها . وقد أبدى الرئيس السيسى عدم رضاه عن طريقة تناول قضية «تجديد الخطاب الدينى» فى الإعلام، وهو على حق، فقد جرى تحريف الكلم عن مواضعه، والإساءة لدعوة الرئيس، وتصويرها كما لو كانت ثورة على الدين، وليست ثورة فى الدين، ولا ثورة من أجل الدين كما رغب الرئيس، واستنقاذ واسترداد الإسلام من أيدى خاطفيه الإرهابيين، والذين يريدون الظهور فى صورة حماة الدين، بينما هم من المهلكين الهالكين، وقد «هلك المتنطعون» كما يقول النبى عليه أفضل الصلاة والسلام، وهلك المفرطون أيضا، فالتجديد شىء آخر غير التبديد، التجديد هو إعادة الشىء لأصله، ولا تلزمه مناظرات «بحيرى» ولا«نهيرى»، ولا «عنعنات» مشايخ الأزهر والأوقاف، فليس فى الإسلام سلطة دينية، ولا اختصاص حصرى بالتوجيه والإرشاد، ولا مذاهب ولا فرق ولا جماعات ولا أئمة مقدسون، وكلها موضوعات جدال لا ينتهى، فهى من أفهام الناس المتغيرة، هى من الفهم الدينى الموسوم بمواصفات زمانه ومكانه، ولا يبقى ثابتا سوى الدين فى أصله، لا يبقى ثابتا سوى القرآن الكريم والسنة النبوية المصدقة المتواترة، وما عدا ذلك فهو ركام، قد يطمس بعضه الأصل المقدس، ويترك الناس فى الحيرة والبلبلة . نعم، هكذا هو الإسلام، فى بساطته وصدقه وقوة إقناعه، فالدين ليس من شأننا ولا من اجتهادنا، الدين هو القرآن وسنة نبيه، وما عدا ذلك فهو كلام دنيوى تماما، حتى لو تعلق بالتفسير والتأويل، ويختلف باختلاف الزمان والمكان والظروف، فالقسمة إلى سنة وشيعة كلام دنيوى، والقسمة على أربعة أو خمسة أئمة ومذاهب كلام دنيوى، وتصديق «البخارى» أو تكذيبه كلام دنيوى، وقد توقف الكلام الدنيوى فى الدين مع نهاية القرون الأربعة الأولى بعد الهجرة، توقف الاجتهاد الدنيوى من وقتها بأمر سلطانى، أى أننا بصدد عشرة قرون وتزيد، لم يضف فيها إلى الجهد من مزيد، وصرنا عالة على اجتهادات تقادمت وتآكلت، صرنا فى غربة معرفية عن الكثير من موضوعاتها، فقد تغيرت الدنيا وتغيرت الأسئلة، وزالت موضوعات كانت قائمة وقت الاجتهاد، واستجدت موضوعات لا قياس فيها ولا عليها، وتتطلب تجديدا فى الخطاب الدينى بجانبه الدنيوى، فنحن لا نناقش الإسلام كعقيدة ولا كشريعة، نحن فى وضع الإيمان والتسليم بقداسة قرآنه وسنة نبيه، و ما نناقشه هو الإسلام كدين ودنيا، وعملا بقول رسول الله «ما كان من أمر دينكم فإلى . وما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم به» . وفى الإسلام الشامل كما نفهمه دائرتان متداخلتان، دائرة الشمول الإلزامى، ودليلها النص المقدس القطعى الدلالة، أى الآيات القرآنية المحكمة قطعية الدلالة، والأحاديث النبوية قطعية الدلالة قطعية الورود، وتتداخل دائرة الشمول الإلزامى مع دائرة أوسع أسميها «الشمول التوجيهى»، وتتضمن قيما إسلامية عامة مجردة كالتوحيد والعدالة والمساواة وأولوية الجماعة، ومركز دائرة «الشمول التوجيهى» هو العقل الإنسانى، والتفكير المبدع المتفاعل مع متغيرات الزمان والمكان، إضافة لأولوية العقل الإنسانى فى فهم النص المقدس، وفى تنزيل الأحكام على الواقع، وهو ما عرفته سيرة الإسلام فى صدره الأول، وقبل أن يتفرق الناس شيعا فى مستنقعات الفتن والمذاهب والفرق، فقد حكم عمر بن الخطاب رضى الله عنه بعد سنتين من وفاة الرسول، واجتهد «الفاروق» فى تنزيل الأحكام المقضى بها فى القرآن ذاته، ومن ذلك وقفه لسهم «المؤلفة قلوبهم» فى مصارف الزكاة، ووقف سهم «الرسول وقرابته» فى توزيع فئ الغزوات، فضلا عن المثال المشهور لإيقافه تطبيق «حد السرقة» فى «عام الرمادة»، ولم يقل أحد حاشا لله أن عمر بن الخطاب خرج عن صحيح الإسلام، وكان على بن أبى طالب، وهو الذى قال فيه النبى «أنا مدينة العلم . وعلى بابها»، كان الإمام على يصف القرآن بأنه «حمال أوجه»، ويقول «إن القرآن ينطق بالرجال»، ولم يكفر أحدا ممن نازعوه أمر الخلافة، وحاربوه بالسيف وبخديعة التحكيم، وكان يقول وهو فى حومة الوغى، يتفرق عنه أصحابه ويكفره الخوارج، كان رضوان الله عليه يقول «لقد التقينا . وربنا واحد. ونبينا واحد. ودعوتنا إلى الإسلام واحدة»، أى أنه اعتبر النزاع على الخلافة شأنا دنيويا لا دينيا، وترك حسابه وحساب مخالفيه لله رب العالمين. هذا هو الأصل الصافى للإسلام، والذى يدلنا على المقصود بفكرة التجديد، أى استعادة الأصل، وإزاحة الركام والغبار عن الوجه المضئ للإسلام، وإطلاق العنان لحيوية العقل الإنسانى، والذى يجتهد فى تنزيل الأحكام القرآنية على الواقع المتغير، فضلا عن دوره الأصيل فى عمارة الدنيا، وفى صياغة نظريات السياسة والاقتصاد، وبما لا يخالف فيها إسلامية سامية كالعدالة والتوحيد، فالدنيا فى الإسلام مزرعة الآخرة، والفرصة المتكافئة أساس الثواب والعقاب فى الآخرة والدنيا، فالله هو «العدل» المطلق، والإسلام فى كلمة هو «العدل»، وليس الجمود على اجتهادات الأقدمين، ولا التوقف عندها، فقد كان الكثير منها مجرد اجتهادات دنيوية لأصحابها، ومفهومة بظروف زمانهم ومكانهم، ومن نوع ما أسموه «السياسة الشرعية»، ونظريات دار الحرب ودار الإسلام، أو ضرورة إقامة دولة خلافة جامعة للمسلمين، أو البحث عن خليفة «قرشى» أو ما شابه، وكلها آراء دنيوية نسبت ظلما إلى أصل الدين، فالخلافة صالحها وطالحها مجرد واقعة دنيوية تاريخية موقوتة بزمانها وظروفها، وليست أصلا دينيا ولا اعتقاديا، تماما كتقديس الملكية الخاصة، واعتبارها زورا من أصل الدين، مع أن المالك الأصيل فى الإسلام هو الله وحده، والإنسان مجرد «مستخلف» فيما يحوز، ولا شىء فى الإسلام يحظر تأميم الملكيات «الخاصة» متى اقتضت المصلحة، و«الناس شركاء فى ثلاث: الماء والكلأ والنار» كقول رسول الله، ولا يجوز بيع ولا شراء ولا توريث ولا تخصيص الأراضى الزراعية «الخراجية» باجتهاد عمر بن الخطاب والصحابة الأولين، وتلك مع غيرها موضوعات الناس التى يلزم فيها تجديد الخطاب «الدينى»، أو قل: تجديد الخطاب «الدنيوى» إن شئت الدقة. هل خسرنا؟ هل خسرت مصر بمشاركتها فى عملية «عاصفة الحزم» التى قادتها المملكة السعودية؟. الجواب عندنا، أن مصر كسبت الجولة، فقد شاركت بحساب دقيق، شاركت جويا وبحريا بثقل معقول، وبأولوية مصالحها الحيوية عند مضيق باب المندب، وردع التوحش الإيرانى عند حدود مصر البحرية، وغلق المجالين الجوى والبحرى لليمن، حفظا لخصوصيته العربية، ومنعا لاستخدام أراضيه كقاعدة انطلاق إيرانية لتهديد كيان السعودية ودول الخليج الحليفة لمصر، والمشاركة فى المشروع المصرى لبناء حلف عسكرى وقوة عربية مشتركة. شاركت مصر جويا وبحريا، ولم تتحمس أبدا لحملة برية على أراضى اليمن، ولأسباب ظاهرة جدا، فليس من طرف يمنى يستحق التدخل معه لردع الآخرين، و«الحوثيون» جزء من الشعب اليمنى، ومن حقهم أن يشاركوا فى تفاعلات اليمن، وربما فى حكمه، ولكن دون أن يتحولوا إلى مخلب قط لإيران، والآخرون غير الحوثيين ليسوا أفضل كثيرا، فالجماعات الوطنية الحية من نوع التنظيم الناصرى والحزب الاشتراكى وشباب الثورة ليسوا ثقلا راجحا فى الساحة اليمنية الآن، ولادور لهم فى حروب السلاح، والجماعات الأخرى المسلحة أشبه بفرق المرتزقة، وسواء كانوا من جماعة على عبد الله صالح، أو من حزب الإصلاح (الإخوانى) وآل الأحمر، أو من جماعات الإرهاب الوحشى الصريح على طريقة «القاعدة» و«أنصار الشريعة» و«داعش» وأخواتها، أضف إلى ذلك «مشيخات» القبائل، وهؤلاء يحاربون بحسب التقلبات، وبحسب دفاتر الشيكات، فى بلد جبلى ومسلح بطبعه، وفيه ستين مليون قطعة سلاح. والصورة اليمنية ظاهرة المعنى، فوجود قوات عربية برية لا يلجم مخاطر الحرب الأهلية فى اليمن، بل ربما يفاقمها، ويوفر لها مزيدا من الأسباب والحوافز والذرائع، وبغير هدف إيجابى ملموس لعملية قهر الحوثيين، فقد يكون هؤلاء جماعة متخلفة فكريا واجتماعيا، وهذا صحيح، لكن الصحيح أيضا أن خصومهم المسلحين أكثر تخلفا، وقد تتحول عملية الخلاص من الحوثيين إلى كارثة حقيقية، تتحول فيها اليمن إلى مغناطيس جاذب لإرهاب «داعش» بالجملة، وبدعوى الحرب ضد الحوثيين الشيعة (الكفرة)!. ونظن أن السعودية هى الأخرى، أدركت مخاطر التدخل والاجتياح البرى، وأوقفت عمليات «عاصفة الحزم» عند الحد المدروس، وحتى لا ينقلب السحر على الساحر، وتجد نفسها ضحية لجوار خطر «داعش»، وهو خطر أفدح بمراحل من خطر «الحوثيين» .