لا نريد تبعية لإيران، ولا نريد فى الوقت نفسه عداوة عمياء لإيران، تصل إلى حد مقاربة الخطر الإيرانى لخطر كيان الاغتصاب الإسرائيلى، وربما تحل الكراهة الطارئة لإيران محل العداء الأصلى لإسرائيل، وهذه خطيئة عقلية وقومية ونفسية كبرى، فإيران جزء لا يتجزأ من نسيج المنطقة وعالمها الإسلامى، بينما إسرائيل كيان مصطنع مفروض بالقوة. ولا يعنى ما نقوله، إننا نهون من الخطر الإيرانى، أو نقلل من الدور الإيرانى الذى وصل إلى درجة التوحش، ويمشى كالسكين فى زبد هوان وفراغ عربى موحش، تطاول عقودا طويلة مريرة، بدت فيها إيران كأنها تكسب كل أرض يتركها العرب من ورائهم، وفى أراضيهم وأقطارهم ذاتها، فالحياة لا تعرف الفراغ، وكل فراغ تتركه خلفك يحتله غيرك، وقد احتل النفوذ الإيرانى أقطارا عربية وراء أقطار، ومد الجغرافيا الإيرانية عمليا واستراتيجيا إلى شاطئ البحر الأبيض المتوسط، عبر التحكم فى عواصم المشرق، من بغداد إلى دمشق فبيروت، ثم استدار النفوذ الإيرانى عبر قوس الخليج فبحر العرب إلى باب المندب، وأحاطت إيران بكتلة دول الخليج، من قاعدة الارتكاز فى البحرين ذات الأغلبية الشعبية، وإلى صنعاء التى سيطر عليها الحوثيون فى حروب اليمن المنكوب، والمحصلة أن النفوذ الإيرانى صار الأقوى بامتياز فى الخليج والمشرق العربى. وتفشى الهيمنة الإيرانية فى الخليج والمشرق، لايعنى أن طهران صارت تتحكم وحدها فى المنطقة، ولا أنها ضمتها نهائيا إلى امبراطوريتها الفارسية الجديدة ذات العنوان الشيعى، بل يعنى إنها تتقدم فى صراع الغرباء على المنطقة العربية، والتى تتناوشها مخاطر أخرى أسبق تاريخيا، أهمها الخطر الأصلى القادم من كيان الاغتصاب الإسرائيلى، والمندمج استراتيجيا مع الدور الأمريكى الراعى لعواصم الخليج بالذات، والتى تعوم على أكبر مخازن واحتياطيات البترول فى الدنيا كلها، وتقوم على أراضيها أكبر القواعد العسكرية الأمريكية، وتذهب فوائضها المالية التريليونية إلى البنوك الأمريكية والغربية عموما، وتشكل أكبر مستورد للسلاح الأمريكى فى العالم، فهى الفرخة التى تبيض ذهبا لواشنطن، وتسند الاقتصاد الأمريكى، وتقيله من تعثراته المزمنة، وتعينه على التحكم فى دورة الطاقة، وتحديد أسعار البترول والغاز الطبيعى، وبما يمكن واشنطن من إرهاق منافسيها وخصومها فى صراعات الاقتصاد والسلاح على القمة الدولية، وفى ترويض القوة الإيرانية الطالعة، واحتواء مشروعها النووى والعلمى والعسكرى والسياسى. وفى غيبة مشروع عربى ناهض فى سباق العصر، وفى غيبة مصر بالذات، توسع وتوحش المشروع الإيرانى بصيغته الفارسية الطائفية، فقد كان عام 1979 هو سنة التحول الكبرى، فيه جرى عقد ما يسمى بمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، وفيه قامت ثورة الخمينى فى طهران، وأدت المعاهدة المشئومة ومضاعفاتها إلى ما انتهينا إليه، فقد انكمشت مصر إلى داخل حدودها الجغرافية، وتوارى الدور المصرى المحكوم بأقدار الجغرافيا والتاريخ، والذى لايتيح دورا لمصر بغير شروطه، وأهمها أن الحدود السياسية لمصر أبعد كثيرا من حدودها الجغرافية، وأن حدود الدور المصرى هى ذاتها حدود الأمة العربية جغرافيا، وهو ما حدث عكسه بالضبط على مدى قرابة الأربعة عقود الأخيرة، فقد فقدت مصر دورها فى عالمها العربى الواسع، ثم أنها فقدت نفسها مع فقدان دورها، وجرى استتباعها للهيمنة الأمريكية المعممة عربيا، وإضعاف جيشها ونزع سلاح «سينائها»، وتجريف قلاعها الصناعية، وجعلها رهينة لشروط المعونة الأمريكية الضامنة للمعاهدة المشئومة مع إسرائيل، وهكذا خرجت مصر من سياق التأثير الفعال فى حوادث المنطقة وتفاعلاتها، فيما مضت إيران الفارسية الشيعية فى الاتجاه المعاكس، وحلت محل مصر فى دعم حركات المقاومة اللبنانية والفلسطينية على جبهة الصدام مع إسرائيل، وطورت قدراتها الصناعية والعسكرية والصاروخية والنووية، وحققت قفزات هائلة فى التطور والابتكار العلمى والتكنولوجى، وإلى حد أن بحوث إيران المحكمة عالميا صارت تفوق بعشرة أمثال على الأقل ما تنتجه أقطار الدنيا العربية كلها، فقد توافرت لطهران نعمة استقلال القرار والتخطيط الذاتى، ثم أنها حولت العقوبات الأمريكية والدولية المفروضة عليها من نقمة إلى نعمة، أفادتها بداعى الحاجة الملحة إلى استنفار قواها الذاتية، وأفادتها فى الظهور على صورة الدولة المتحدية للهيمنة الأمريكية وكيان الاغتصاب الإسرائيلى، ثم أفادها الفراغ والاستخزاء العربى، فلم يكن ممكنا أن تسقط بغداد تحت الاحتلال العسكرى الأمريكى، لولا أن القاهرة سقطت تحت الاحتلال السياسى الأمريكى قبل سقوط بغداد بربع قرن، ولم يكن ممكنا أن تغزو أمريكاالعراق بريا، لولا سلاسل القواعد الأمريكية على شواطئ الخليج العربى، والتى وصلت إلى حد اقتطاع نصف أراضى دولة عربية خليجية، وجعلها قاعدة أمريكية، وهكذا وضع العرب أراضيهم وأجواءهم وشواطئهم فى خدمة عملية أمريكا لتدمير العراق، ثم فى خدمة النفوذ الإيرانى فى النهاية، فقد رحلت القوات الأمريكية تحت ضغط ضربات المقاومة العراقية المسلحة، وتحت ضغط إنهاك واستنزاف أموالها ودماء جنودها، وكان طبيعيا أن تملأ إيران القوية المجاورة فراغا صادفها فى العراق، وأن تحول أراضى العراق إلى امتداد طبيعى للدولة الإيرانية، فوق علاقات وثيقة نسجتها بدأب مع جماعة الأسد فى دمشق، جعلتها المحارب الأول فى الحرب الأهلية السورية الراهنة، وجلبت إليها جماعات إيرانالعراقية، وجيش حزب الله اللبنانى الموالى عقائديا لمرشد الثورة الإيرانية، فى حين بدت أموال العرب وملياراتهم على الضفة الأمريكية المهزومة المتراجعة، وفى خدمة خطط إنشاء وتمويل الجماعات الإرهابية من «جيش الإسلام» إلى «جبهة النصرة» و»خلافة داعش»، والتى تؤدى دورها المرسوم فى خدمة إسرائيل موضوعيا، وتقوم نيابة عن إسرائيل بتفكيك الأديان والأوطان، وبدعم ظاهر من الخليفة (العثمانلى) رجب طيب أردوغان وحكومة حلف الأطلنطى فى أنقرة . وزاد الطين بلة، أن حكومات عربية غنية، وجماعات شعبية تقول إنها إسلامية، وقعت فى الفخ الذى نصبته أمريكاوإيران، وصورت القصة كلها كحرب طائفية، وأن المطلوب هو حرب سنية ضد إيران الشيعية، والتحقت بخدمة الهيمنة الأمريكية من الباب الطائفى بالذات، وكأن أمريكا زعيمة السنة، بينما إيران زعيمة الشيعة عربا كانوا أو غير عرب، وحققت الفكرة اللئيمة كل هذا الدمار الذى نشهده الآن فى المشرق العربى بالذات، وبتركيبه الفسيفسائى مفرط الطوائف، والذى راح ضحية ما أسموه بالحرب السنية الشيعية، وهى سياسة استعمارية قديمة متجددة، لعبت على أوتارها الإمبراطورية البريطانية فالإمبراطورية الأمريكية الوارثة، ودمرت بها العراق إلى حد الإفناء الكامل لوحدته الوطنية، فقد كان العراق زمن صدام حسين يحارب إيران الشيعية، وكان غالب جنود جيشه من الشيعة العراقيين، وحاربوا جيش الخمينى بصفتهم الوطنية كعراقيين وكعرب، ولم يكن يخطر فى البال، أن يتحول شيعى عراقى وطنى إلى «التابعية» الإيرانية، ولمجرد أنه شيعى، وهى الحالة التى سادت أو تكاد فى عراق اليوم الممزق، وبجهد الاحتلال الأمريكى فى الأساس، والذى أضيفت إليه أصوات ضالة من المحيط العربى السنى، جعلت الحرب ضد الشيعة واجب الوقت المقدس، ونزعت عن الشيعة العرب إسلامهم وعروبتهم، ودفعتهم دفعا إلى أحضان إيران الفارسية، والتى دعمت ورحبت بانقلاب الهويات خدمة لمشروعها القومى الفارسى، فإيران دولة متعددة القوميات، وضمت إليها أراضى عربية واسعة غنية فى «الأحواز» وجزر الإمارات زمن الحكم الشاهنشاهى، وبتآمر مباشر من الاستعمار البريطانى القديم، ضمت واحتلت الأراضى العربية قبل ثورة الخمينى، ثم هى تضم الآن إلى حوزتها سكانا عربا يقيمون فى أقطارهم، وبدعم مباشر من الاستعمار الأمريكى، إضافة للدعم غير المباشر من حكام عرب وجماعات إسلامية سنية عربية، فالتشيع هو الصيغة «القومية» الأنفع لإيران متعددة القوميات، والتى لا يشكل الفرس فى سكانها سوى أقل من أربعين بالمئة، بينما التشيع هو الجامع الأكبر بين كل قومياتها، وهو الذى يحول الشيعة العرب إلى رصيد إضافى جاهز لخدمة التوسع والتوحش الإيرانى فى المنطقة . والمحصلة إذن أن حروب السنة والشيعة الضالة لا تخدم سوى إيران، فضلا عن نفعها المؤكد لكيان الاغتصاب الإسرائيلى، ولا حل لمواجهة الخطرين بغير رد الاعتبار للمشروع القومى العربى، وبغير أولوية الدور المصرى العائد بعد طول الغياب، والمبرأ بطبيعته من شبهات ونزعات الطائفية المقيتة، ولسبب موضوعى جدا، هو أن مصر بلد عظيم التجانس، وليست بلد طوائف ولا مذاهب مغلقة، ومصرية مصر هى ذاتها عروبة مصر.