يعرف العرب جميعا كيف استغلت الحركة الصهيونية محرقة اليهود على أيدى ألمانيا النازية فى زرع عقدة الذنب لدى الأوروبيين ثم توظيفها للدفع نحو إقامة وطن قومى لليهود على أرض فلسطين وعلى حساب شعبها، لكن قليلا من يقبلون بأن إنكار قصة المحرقة أو الهولوكوست أو الاستخفاف بها لا يعود على العرب أو الفلسطينيين إلا بمزيد من التعاطف الأوروبى الأمريكى مع إسرائيل ويزج بهم فى طاحونة «معاداة السامية»، ودليلا مضافا يؤكد رغبتهم فى القضاء على ما يدعى بالدولة اليهودية ولا يغير فى ذلك القول بأن العرب أيضا ساميون لأن الاتهام هو سيف مسلط على كل من تسول له نفسه انتقاد ساسات إسرائىل وجرائمها المتزايدة. إن هيئات عربية ودولية عديدة بصدد توثيق جرائم الحرب الإسرائىلية فى غزةوفلسطين، المحكمة الجنائية الدولية أبدت استعدادا للتحقيق فى جرائم إسرائيلية سابقة فى غزة عام 2002، وربما يكون من المفيد أن يتحول هذا التجمع إلى تحالف دولى يقوم بوضع جرائم الحرب والإبادة الجماعية والتطهير العرقى ماضيها وحاضرها فى الإطار التاريخى والقانونى الصحيح وملاحقة مرتكبيها والكشف عنهم وإقامة الدعاوى القضائية ضدهم، وإلا يقتضى الأمر على ملاحقة جرائم النازية وحدها. من المهم بداية الاعتراف بأن المحرقة اليهودية أو الهولوكوست جريمة تاريخية حقيقية ارتكبها النظام النازى ضد اليهود وأيضا الرومان «الغجر فى البلقان ووسط وشرق أوروبا» والصرب فى فترة الحرب العالمية الثانية، المشكلة التى يواجهها العرب وغيرهم فى التعامل مع قصة المحرقة هى أنهم يرفضون الابتذال الصهيونى لهذه الجريمة لتبرير جريمة الهجمة الاستعمارية الصهيونية الشرسة على أرض فلسطين وطرد شعبها لإقامة دولة إسرائيل عليها. والمشكلة الأخرى هى أن بعض ضعاف المثقفين والمؤرخين ذهبوا إلى التشكيك فى قصة المحرقة أصلا استنادا إلى تضارب الأرقام فى عدد ضحاياها، والتى تعد الدوائر الصهيونية والمشايعين لها على أنه ستة ملايين يهودى، وفى تقرير هؤلاء أن هذا العدد من اليهود لم يكن موجودا أصلا فى أوروبا كلها فى ذلك الوقت، وذهب البعض الآخر إلى أن أوروبا لم يكن لديها من غاز «السيانيد» ما يكفى لقتل كل هذا العدد، وهو فى رأيهم دليل آخر على كذب الرواية، وهم فى الحالتين يخطئون الهدف، فلا التشكيك فى عدد الضحايا يمحو عقدة الذنب الأوروبية والتعاطف مع إسرائىل، ولا نفى الرواية من أصلها يعيد أرض فلسطين المسلوبة إلى أصحابها. هناك خطأ منهجى فى التعامل مع رواية الهولوكوست إن عدد الضحايا فى حد ذاته على أهميته من الناحية الإنسانية لا يثبت أو ينفى وقوع جريمة إبادة جماعية عرقية، وإذا كان العدد نصف ذلك فقط فإنه لا ينفى الجريمة، كيف إذن نصنف جريمة قتل 800 ألف من قبائل التوتسى فى رواندا عام 1994 على أيدى خصومهم من قبائل الهوتو.. وهل يرقى إعدام الرجال والشباب من المسلمين فى سيربرنتسا فى يوغسلافيا السابقة عام 1995 على أيدى قوات صرب البوسنة تحت إمرة رادوفان كاراجيتش إلى مستوى جريمة الإبادة الجماعية رغم أن عدد الضحايا لم يتجاوز ثمانية آلاف من مسلمى البوسنة؟ الأصل الجنائى فى كل هذه الجرائم هو استهداف مجموعات من البشر بالتصفية الجسدية بسبب الجنس أو الأصل العرقى أو التاريخ الحضارى أو الدين أو الميول السياسية، وبصرف النظر عن عدد الضحايا 8 آلاف مسلم أو 800 ألف من التوتسى أو مليونان من الأرمن من رعايا الدولة العثمانية فى بداية القرن العشرين، أو ستة ملايين يهودى فى ألمانيا النازية والأراضى التى اجتاحتها فى الحرب العالمية الثانية. إن إسرائيل تحميها الحركة الصهيونية العالمية نجحت فى أن تحيط قصة المحرقة بهالة قدسية محرم على أى شخص أن يمسها بالبحث أو التقصى أو مجرد الاستفسار. والغرض هو وضع الهولوكوست خارج سياق التاريخ كحدث فريد ينبغى ألا يخضع لمنهج البحث والتحليل التاريخى المعتمد، وقد ذهب الهوس فى المحافظة على قدسية الهولوكوست إلى حد سن قوانين فى 12 دولة أوروبية تعتبر إنكار وقوع المحرقة جريمة يعاقب مرتكبها بالسجن. وعلى رأس هذه الدول فرنسا التى رفض رئيسها الحالى نيقولا ساركوزى الاعتذار عن جرائم الإبادة الجماعية، التى ارتكبها الاستعمار الفرنسى فى الجزائر، ومنها أىضا ألمانيا والنمسا، التى أصدرت إحدى محاكمها منذ عامين حكما بالسجن لمدة ثلاث سنوت على المؤرخ البريطانى ديفيد إيفنج لأنه أنكر وقوع الهولوكوست فى مجموعة من المحاضرات كان قد ألقاها قبل سنوات. إنكار الهولوكوست إذن لا يخدم القضية الفلسطينية ولا يصب إلا فى مصلحة إسرائيل وتبرير جرائمها لإبادة الشعب الفلسطينى، وربما كان من الأنسب الاعتراف بهذه الجريمة كحقيقة تاريخية ووضعها فى السياق التاريخى الصحيح كجريمة إبادة جماعية مثل جرائم الحرب والإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية والتطهير العرقى، ويتولى تحالف دولى محايد مهمة التحقيق والتوثيق والاتهام ولا تنفرد بذلك منظمة مثل «سايمون مينستال»، التى تخصصت فى ملاحقة مجرمى النازية والعمل فى نفس الوقت على الحفاظ على الهالة القدسية التى تحاط بها جريمة الهولوكوست، بعيدا عن متناول البحث والتدقيق التاريخى، وربما يكشف هذا السياق التاريخى للعرب وللعالم حجم ومدى الجرائم المنظمة، التى ارتكبتها المنظمة الصهيونية والعالمية على غزة. وربما آن الأوان لكى ينقلب السحر على الساحر. إن آخر استطلاع للرأى جرى لحساب منظمة «مشروع إسرائيل» فى الولاياتالمتحدة أسفر عن أن إسرائيل ما زالت تتمتع بتأييد قوى عند الأمريكيين، ولكن شعبيتها تراجعت عن أعلى مستوى بلغته منذ ست سنوات حين وصلت وقتها إلى 69٪، هبطت فى الاستطلاع الأخير إلى 57٪، كما اتضح أن نسبة من يعتقدون أن على الولاياتالمتحدة دعم الفلسطينيين قد ارتفعت من 6 إلى 9٪، وكان العنصر الفارق فى هذا التراجع بالنسبة لإسرائيل هو حربها على قطاع غزة. على أن المغزى الأكبر للاستطلاع هو اتساع الرقعة الرمادية للرأى العام الأمريكى، حيث بلغت نسبة من لا يؤيدون إسرائيل أو الفلسطينيين 34٪، وهو فى المعادلة الإحصائية يعد خصما أكبر من رصيد التأييد لإسرائيل بالمقارنة للفلسطينيين. إن التاريخ لا يقف جامدا عند نقطة واحدة من الأحداث حتى ولو كانت فى مثل قدسية الهولوكوست، فمنهج التاريخ دائب الحركة والبحث والتحليل وكثيرا ما يقلب الحقائق إلى نقيضها ويكتشف بالبحث العلمى الموثق ما قد يغير ثوابت التاريخ. والاعتراف بالهولوكوست وتقنينها لا إنكارها تاريخيا هو المدخل الصحيح نحو مشروع قومى عربى دولى لتوثيق جرائم الإبادة الجماعية وصولا إلى جريمة إبادة الشعب الفلسطينى، التى لم تكتمل فصولها بعد، وقد أظهرت تصريحات بعض الساسة الإسرائيليين مؤخرا وعلى رأسهم افيدور ليبرمان رئيس حزب «إسرائيل بيتنا» العنصرى، وكذلك الفتاوى التى أصدرتها حاخامية الجيش الإسرائيلى بشأن مشروعية عملية «الرصاص المصبوب»، التى انطوت على قتل المدنيين الفلسطينيين فى غزة أن إسرائيل ماضية فى خطة لا تقبل الشك لتطبيق نظرية «الحل النهائى» النازية الصهيونية على شعب فلسطين، وإن كانت الأساليب أكثر دهاءً.