تباينت ردود فعل قضاة وشيوخ قضاة مجلس الدولة تجاه القرار الذى أصدره المجلس الخاص برئاسة المستشار محمد الحسينى، رئيس المجلس، أمس الأول، بقبول تعيين قاضيات لأول مرة فى تاريخ سلك القضاء الإدارى. وتحديدا بعد 56 عاما من صدور مبدأ قانونى من الدائرة العليا لمحكمة القضاء الإدارى، والتى كان يترأسها آنذاك المستشار عبدالرزاق السنهورى، الرئيس الأسبق للمجلس، برفض تعيين د.عائشة راتب، وزيرة الشئون الاجتماعية فيما بعد، فى وظيفة مندوب مساعد بالمجلس رغم حصولها على أعلى الدرجات بين خريجى كليات الحقوق. قامت د. عائشة فور تخرجها عام 1949 برفع دعوى قضائية ضد قرار استثنائها من التعيين، ورغم أنها أكدت فى تصريحات صحفية سابقة أن السنهورى كان متحمسا لتعيينها ومعجبا بنشاطها، إلاّ أنه بحث فى الأصل القانونى لتعيين المرأة قاضية، ولم يكتف بالفصل فيها من خلال المحكمة التى كان يترأسها، بل أحال القضية إلى ما كان يعرف ب«دائرة الدوائر» (تشبه المحكمة الإدارية العليا حاليا) والتى قررت بإجماع الآراء عام 1953 رفض تعيين راتب فى مجلس الدولة. توجهت راتب إلى السلك الجامعى، حيث باتت أول معيدة فى كلية الحقوق، ثم أول سفيرة لمصر فى الخارج، وأول وزيرة فى عهد الرئيس السادات، وبقى الحال فى مجلس الدولة على ما هو عليه من حيث رفض تعيين الإناث، حتى ظهرت أولى مؤشرات بحث هذا الأمر عام 2003. عقب قرار تعيين المستشارة تهانى الجبالى كأول قاضية فى مصر ونائبا لرئيس المحكمة الدستورية، لكن إدارة المجلس تراجعت عن الموافقة عدة مرات لأسباب مختلفة، ثم أعيد طرح المشروع عام 2007 ليواجه بعاصفة من الرفض قادها عدد من أعضاء المجلس الخاص، أعلى سلطة إدارية بمجلس الدولة. كما كان لنادى قضاة المجلس موقف صلب إزاء هذا الطرح، حيث أصدر بيانا بأغلبية أعضاء مجلس إدارته يرفض فيه التحاق النساء بالعمل فى المجلس، وطالب المستشار السيد نوفل، رئيس المجلس الأسبق، بالأخذ بفتوى صادرة عن مجمع البحوث الإسلامية ترفض عمل المرأة فى منصب القاضى، وإن كانت هناك فتاوى أخرى أحلت تعيينها فى «مناصب قضائية مختلفة» بعيدا عن المنصة. واستطلعت «الشروق» آراء عدد من شيوخ القضاة ورؤساء مجلس الدولة السابقين، فظهر تقارب شديد بين عدد المعارضين والموافقين على القرار، وتلخصت أسباب الرفض فى عدم صلاحية المرأة للعمل كقاضية حيث لم تشهد العصور التى طبقت فيها الشريعة الإسلامية ذلك، فيما كانت أبرز أسباب الموافقة اتجاه الدول المتحضرة للمساواة بين الرجال والنساء فى المناصب القضائية، واتساع الاستعانة بالنساء فى الهيئات القضائية بالخليج. فى البداية قال المستشار عادل فرغلى، ثانى أقدم نائب لرئيس مجلس الدولة ورئيس محاكم القضاء الإدارى، إنه يرفض التحاق المرأة بالعمل فى القضاء، وذلك لأن نظر القضايا يتطلب أن يتعايش القضاة مع القانون وأن يتقمصوا شخصيات القضية ويعيشوا أدوارها بالكامل بغية الوصول إلى الحكم الأقرب إلى العدالة والحقيقة، وإذا أدت المرأة هذا الدور فلن تؤدى واجبها كزوجة أو أم فى بيتها، وهى رسالة أقدس وأسمى من القضاء، فى رأى فرغلى. وواصل كلامه: سنكون أمام واقع من اثنين، إما أن تهمل المرأة بيتها من أجل القضاء، أو أن تهمل القاضية عملها من أجل بيتها وأطفالها، وبالتالى ستمثل حملا زائدا فى العمل على زملائها الرجال، أو سيتم توظيفها فى المكاتب الفنية للمحاكم أو الوظائف ذات الطابع الإدارى فقط دون تحمل مسئولية حقيقية، كما أن قبول عدد كبير من الشابات الخريجات لأداء المقابلات الشخصية تمهيدا للعمل بالمجلس سيفتح بابا واسعا للوساطة والمحسوبية، وهو مازلت أرفضه حتى الآن. أما المستشار محمد حامد الجمل، رئيس مجلس الدولة الأسبق (1990 1993) فأوضح أن المبدأ القانونى الذى سار عليه المجلس على مدار تاريخه قضى برفض تعيين النساء فى الوظائف القضائية لعدة أسباب، أولها أن الوظيفة العامة متاحة للذكور والإناث بشرط وجود الكفاءة والصلاحية العقلية والمهنية والجسدية لشغل الوظيفة، وإذا كانت هناك وظائف معينة تكون المرأة أقدر على أداء عملها مثل التدريس والتمريض فإن ذلك لا يكون تمييزا ضد الرجل، والعكس صحيح. واستطرد الجمل: العمل القضائى يبعد المرأة عن أسرتها وزوجها بعكس الرجال لتحملهم هذه المشاق، وعدم تعرضهم لمشاكل اجتماعية أثناء العمل وبالتالى فذلك لا يعد تمييزا ضدها، فضلا عن أن الحكم الذى أصدره السنهورى استدرك أن وجود اعتبار التفضيل للذكر والأنثى لا يكون تمييزا. وأكد الجمل أنه كان يفضل أن تتم استشارة الجمعية العمومية لمستشارى المجلس، حتى يكون هناك قبول كامل وتحديد للضوابط التى لا تمس صالح العمل، وأنه يعتقد أن الأنسب للقاضيات أن يتم تعيينهن فى هيئة مفوضى الدولة وإدارات الفتوى والمحاكم التأديبية كأعضاء ولسن كرئيسات لها. فى المقابل وصف المستشار معتز كامل مرسى، نائب رئيس مجلس الدولة والأمين العام، هذا القرار ب«التاريخى» واعتبر أنه مقدمة لالتحاق النساء بجميع الهيئات القضائية بما فى ذلك النيابة العامة، وهو ما كانت تسعى له منذ سنوات منظمات حقوق الإنسان والمرأة، وعلى رأسها المجلس القومى للمرأة والمجلس القومى لحقوق الإنسان، مؤكدا فى الوقت ذاته أن القرار اتخذ بعد دراسة مستفيضة وأنه شأن داخلى خاص بمجلس الدولة لم تتدخل أى جهة سياسية فيه من قريب أو بعيد. وأضاف مرسى أن المرأة اخترقت مجال العمل القضائى فى معظم الدول الإسلامية، وتولت رئاسة المحاكم فى المغرب وسوريا ولبنان والسودان، كما تولت امرأة منصب النائب العام السورى، مما يعكس توافقا عربيا وإسلاميا على أن القرار يتماشى مع الشريعة الإسلامية، التى فرضت المساواة بين الرجل والمرأة، وحصرت التمايز والاختلاف بينهما فى أمور بعيدة عن مجالات العمل المختلفة. وأشار مرسى إلى أن حكم رفض تعيين د.عائشة راتب تضمن عبارة مهمة شددت على أن عمل المرأة بالقضاء يتفق مع الشريعة الإسلامية، لكن عادات المجتمع وتقاليده فى ذلك الوقت كانت تمنع ذلك، مع ملاحظة أن المرأة المصرية وقت صدور الحكم كانت محرومة من حق التصويت فى الانتخابات، بينما لها الآن «كوتة» مقررة بقانون، مما يقلل فرص الطعن على القرار لإلغائه. واستطرد قائلا: لن يتم تحديد مكان معين أو وظيفة معينة للنساء فى مجلس الدولة، وستكون متغلغلة فى جميع الوظائف والدرجات، علما بأن هذا المشروع مطروح منذ سنوات ولم تحركه مؤخرا إلا طموحات وجهود المستشار محمد الحسينى. واتفق المستشار د.عبدالرحمن عزوز، رئيس مجلس الدولة الأسبق (2001 2005) مع مرسى فى جواز تعيين النساء قاضيات فى المجلس مادام الموافقة تمت على تعيينهم فى القضاء العادى، كقاضيات فى محاكم الأحوال الشخصية والأسرة، كاشفا فى الوقت ذاته أن المشروع طرح على المجلس الخاص فى عهده، وكان سبب التحفظ الوحيد أن المرأة لم تدخل بعد سلك القضاء العادى. وأضاف عزوز أن ما يردده البعض عن صعوبة العمل القضائى بالنسبة للمرأة هو أمر مردود عليه، حيث تفوقت المرأة فى أعمال أكثر صعوبة ومجهودا مثل الطب والهندسة، وتميزت فى تخصصات كانت حكرا لسنوات على الذكور مثل الجراحة والعناية المركزة، فى مقابل استبعادها من القضاء الذى هو عمل ذهنى وفكرى بالدرجة الأولى، يمكن لأى إنسان عاقل وحكيم وملم بالقانون أن يشتغل به، مستبعدا فى الوقت ذاته أن تشتغل النساء بالنيابة العامة لأنها أكثر إرهاقا من القضاء. أما المستشار جلال عبدالحميد، الرئيس الأسبق لمحاكم القضاء الإدارى وأمين عام المجلس فى السبعينيات، فأبدى موافقته على القرار بشرط أن يتم تعيين وتوزيع القاضيات الشابات أولا على إدارات الفتوى الخاصة بالوزارات والهيئات الحكومية، لتكتسب كل قاضية الخبرة القانونية اللازمة للتعامل مع الحكومة، ثم يتم نقلهن إلى هيئة مفوضى الدولة لتكتسبن خبرة التعامل مع الجماهير، وذلك قبل التفكير فى نقل أى مرأة للعمل على منصة القضاء. وأكد عبدالحميد أنه يخشى على النساء من خوض تجربة العمل بقضاء مجلس الدولة نظرا لأنه من أشد الأعمال القضائية إرهاقا، بسبب ارتفاع عدد القضايا المعروضة وارتباطها مباشرة بالجهات الحكومية، مما يجعل نجاح المرأة فى اكتساب الخبرة القانونية هو المحك الحقيقى لصلاحيتها كقاضية. من جهته، رفض المستشار نبيل ميرهم، رئيس مجلس الدولة السابق (2008 2009) التعقيب على القرار الذى اتخذه أعضاء المجلس الخاص، مؤكدا أن هذا الموضوع لم يطرح طوال فترة رئاسته للمجلس، ولم تتقدم أى خريجة مطالبة بالمساواة بينها وبين الخريجين الذكور فى العمل بالمجلس.