تزامن وصول الرئيس حسنى مبارك إلى واشنطن بعد ظهر أمس مع حدثين ربما لا يجتمعان ما فرض أجواء غير طبيعية على الزيارة بالنسبة للأمريكيين ساسة وإعلاميين. فإذا كان الحدث الأول وهو بدء العطلة البرلمانية للكونجرس بمجلسيه وهو ما يعنى خروج أغلب الأعضاء من واشنطن سواء للعودة إلى دوائرهم الانتخابية أو للقيام بزيارات خارجية يضفى قدرا كبيرا من الهدوء على واشنطن فإن الحدث الثانى وهو ظهور مشروع الرئيس الأمريكى باراك أوباما لإصلاح نظام الرعاية الصحية قد أشعل جدلا حادا واستحوذ على اهتمام دوائر السياسة والإعلام داخل وخارج العاصمة. وقبل يوم واحد من وصول الرئيس مبارك للعاصمة الأمريكية، تلقى الصحفيون الأجانب المعتمدون فى وزارة الخارجية الأمريكية رسالة بريد إلكترونى غير تقليدية وتقول «إن أجندة الفترة من (17 أغسطس إلى 28 أغسطس) لن تجمع، ولن ترسل للصحفيين كما جرت العادة بسب عطلة الكونجرس الصيفية التى تمتد إلى الأسبوع الأول من شهر سبتمبر». فقد جرت العادة قبل نهاية كل أسبوع (نهاية عمل يوم الجمعة تحديدا) وصول رسالة طويلة بعنوان «أجندة الأسبوع القادم»، إلى الصحفيين وتحتوى على جدول الأحداث والفاعليات الحكومية، مثل أجندة الكونجرس وجلسات الاستماع بمجلسيه، وكذلك الفاعليات الغير حكومية، مثل أنشطة مراكز الأبحاث والجامعات للأسبوع التالى، حتى يضع الصحفيون خططهم للتغطية الإخبارية، ويسجلون أسماءهم لحضور الجلسات والندوات أو المؤتمرات الصحفية المختلفة. ومع وجود أعضاء الكونجرس خارج العاصمة فمن المنتظر أن تسيطر أجواء الهدوء على زيارة الرئيس مبارك التى كانت تشهد فى العادة لقاءات ساخنة مع النواب والشيوخ الأمريكيين لمناقشة الكثير من القضايا الثنائية والإقليمية. ومما يلفت النظر فى الإعلام الأمريكى غياب أى حديث فى الصحافة الأمريكية عن الزيارة الرسمية الأولى للرئيس مبارك إلى واشنطن منذ ست سنوات تقريبا حتى إن الافتتاحية التى اعتادت كبرى الصحف الأمريكية مثل واشنطن بوست ونيويورك تايمز على نشرها فى مثل هذه المناسبة للحديث عن العلاقات المصرية الأمريكية لم تنشر حتى الآن. ولكن هناك من يرى أن غياب أنباء الزيارة عن الإعلام الأمريكى الآن أمر طبيعى حيث إن الرئيس مبارك لن يلتقى بنظيره الأمريكى أوباما إلا يوم 18 أغسطس وهو الخبر الذى سيكون موضع اهتمام الإعلام. من ناحية أخرى، فجر مشروع أوباما لإصلاح نظام الرعاية الصحية فى الولاياتالمتحدة عاصفة قوية فى مختلف أنحاء أمريكا. وتمثل قضية إصلاح برامج الرعاية الصحية أهم اختبار لرئاسة أوباما على الطلاق. وستكون لطريقة معالجته لهذه القضية آثار ستنعكس على ما تبقى من فترته الرئاسية. كما ستلقى الضوء على قوته السياسية وعلاقته مع الكونجرس بمجلسيه الخاضع لسيطرة الأغلبية الديمقراطية. والأهم من ذلك علاقته بالمواطنين الأمريكيين، حيث ما يزال أمامه انتخابات رئاسية فى غضون ثلاث سنوات، ناهيك عن انتخابات الكونجرس بعد ما يقرب من عام من الآن. وتاريخيا كان يبدأ الرئيس الأمريكى هذه المعارك الشرسة فى فترة حكمه الثانية!. وأجرت مؤسسة جالوب أستطلاعا للرأى فى الفترة من 69 أغسطس الجارى على عينة من 1010 مواطنين أمريكيين، حول رأيهم فى مقترحات الرئيس أوباما لإصلاح برامج الرعاية الصحية. ووافق 43% على خططه، فى حين رفضها 49%، ولم يحدد 8% منهم موقفه. وقضية إصلاح برامج الرعاية الصحية هى قضية قديمة تعود للفترة ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتحديدا عام 1945 ولرئاسة هنرى ترومان. ويوجد حوالى 47 مليون أمريكى حاليا بدون تأمين صحى، ويعد ارتفاع تكلفة الرعاية الصحية عاملا مهما فى زيادة عجز الميزانية الأمريكية. وتشهد السنوات الأخيرة أزمة أمريكية قومية فى مجال الرعاية الصحية، ويدفع الأمريكيون أكثر من ذى قبل وبنسبة أكبر من دخلهم على الرعاية الطبية. وحسب تقديرات عام 2008 فقد وصل الإنفاق على الرعاية الصحية 2.26 تريليون دولار فى الولاياتالمتحدة، وهذا يوازى 16% من إجمالى الناتج القومى، وهذا المبلغ يعادل أربعة أضعاف ما تنفقه الحكومة الأمريكية على الدفاع والأمن. ويبلغ نصيب المواطن الأمريكى من ميزانية الرعاية الصحية سنويا ما يقدر ب7439 دولارا، وهو رقم أعلى بكثير من نظيره فى بقية الدول المتقدمة. فقد توصل الديمقراطيون فى مجلس النواب إلى اتفاق على مشروع قانون يفرض على كل أمريكى تدبير تأمين صحى، ويدعم غير القادرين على ذلك بفرض ضرائب على الأسر التى يزيد دخلها السنوى على 350 ألف دولار. كما ينص القانون المقترح على منح من لا يستطيع الحصول على التأمين الصحى من خلال عمله الفرصة للالتحاق بنظام تأمين حكومى. إلا أن المفاوضات حول هذا القانون فى مجلس الشيوخ قد تعرقلت حيث يعارض جمهوريون معتدلون اقتراح فرض الضريبة وكذلك يعارضون نظام التأمين الحكومى. ولا بد من إقرار القانون فى مجلسى النواب والشيوخ حتى يتم العمل به فى الولاياتالمتحدة. وسيخوض أعضاء الكونجرس من الحزبين مواجهات شديدة مع ناخبيهم أثناء عقدهم جلسات مناقشة مقترحات الرئيس أوباما لإصلاح برامج الرعاية الصحية. وأظهرت دراسة أجرتها جامعة هارفارد أن 50% من دعاوى الإفلاس التى تقدم للمحاكم فى الولاياتالمتحدةالأمريكية تكون المصروفات العلاجية سببا «جزئيا» فيها، ويبلغ متوسط الدين غير المدفوع فى هذه الحالات 12 ألف دولار أمريكى. وجعل الرئيس أوباما من تمرير قانون إصلاح النظام الصحى أولوية قصوى فى أجندته الصيفية، وعلى مدار الأيام العشرة الماضية بدأ أوباما حملة مكثفة للترويج لخطط الرعاية الصحية. وقال أوباما فى خطابه الإذاعى الأسبوعى يوم السبت قبل الماضى «إن إصلاح هذا النظام مسألة تؤثر على الحالة الصحية والمالية لكل مواطن أمريكى وعلى الاستقرار الكامل للاقتصاد الأمريكى». ويطالب أوباما الكونجرس بالموافقة على مشروعه لإصلاح الرعاية الصحية الهادف إلى خفض التكاليف العلاجية دون زيادة العجز فى الميزانية الفيدرالية، إلا أن تقارير صادرة عن مراكز أبحاث تابعة للكونجرس حذرت من أن خطة أوباما قد تؤدى إلى تعميق الأزمة الاقتصادية فى البلاد. ومنذ قدوم أوباما للبيت الأبيض فى 20 يناير الماضى، فقد ما يزيد على 3 ملايين مواطن أمريكى وظائفهم، وفقدوا تأمينهم الصحى نتيجة لذلك. وتتمثل خطة أوباما إنشاء خطة تأمين جديدة تابعة للحكومة الفيدرالية، تعمل على توفير التأمين الصحى لكل الأمريكيين بتكلفة يتحملها الجميع وتكون مماثلة للخدمة التى يتمتع بها أعضاء الكونجرس. كما ستسمح خطة أوباما للأشخاص بالوصول إلى ترتيبات شرائية مماثلة لبرنامج الرعاية الصحية الخاص بالموظفين الفيدراليين. وتوفر الخطة كل الخدمات الأساسية بما فيها الطب الوقائى، وتلك الخاصة بالأمومة. كما تنظم تلك الخطة أقساط التأمين الصحى بحيث يقدر المواطن الأمريكى على تحملها، عن طريق منح إعانة فيدرالية للأفراد والأسر على رواتبهم، للدخول فى خطة التأمين العامة الجديدة أو النظم التأمينية الخاصة. كما يمكن للمشتركين وفق هذه الخطة فى الانتقال من وظيفة إلى أخرى دون الاضطرار إلى تغيير نظام الرعاية الصحية الخاصة بهم. ويعد برنامج التأمين الصحى الذى تديره الحكومة أحد أبرز جوانب الخلاف فى اقتراحات أوباما للرعاية الصحية، ويقول الجمهوريون إن هذه الخطة ستفقد مقدمى الرعاية الصحية عملهم، وتجبر الامريكيين على تبديل الأطباء. واصطدمت الخطة بعقبات تشريعية إثر مخاوف من أن تؤدى إلى زيادة عجز الموازنة الاتحادية بنحو 293 مليار دولار خلال السنوات العشر المقبلة، والإضرار بالشركات المتوسطة والصغيرة التى يعول عليها الخبراء لامتصاص الأعداد المتزايدة من العاطلين من جراء الأزمة الاقتصادية. ورغم أن أزمة نظام الرعاية الصحية الأمريكية قضية داخلية بحتة، فإن طريفة إدارتها، وما سيترتب عليها من تغييرات فى توازن القوى، وعلاقة الرئيس بالأغلبية الديمقراطية بمجلسى الكونجرس، وبالأقلية الجمهورية أيضا، من شأنها أن تقوى الرئيس وأجندته للسياسة الخارجية، أو أن تضعفه وتقضى عليها.