في إرادة قوية وعزيمة صلبة لمواجهة تحد آخر بعد نجاح التحدي بعقد مؤتمر "دعم وتنمية الاقتصاد المصري.. مصر المستقبل"، وانطلاقاً من الإدراك المتعاظم بخطورة وأهمية ملف مياه النيل وأزمة سد النهضة الأثيوبي، اقتحمت وبجسارة الرئاسة المصرية هذا الملف المعقد، ملف أزمة مياه النيل بعد المماطلات الأثيوبية وتسويف الوقت. فقد استبق الرئيس عبدالفتاح السيسي الاجتماع المقرر عقده في الثالث والعشرين من مارس الجاري في السودان للتوقيع على وثيقة المبادئ بين مصر والسودان وأثيوبيا بشأن سد النهضة وعقد اجتماعاً للجنة العليا لمياه النيل، والتي تضم خبراء متخصصين يمثلون الوزارات والأجهزة المعنية كافة، بشأن مشروع اتفاق إعلان المبادئ بين مصر وإثيوبيا والسودان حول سد النهضة. وقد وجه الرئيس السيسي باستمرار قيام اللجنة العليا لمياه النيل واللجنة الفنية المنبثقة عنها بمراجعة مشروع الاتفاق وطلب دراسة جميع جوانبه بشكل متكامل، فضلاً عن مراعاة الإجراءات القانونية اللازمة . جاءت هذه التوجيهات بعدما عقدت اللجنة الوطنية المصرية لسد النهضة الإثيوبى اجتماعاً يوم 16 مارس الحالي برئاسة الدكتورة فايزة أبوالنجا، مستشار رئيس الجمهورية للأمن القومي، بهدف وضع رؤية سياسية وفنية شاملة للتعامل مع الملف، تناول الاجتماع التطورات الأخيرة في الملف، وما تم الانتهاء منه من ملاحظات على العروض الفنية التى تقدمت بها المكاتب الاستشارية المُرشحة لتنفيذ الدراسات الهيدروليكية والبيئية. وثمة اتجاه قوي لاتفاق كل من القاهرةوأديس أباباوالخرطوم على اختيار مكتبين إستشاريين من بين الأربعة مكاتب المقدمة لتنفيذ الدراسات الفنية، بعد إبداء الوفد الإثيوبي ارتياحه للعرض الفنى المقدم من أحد المكاتب الأوروبية، وكذلك ما ظهر من الوفد المصري لارتياحه لاختيار مكتب آخر لأن الخلاف على المكتبين كان له أثر في تأجيل إعلان المكتب. ولا شك أن وجود اتجاه لاختيار المكتبين سيؤدي إلى تقليص المدة الزمنية المفترضة لإنهاء الدراسات لتصبح في أقل من سبعة أشهر بدلا من عام، خاصة أن الدراسات المطلوبة تحتاج إلى دقة عالية في إعدادها وجهد كبير. ويجسد هذا الاهتمام وعلى أعلى المستويات حقيقة أن قضية مياه النيل باتت من أهم القضايا الاستراتيجية والأمنية التي لا تشغل فقط المسئولين الرسميين، بل تشغل بالقدر ذاته الرأي العام المصري خاصة والعربي على وجه العموم، ولذا تتعدد الاقترابات الفكرية والأطروحات من قبل الأفراد والمؤسسات المصرية الرسمية وغير الرسمية والشعبية من أجل التوصل إلى حلول واقعية وفعلية لأزمة مياه النيل على خلفية سد النهضة الأثيوبي وما أثُير من تداعيات وآثار سلبية على مستقبل الأمن المائي المصري. خيارات ما بعد توقيع وثيقة المبادئ في هذا السياق يطرح خبراء الأمن المائي بعض الخيارات المصرية للتعامل ليس مع إثيوبيا فحسب، بل مع دول حوض النيل، للتعاطي مع الأزمة- المشكلة على الأمد البعيد بشكل عام. أولاً : خيار المفاوضات والحوارات البناءة والعملية: ينطلق هؤلاء الخبراء من حقيقة أن المرحلة الراهنة تتطلب في إطار عوامل الضغط التي تحيط بالموقف المصري تجاه سد النهضة، والتعاون مع دول حوض النيل الانتقال إلي مرحلة أكثر تقدما من المراحل التي لجأت إليها مصر منذ شروع أثيوبيا في بناء السد (أبريل 2011)، حيث تم استهلاك الكثير من الوقت والجهد في محادثات غير مجدية لإقناع إثيوبيا بتأجيل المشروع لتحقيق مزيد من الدراسة. تبع ذلك مرحلة أخرى امتدت من بعد 30 يونيو 2013 وحتى الآن، سعت مصر خلالها لتكثيف المحادثات مع إثيوبيا، كما أبرزته الجولات التالية (نوفمبر وديسمبر 2013، ويناير وأغسطس 2014 ومارس 2015). فقد عقدت أواخر أغسطس 2014 جولة من المفاوضات في العاصمة السودانية الخرطوم ضمت وزراء الري والموارد المائية من مصر والسودان وإثيوبيا بشأن أزمة سد النهضة، وتم الاتفاق على تكليف مكتب استشاري لإعداد دراسة تفصيلية حول تأثيرات السد على مصر والسودان، على أن يتم حسم الخلاف في مدة أقصاها 6 أشهر تنتهي في مارس 2015 وتكون نتائجها ملزمة للجميع. ثم عقد في الأسبوع الأول من مارس 2015 حوار بين وزراء الخارجية والموارد المائية لكل من مصر والسودان وأثيوبيا في العاصمة الخرطوم على أمل أن يتم التوقيع على وثيقة المبادئ يوم 23 مارس الحالي. إذ تتطلب المرحلة الراهنة تقييم مسار التفاوض المصري خلال الفترة الماضية، وترتبط أهمية التقييم في هذه اللحظة بأهمية تغيير المنهاج التفاوضي مع إثيوبيا، ودفعها لتفاوض حقيقي، وليس مجرد محادثات أو حوارات ثنائية، أو حتى ثلاثية مع انضمام السودان وبالتالي، يجب أن يستند المنهاج التفاوضي إلى أدوات جديدة، وقنوات للتفاعل والتأثير والضغط، وبذلك تزيد من تكلفة الإضرار بالمصالح المصرية، ليس من قبل إثيوبيا فقط، ولكن من جانب أي دولة أو طرف، لاسيما وأن التفاعل المصري مع إثيوبيا سيكون كاشفا لحجم الثقل الحقيقي لمصر، وبالتالي سيكون عاكسا لمستقبل الدور التفاعلي والتشاركي لمصر في محيطها الإفريقي. ثانياً: خيار التعاون مع دول حوض النيل مع دبلوماسية المنابر والمحافل الدولية: بالتوازي مع هذه المفاوضات والمحادثات،لابد أن تكثف مصر محاور تحركاتها لمخاطبة الرأي العام العالمي، من خلال المحافل الدولية للتأكيد على حقوق مصر التاريخية في المياه. كما يتضمن هذا الخيار رؤية فحواها أن التعاون بين مصر ودول حوض النيل هو سلاح ذو حدين بالنسبة لمصر، فمن ناحية يتيح لمصر أن تستفيد من المشاريع المشتركة، ومن ناحية أخرى تعترف بمطالب الدول الأخرى، وثمة عوامل تجعل من حل الصراع بين دول حوض النيل على المياه أمراً ممكناً بصورة تعاونية وهي: إمكانية زيادة إجمالي واردات المياه، الوعي بأهمية الاعتماد المتبادل، تنويع مصادر الطاقة التي يمكن أن توازن بعضها البعض، الميراث الممتد من المبادرات القائمة على حل النزاع وبناء الثقة، المعايير الدولية التي تنظم صراعات المياه وتعترف بكافة المطالب الجوهرية لكل الدول المتشاطئة وإن لم تكن غير ملزمة بعد، والفاعلون الخارجيون المهتمون بحل الصراع بصورة بناءة وتوفير الحوافز للتعاون بين الدول المتشاطئة. ثالثاً: الخيار التعاوني مع أثيوبيا: وفي هذا الشأن أبدت القيادة السياسية المصرية انحيازها الواضح لذلك الخيار، مستندة في ذلك إلى أنه موافقة إثيوبيا على إنشاء وحدة للإشراف على الدراسات الخاصة بمشروعات النيل الشرقي ضمن مبادرة حوض النيل يكون مقرها أديس أبابا ويتناوب رئاستها مصر والسودان وإثيوبيا، فضلاً عن الاتفاق مع إثيوبيا عام 1993 الذي يعتبر ضمن اتفاقيات مياه النيل ويدعم الموقف المصري في الحفاظ على حقوق مصر التاريخية في مياه النيل. وبالفعل بدأت مصر وإثيوبيا مرحلة جديدة من التعاون المشترك على كل الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لتتجاوز بها الدولتان أزمة "سد النهضة" والنزاع حول مياه نهر النيل، حيث اتفقت الدولتان في ختام أعمال الدورة الخامسة للجنة المصرية الإثيوبية الوزارية المشتركة التي عقدت في أواخر نوفمبر 2014، برئاسة وزير الخارجية المصري سامح شكري، ونظيره الإثيوبي تواضروس أدهانوم، على تضافر جهودهما من أجل محاربة ظاهرة الإرهاب والجريمة المنظمة والاتجار بالبشر، كما وقعتا 5 اتفاقيات للتعاون المشترك في مجالات التعليم العام والتدريب الفني والتجارة ومذكرات تفاهم في مجالات الصحة وقضايا المرأة والتدريب الدبلوماسي. رابعاً: خيار البعد عن الإثارة: نظراً لتشابك ملف المياه وأهميته بالنسبة لمصر، فإن التصعيد ربما يؤدي إلى تشدد الطرف الآخر، ولعل هذا الخيار بدا واضحاً في الرؤية المصرية في التعامل مع أزمة سد النهضة الأثيوبي. ولا شك أن الجهود المصرية مستمرة من أجل تأمين متطلبات الأجيال المصرية من الموارد المائية حتي تستمر عمليات البناء والتنمية الاقتصادية الشاملة.