أمل أبو ستة يقول د. حامد عمار شيخ التربويين فى مصر رحمه الله فى كتابه ثقافة الحرية والديمقراطية: «نظام التعليم فى المقام الأول هو عملية سياسية.. ومن ثم كانت الرؤية الناقدة والمتعمقة فى فهم الأوضاع التعليمية وأنماطها وسياستها تكمن فى فهم نظام الحكم ومصادر القوة فى السياق المجتمعى». تذكرت هذه الكلمات عندما خرج علينا د.طارق شوقى رئيس المجلس التخصصى للتعليم والبحث العلمى التابع للرئاسة الذى تم استحداثه لوضع سياسات تطوير التعليم والبحث العلمى منذ أيام معلنا أن التعليم العالى منحة من الدولة وليس حقا، فى مخالفة صريحة لنصوص الدستور المصرى. تعتزم السياسات الجديدة تطبيق نظام المنح فى التعليم الجامعى العام القادم لتقتصر المجانية على المتفوقين من أصحاب الدرجات العالية فقط وإتاحة التعليم لأصحاب الدرجات الضعيفة والراسبين مقابل مصاريف عالية، فى خطوة من شأنها تفضيل الأغنياء وزيادة التضييق على الفقراء والقضاء على أى أمل لتحقيق العدالة الاجتماعية. تبنت مصر منذ عقود طويلة شعار العدالة الاجتماعية من خلال سياسة مجانية التعليم فى المدارس منذ عام 1952 ثم الجامعات بحلول عام 1963 مما عكس توجها واضحا لتبنى حق التعليم للجميع الذى نصت عليه جميع دساتير مصر منذ دستور 1923 وحتى دستور 2014. إلا أنه بعد الإعلان رسميا عن تبنى سياسة الانفتاح الاقتصادى عام 1974، بدا جليا الانحياز الواضح للطبقة الغنية من المجتمع ليس فقط فى صورة امتيازات اقتصادية ولكن تعليمية أيضا. فبدأ التوسع فى إنشاء المدارس الخاصة وتشجيعها وتوفير التسهيلات لبنائها من قبل الدولة مع تراجع شعار العدالة الاجتماعية. وكان من الطبيعى أن تطول الخصخصة التعليم العالى أيضا. حيث بدأت فى الثمانينيات سياسات تخفيض أعداد المقبولين فى الجامعات بدعوى أن الأعداد تفوق حاجة سوق العمل، رافقتها تصريحات صادرة عن وزارة التعليم تتحدث عن التزام الحكومة بمجانية التعليم ما قبل الجامعى فقط. وبدا كل هذا كتمهيد لإصدار قانون 101 لسنة 1992 بشأن إنشاء الجامعات الخاصة فى ظل مخاوف مجتمعية مما قد تفرزه هذه الخطوة من عدم استقرار مجتمعى. اليوم، يوجد فى مصر 22 جامعة حكومية و20 جامعة خاصة. تستوعب الجامعات الخاصة 5 فى المائة فقط من طلاب الجامعات. إلا أن التوسع فى إنشاء المعاهد الخاصة والتى فاق عددها 230 معهدا، فتح الباب على مصراعيه للقطاع الخاص فى التعليم العالى. ففى حين يلتحق نحو 35 فى المائة من الفئة العمرية المناسبة للتعليم العالى بالدراسة بها، فإن 20 فى المائة منهم يلتحقون بالقطاع الخاص سواء جامعات أو معاهد. كيف يؤثر هذا على العدالة الاجتماعية؟ مع انحدار دخل الفرد فى مصر وازدياد عدد الفقراء من 16.7 فى المائة من الشعب المصرى فى عام 2000 إلى 26.3 فى المائة فى عام 2013، تصبح العدالة الاجتماعية تساؤلا مشروعا. ومع غياب العدالة فى توزيع الثروات، حيث يسيطر 10 فى المائة فقط من المواطنين المصريين على 73.3 فى المائة من ثروات البلاد بحسب تقرير معهد كريدى سويس للأبحاث فى تقرير 2014، يصبح التوسع فى التعليم الخاص خدمة مقتصرة على القادرين. ولو كان الإجراء الجديد يعنى ببساطة مطالبة الأغنياء بدفع تكاليف تعليمهم لربما استطعنا قبول منطق البعض فى أن التعليم الخاص يساعد على حل معضلة تمويل التعليم، ويخدم العدالة الاجتماعية. إلا أن الأمر ليس بهذه البساطة لأن السياسات المتبعة تعنى فرصا أكثر وأفضل للقادرين ماديا، مما يعنى غيابا لتكافؤ الفرص وبالتالى مزيدا من الطبقية الاقتصادية والاجتماعية. وإليكم الأسباب: أولا: يتم التوسع فى المنشآت التعليمية لصالح المقتدرين ماديا ولا يتناسب معدله مع معدلات الدخول وتوزيع الثروات بين شرائح الشعب المختلفة. فعلى سبيل المثال، زادت أعداد المدارس الخاصة فى الفترة ما بين 2008 و2012 بنسبة 49.5 فى المائة، إلا أن هذه الزيادة لم يقابلها سوى توسع بنسبة 14فى المائة فقط فى القطاع العام. وعلى الرغم من أن نحو 31 فى المائة من المدارس الثانوية فى مصر هى مدارس خاصة، إلا إنها تستوعب 11.5 فى المائة فقط من طلاب هذه المرحلة. ثانيا: على الرغم من توقيع مصر على نص الإعلان العالمى لحقوق الإنسان والذى يتضمن أن الالتحاق بالتعليم العالى يجب أن يعتمد على التفوق الأكاديمى. فإن العامل الاقتصادى يلعب دورا محوريا فى إتاحة التعليم العالى، خصوصا مع تراجع جودة التدريس فى المدارس الحكومية المكتظة وانتشار الدروس الخصوصية مما يقلل من فرص قبول الطلاب فى الجامعات الحكومية التى تشترط الحصول على معدلات مرتفعة فى الثانوية العامة. ثالثا: إن معايير القبول فى الجامعات الخاصة والحكومية تعكس بوضوح تحيزها للطبقة المقتدرة ماليا. ففى عام 2013 مثلا كان الحد الأدنى لدراسة الهندسة فى الجامعات الخاصة هو 75 فى المائة فى مقابل 94.3 فى المائة فى الجامعات الحكومية. وكان القطاع الخاص يتيح للطالب أن يدرس الإعلام أو الفنون التطبيقية أو السياسة والاقتصاد أو تجارة إذا حصل على 60 فى المائة فى مقابل 93.3، 92.7، 92، و72.9 فى المائة على التوالى فى الجامعات الحكومية. ليس هذا فحسب، بل إن التعليم الجامعى الحكومى يضيف شروطا للقبول تتعلق بالموقع الجغرافى للطالب، وهو ما يغيب تماما فى حالة التعليم الخاص. إن تطبيق السياسات الجديدة القاضية بفرض رسوم على التعليم الحكومى يفرض على الالتحاق أو الاستمرار بالتعليم العالى حدين أدنيين أيضا، أعلاهما مجانى وأدناهما بمقابل مادى. مما يتسبب فى تقليص الفرص أمام غير القادرين ماديا وفتح الباب على مصراعيه لأبناء الفئات الغنية لمزيد من الفرص للترقى بأنفسهم مما يزيد الفجوة بين الطبقات اتساعا. وتؤكد ذلك الإحصاءات، فالأرقام تقول إن أغنى 20 فى المائة من المصريين يشغلون 53 فى المائة من جميع جامعات مصر. بينما يشغل أفقر 20 فى المائة 3 فى المائة من الجامعات فقط. وتشير الأبحاث إلى أن التوسع فى التعليم العالى المجانى من شأنه أن يخدم عددا أكبر من طلاب الطبقة المتوسطة. وعلى الرغم من أنه لن يقضى على التمييز الحالى للأغنياء، إلا أنه يحافظ على معدلات نمو الشريحتين الأغنى والأفقر بنفس النسبة. وعلى الجانب الآخر فإن التوسع فى التعليم العالى الخاص من شأنه أن يسرع بمعدل نمو الشريحة الأغنى فى حين يُبقى على الشريحة الأفقر بنفس النسبة. هل نستطيع تمويل التعليم؟ ينص دستور 2014 على تخصيص 4 فى المائة من الناتج القومى للإنفاق على التعليم و2 فى المائة للإنفاق على التعليم الجامعى. وبينما تعتبر هذه النسب ضئيلة وتعكس انسحابا تدريجيا لدور الدولة، إلا أن الأبحاث تشير إلى أن أوجه الصرف على التعليم يتم بطريقة تتيح إهدار الموارد، كما أنه لا تتم إتاحة الفرصة للجامعات لزيادة مواردها بشكل مستقل. وبينما تمر مصر بمرحلة تحول سكانى يزيد معها عدد المصريين فى المرحلة العمرية من 20 24 من 7 ملايين فى 2005 إلى 9 ملايين فى 2035، فإن الطلب على الالتحاق فى الجامعات سيزداد وستزداد معه الحاجة إلى الإنفاق. وهذا يستلزم التخطيط الاستراتيجى لاستغلال الفرصة العظيمة المتمثلة فى وجود نسبة كبيرة من السكان فى أكثر فترات عمرهم إنتاجية والعمل على تخفيض معدلات البطالة المتزايدة وزيادة الناتج العام لتوفير موارد أفضل للتعليم وغيره من الخدمات. وعليه، لا يفترض أن تتملص الدولة من الدور المناط بها عبر اللجوء إلى طرق مختصرة للتمويل تلقى بالعبء على كاهل المواطن. ويتبادر هنا للذهن أسئلة مهمة: إذا كان السبب هو قصر ذات اليد، فلماذا يتم إعفاء الجامعات الخاصة من الضرائب؟ ولماذا تم إنشاء السواد الأعظم من منشآت القطاع الخاص فى التعليم العالى كمشاريع استثمارية تهدف للربح مما يعنى أن رأس المال هو المتحكم الرئيسى فيها وليس معايير العملية التعليمية؟ إن استخدام القدرة المادية فى التعليم كمعيار محدد لأحقية الطالب فى فرصة التعلم فتح بابا خلفيا للطلاب الأغنياء غير المتفوقين لشراء فرص فشلوا فى الحصول عليها باستخدام قدراتهم الأكاديمية، وهو ما قدم ميزة نوعية لفئة من المجتمع على أسس غير عادلة، مما يضر بالمجتمع ككل.