يكتبون عن الحرب أو بالأحرى على هامش الحرب. أى حرب؟ لا يهم. ما يمر بالعراقيين منذ عقود يكفى لإمداد الأدب بنصوص فريدة لمدة قرن من الزمان، سواء تعلق الموضوع بالحرب مع إيران فى الثمانينيات أو مع الكويت سنة 1990 أو غزو قوات التحالف للعراق وسقوط بغداد فى 2003 أو «المرحلة الانتقالية» التى يعيشونها منذ 11 عاما، أو المجهول الذى ينتظرهم. يتبدل خوف بخوف، وقلق بقلق، فيكتبون قبل أن يداهمهم الوقت أو الموت.. كمن يريد تسجيل اللحظة كى لا تتبخر إلى الأبد أو تنساب بين يديه.. كمن يسعى لإحياء الأموات ولملمة المتبعثر، أشلاء وطن وذكرياته. وبالتالى انقلبت القاعدة، وطغت الرواية العراقية على الشعر وانتعشت بشكل غير مسبوق، منذ نهاية التسعينيات، فهى القالب الأنسب ربما لرصد التطورات السياسية والاجتماعية والثقافية التى تلحق بأى بلد ولوصف الكابوس العراقى. ••• فراق ومنافى وانتظار وطائفية وأزمة هويات وعنف ومغالاة وأقليات وتعددية ثقافية.. موضوعات ومعانى عدة يتم أنسنتها داخل الرواية العراقية الحالية، التى يطلق عليها البعض «الجديدة» أو «رواية ما بعد التغيير»، لا تهم التسمية، بل المهم هو بزوغ أسماء على الساحة العربية والدولية لروائيين عراقيين، مثل سنان أنطون وإنعام كجه جى وأحمد سعداوى وعلى بدر وغيرهم كثر، ليحصدوا الجوائز الأدبية ويلفتوا الأنظار بلغتهم البسيطة والجزلة فى آن وطريقتهم فى السرد التى تختلف عن سابقيهم. نجحوا إلى حد كبير فى التعبير عن تعقيد الشخصية العراقية التى تنادى بقيم الصحراء من غلبة وفخر بالقبيلة والعشيرة وتتوق كذلك إلى التمدن والحضارة والاستقرار، أى كما وصفها عالم الاجتماع الجليل، على الوردى: «العراقى يعشق مثل روميو ويتزوج مثل الملا عليوى!»، ولكنه أيضا يعيش مع شبح الموت منذ سنوات أو فى غربة المنفى. هؤلاء الكتاب يحضرون «الأرواح الكسيرة» ويرممون ذاكرة تتبدد، يستجمعون إرثا «طشاريا»، كما تقول إنعام كجه جى التى اختارت لروايتها الأخيرة اسم «طشارى»، نسبة إلى الطلقة الطشارية التى يستخدمها الصيادون لإصابة أكبر عدد من الأهداف نظرا لأنها تنفلق وتتوزع فى عدة اتجاهات، كما هو حال العراقيين الآن. هذه الرواية جاءت فى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية، كما سابقتها «الحفيدة الأمريكية» التى نافست هى الأخرى للحصول على الجائزة نفسها عام 2009.. كلاهما تتحدثان عن نساء عراقيات فى المهجر، مثل كجه جى التى تعيش فى باريس منذ أكثر من ثلاثين عاما، فالهجرة كما جاء على لسان زينة، الفتاة الآشورية بطلة «طشارى»، «هى استقرار هذا العصر، والانتماء لا يكون بملازمة مسقط الرأس».. ذات المعنى الذى تؤكد الكاتبة عليه دوما منذ روايتها الأولى «سواقى القلوب» عن قصة لاجئ عراقى بباريس يعيش غريبا فى المدينة. ••• وكما تحاول شخصيات «طشارى» اختراع عراقا آخر على مواقع التواصل والانترنت، لجأ بطل رواية أحمد سعداوى «فرانكشتين فى بغداد» إلى جمع بقايا الجثث المتطايرة من جراء الانفجارات لخلق شخصا شبيها بفرانكشتين يرغب فى الانتقام من كل الذين تسببوا فى الفوضى الراهنة، حصل «فرانكشتين بغداد» على جائزة البوكر لهذا العام، فغياب الأجوبة المنطقية عن الأسئلة التى قد تطرح حول العراق دفع أهله إلى قبول العنف كجزء من الروتين اليومى فى غياب حلول سياسية واضحة، نرى إذن أثر العنف على حياة الناس من خلال الروايات المختلفة للأحداث، ونرى أحيانا أسلوب الفانتزيا الذى يتناسب وعبثية الواقع والشعور بالعجز، الجثث تنتشر ولكل ضحية قصة ووجهة نظر. الروائى على بدر فى «حارس التبغ» يحكى قصة عازف الكمان الذى عُثر على جثته مرمية على شاطئ دجلة، ثم يدلف إلى موضوع يهود العراق، أما بطل سنان أنطون «فى وحدها شجرة الرمان» فيعمل فى مغيسل شيعى: طالب الفنون يرث مهنة أبيه، ويرسم الجثث التى يعيش بينها.. ينتقل من كابوس لآخر ويتمنى الرحيل.. أما بطل «يا مريم»، روايته الأخيرة، فحياته تلخصها الصور على جدران المنزل العتيق.. براعة فى سرد الذكريات المبعثرة لأقليات مبعثرة.. سنان أنطون مقيم فى نيويورك، وعلى بدر فى بروكسل، والبقية تأتى.. والحديث يطول حول ما يجرى، مثلما توالت شهادات الكتاب وأعمالهم عقب الحربين العالمتين فى أوروبا أو بعد الحرب الأهلية فى لبنان، فالكاتب بحاجة إلى أن يروى فى مثل هذه الظروف.. ونحن فى حاجة إلى أن نقرأ، ليس فقط كمحاولة للفهم، بل نقرأ نصوصا أدبية على روح الشعب العراقى لنشعر أكثر بمعاناته ونقترب منها.. ما عرفته الرواية العراقية منذ سنة 2003 جدير بالدراسة، فمياه كثيرة جرت تحت الجسور منذ صدور أول رواية فى بغداد عام 1928 («جلال خالد» لمحمود أحمد السيد)، وهذا طبعا لا يتنافى مع وجود أسماء لامعة ما بين التاريخين أثرت حياتنا مثل فؤاد التكرلى وطعمة فرمان وعالية ممدوح على سبيل المثال لا الحصر، فلا مجال هنا لذكر العديد والعديد من الأسماء.. الخريطة الأدبية أيضا تتغير وليس فقط الخرائط السياسية.