لا تنحصر صعوبة كتاب ( قضية الفقه الجديد لجمال البنا ) فى طبيعة قضيته بالغة الأهمية (هدم الفقه القديم وبناء آخر جديد) التى لا يتردد المؤلف فى اقتحامها مع اعترافه بصعوبة تصدى شخص واحد بمفرده لها، ولا فى تنوع موضوعاته التى تعالج تقريبا كل موضوعات العلوم الإسلامية وقضاياها الشائكة، بقدر ما تكمن المشكلة فى طبيعة هذا النوع من الدعوات التى تكاد تعلن أن الأمة الإسلامية طوال عمرها الذى جاوز أربعة عشر قرنا سلكت طريقا لم يكن الأفضل وتبنت خيارات لم تكن تصلح لها، ومن ثم فعليها أن تبدأ من جديد، بطريقة: نقطة ومن أول السطر..بل بفتح صفحة جديدة فى حياتها وربما تغيير الكرّاس! يخالف هذا الكتاب ( الصادر عن دار الشروق) فى منهجه منهجية الفقه الإسلامى فى التجديد والاجتهاد والتى تقوم على أن الجديد يغزل من القديم ولا يتنكر له بل يأتى دائما منه فيكمل عليه ويسد عجزه وينقله للأمام، تماما كما كان يفعل المجددون الذين ما كانوا يفضلون تدوين اجتهاداتهم الجديدة فى كتب مستقلة وسجلوها شروحا أو حواشى على رسائل شيوخهم إعلانا عن الاستمرارية وتواصل النسب العلمى، رغم أن الشروح والحواشى كانت فى كثير من الأحيان أكثر أهمية من المتون. مشروع ثورى يجسد هذا الكتاب مشروع «عمر» صاحبه الكاتب والمفكر الأستاذ جمال البنا، وهو عمر قارب التسعين عاما قضى شطرا منها فى قضايا العمال والنقابات والعمل الاجتماعى قبل أن يتفرغ تماما لثورته الفكرية الدينية التى تروم تغيير العقل المسلم جذريا. من يعرف جمال البنا ونبله ودماثة خلقه ونزاهته وزهده سيكتشف مع هذا الكتاب جانبا ثوريا حتى بالمعنى السياسى لا يترجمه الرجل فى العمل العام! الكتاب هو اختصار مبسط لكتابه الأكبر «نحو فقه جديد» الذى صدر كاملا فى ثلاثة أجزاء قبل عشر سنوات من هذه الطبعة ( 1999 2009) وكان يمثل مشروع صاحبه الأساس الذى انصرف إليه وتفرغ له تماما ولو على حساب مشروعات بها قدر من الأصالة والريادة كان لجمال البنا فيها فضل السبق وأعنى به جهده وعطاءه المشهود فى المسألة النقابية والعمالية ومحاولة تقديم مقاربة إسلامية فريدة وأصيلة لها. والأصل الذى يختصره هذا الكتاب هو نفسه خلاصة كتابات سابقة لجمال البنا فى مراحل زمنية مختلفة كان كل منها يمثل معالجة لقضية من قضايا الكتاب منها «الأصلان العظيمان الكتاب والسنة» (1982) و«كلا لفقهاء التقليد وكلا لأدعياء التنوير»(1994) و«الإيمان بالله فى القرآن الكريم ولدى السلف والمعتزلة والمعاصرين»(1993) و«قضية تطبيق الشريعة والعودة إلى القرآن»(1998) و«الأصول الفكرية للدولة الإسلامية» (1979) و«المرأة المسلمة بين تحرير القرآن وتقييد الفقهاء» (1999). تعريف مفصّل ينقسم الكتاب لثلاثة أبواب رئيسية يمثل كل منها كتابا من الأجزاء الثلاثة لكتابه «نحو فقه جديد» فيقدم الأول «منطلقات ومفاهيم فهم الخطاب القرآنى»، ويتناول الثانى «السُّنة ودورها فى الفقه الجديد»، فيما يتضمن الأخير قراءة فى الفقه القائم ومحاولة لإعادة ترتيب وتعيين أصول الشريعة. يضم الجزء الأول بابين يطرح الكاتب فى الأول منهما عددا من المفاهيم والمنطلقات الأساسية لفهم مشروعه؛ أولها «البراءة الأصلية» والتى تعنى افتراض براءة الإنسان وأن الأصل فى الأشياء الإباحة وهو يدعو إلى جعلها أصلا من أصول الفقه، ويكمله بوسيلة «المقاصة» (من قوله تعالى: «إن الحسنات يذهبن السيئات») التى يراها الأقرب لروح القرآن من مبدأ سد الذرائع عند الفقهاء. ثم يدعو إلى «التمييز بين العقيدة والشريعة» باعتبار أن الأولى تتصل بكل ما يتعلق بالله تعالى واليوم الآخر، وهى الأساس فى الإسلام، وطبيعتها الإيمان القلبى، وهدفها الهداية الإلهية، ووسيلتها الحكمة والتدبر. أما الثانية فهى ما يتعلق بالتعامل فى الحياة، وطبيعتها عقلية عملية، وهدفها العدل، ووسيلتها القوانين المنظمة، ثم يأتى العمل كحصيلة لهما ومعيار مصداقيتهما. ويقترح بناء على ذلك تعديلات جوهرية فى العلوم الإسلامية المختلفة وعلاقاتها بعضها ببعض. ثم يقدم فى الباب نفسه مراجع نقدية للنشأة التاريخية ل «ظهور وتضخم فقه العبادات» باعتباره نتيجة لهروب الفقهاء من فقه السياسة والحياة إلى فقه العبادات، وهو ما جعله يتضخم ويأخذ طابعا شكليا منفصلا عن جوهر الشخصية المسلمة، ما أدى فى النهاية لتشوهها وانفصالها عن طبيعة الرسالة الإسلامية. ثم يختم الباب بالدعوة إلى إطلاق كل طاقات «الاجتهاد» المطلق بلا قيد، مفضلا أن يتجاوز الطابع الفردى إلى الجماعية عبر المجامع الفقهية. ويتناول فى الباب الثانى «فهم الخطاب القرآنى» فيميز بين ثلاث مراحل تاريخية، أولاها مرحلة الرسول صلى الله عليه وسلم التى كان الخطاب القرآنى فيها يؤدى دوره الإيمانى بمجرد سماعه دون حاجة إلى شرح أو إيضاح أو تفسير، وثانيتها مرحلة ما بعد النبوة إلى زمننا المعاصر والتى امتلأت ب«تلال» من الشروح والتفاسير حجبت القرآن عن المسلمين، ومعظمها تأثر بالثقافات الوافدة والمناهج الغريبة أو الأساطير والإسرائيليات. ويتوقف عند جيل الإصلاحيين من أمثال محمد عبده والمراغى والقاسمى وبن باديس ورشيد رضا مثمنا لجهودهم فى محاولة إعادة اكتشاف القرآن من بين «ركام» التفاسير، كما يقدم قراءة نقدية ومحاولات معاصرة وحداثية قام بها محمد شحرور ومحمد أركون ونصر حامد أبو زيد. ثم يطرح رؤيته فى «فهم الخطاب القرآنى كما يجب أن يكون» الذى يعود للقرآن صافيا قبل التفاسير لأجل اكتشاف منظومة قيمه ومبادئه الحاكمة دون افتئات عليه أو محاولة لتفكيكه. وفى الجزء الثانى من الكتاب «السُّنة ودورها فى الفقه الجديد» يتناول المؤلف فى الباب الأول السُّنة فى الفقه السلفى منتقدا تحولها من «سّنَّة» فعلية وعملية إلى «حديث» يتصل بالقول والرواية صار يهيمن فعليا على القرآن ويكوِّن مادة الفقه. كما يبين موقع «السُّنة بين المتحفظين عليها والمسلمين لها» والاختلاف بشأنها «من التشدد إلى الترخص» منتقدا منهج السلف فى الحكم على صحة الأحاديث، مقترحا منهجا آخر يمكن أن يضع السُّنة فى مكانتها فى مشروعه للفقه الجديد. وفى الباب الثانى «السُّنة فى الفقه الجديد» يميز بين سُنَّة عبادية وأخرى حياتية، وثالثة سياسية ناعيا على السلف أنهم لم يعطوا المكانة اللازمة للسُّنة الحياتية والسياسية، فتضخمت لديهم العبادات وفتحوا الباب للوضع والتشويه والتزييف على سنَّة الرسول. ويطرح المؤلف ضرورة وضع ضابط منهجى وموضوعى لضبط السُّنة بعرضها على القرآن الكريم»، وفى ضوء ذلك يستبعد فئات من الأحاديث (المغيبات، وتفسير المبهمات، ونسخ القرآن، وما يخالف الأصول القرآنية مثل العدل، ومعجزات الرسول، وما لم يأت به القرآن، وطاعة الحكام)، وترى فئات أخرى غير ملزمة (ما جاء عن الأكل والشرب والزى..وغيرها مما يتصل بشئون الحياة الدنيا). وينقسم الجزء الثالث من الكتاب لبابين يناقش الأول كيف يختلف النظر لعدد من القضايا المهمة (الإيمان، حرية الاعتقاد، العدل، المرأة، الرقيق)، حين نقاربه بمرجعية القرآن أو بمرجعية السُّنة عنه بمرجعية الفقه التقليدى السلفى، منتهيا إلى اختلاف الأخير بسبب عيوب فى مكونات هذا الفقه أهمها التجزيئية واللغة والمنطق، والتى تنوء بالفقه عن روح القرآن التكاملية المنفتحة والحيوية. وفى الباب الثانى الذى يختم به الجزء والكتاب يطرح المؤلف أصولا جديدة للشريعة يحددها بأربعة هى: العقل، ومنظومة القيم الحاكمة فى القرآن،(وأهمها الحق والعدل)، ثم السُّنة، كما انتهى إليها، وأخيرا العُرف الذى هو صوت الواقع بما فيها من تطور وتغيير، ويقدمه بديلا عن الإجماع الذى لم ولن يتحقق. ملاحظات على المنهج لسنا بحاجة إلى القول إن الكتاب يثير وأثار بالفعل جدلا كبيرا، خاصة لدى الأزهر الشريف والمؤسسات الدينية والتيارات الإسلامية، فهو مثل ثورة تتجاوز الفقه إلى مجمل منظومة المعرفة الإسلامية، ثورة أعطاها جديتها أخلاق الرجل ومناقبيته المشهود بها، وكونه شقيق حسن البنا الأب والمؤسس لحركة الإسلام السياسى، وأيضا لكونه مختلفا عن نمط كتاب « علمانيين» طرحوا قريبا من أفكاره؛ فهو يطرح رؤيته على أساس كونه إسلامى رغم أنه قد لا يبعد عن نمط من العلمانية أشبه بالعلمانية المؤمنة. الكتاب هو ثورة على المؤسسة فى الإسلام، أو على أسس الإسلام السُّنى الذى ظل غالبا على عموم الأمة، وهو عند التدقيق ثورة بالمعنى السياسى، وانقلاب على الرؤية السياسية عند أهل السنة، حيث يجعل من الثورة على الحكام الظالمين معلما رئيسيا من معالم السياسة القرآنية بل ويرى أنها تتلاقى مع توحيد الله والقضاء على الأرباب. ثمة إضافات مهمة لن يختلف معها أكثر خصوم جمال البنا، مثل فكرة البراءة الأصلية التى رغم أنها لم تكن مجهولة عند الفقهاء القدامى فإنه أعطاها روحا ومعنى جعلاها أقرب للقرآن، وربما كان فيه حل شاف لظاهرة إدارة حياة الناس بتفاصيلها وجزئياتها المختلفة عبر الفتوى وتحول كثير من الفقهاء إلى ما يشبه جيوش الخبراء القانونيين.كذلك بيانه الفارق المهم بين التحريم من خلال النص ( قرآنا وسنَّة) واعتمادا عليه وبين التحريم من خلال اجتهاد فقهى، وخطورة المساواة بين النوعين، وهو ما قد يساوى بين اجتهاد الفقهاء الذى هو نسبى وقابل للنظر مهما كان، وبين قطعيات النص المطلقة وغير القابلة للنقاش. وهناك أيضا نظرته لمقاصد الشريعة ليس لجهة إعادة النظر فيها أو إلغاء بعضها كما طرح بل لجهة توسعتها وإعطائها بعدا عصريا شاملا مثل حديثه عن مقصد حفظ العقل، وكيف يمكن أن يكون أصلا فى مواجهة كل ما يضر العقل ويمنع عمله من مسكرات أو مخدرات، بل الأمية والجهل وبناء أمة العلم والمعرفة، وكذلك حديثه فى مقصد حفظ المال ومحاولته تعميقها لأجل الكشف عن الوظيفة الاجتماعية للمال فى الإسلام...وكذلك نقده لكثير من محاولات التفسير الحديث أو الحداثى إذ يبدو أكثر أصالة واتصالا بالقرآن وانتماء له كنص منزَّل وموحًى به، وهو حريص على تمييز نفسه عن هذا التيار نصر أبو زيد وأركون والذى يتعامل مع القرآن كمنتج ثقافى أو أسطورة أو كأى نص يمكن التجريب معه بأدوات المناهج الغربية الحديثة. كثيرا ما يشعر قارئ الكتاب بأن الرغبة فى الثورة على القديم هى ما يسيطر على الكاتب فيجعله يبدو غير قانع إلا بهدم كل قديم رغم أننا لو دققنا سنجد أن كثيرا من نقده قائم على سوء فهم لما قاله الفقهاء قبله مثل فهمه لقاعدة (لا اجتهاد مع النص)، كما أن معظم نقده على ما يسميه «الفقه القديم» سبقه إليه «فقهاء قدماء» استفاد هو بنظراتهم النقدية، غير أنه وضع كل ذلك فى إطار مختلف يقوم على «النقض» التام لأسس هذا الفقه، وهو نفسه الإطار الذى يضع فيه ما يوافق عليه من آراء المجتهدين القدامى يبدو مختلفا مع منهجهم الكلى. وقراءته للخبرة التاريخية فى العلاقة بين الفقه والفقهاء والدولة أو السلطة كثيرا ما تبدو بسيطة وتفتقد للعمق مثل ذهابه إلى أن الفقهاء اشتغلوا بالعبادات هربا من مواجهة السلطان، معتمدا على أن معظم مجامع الحديث كان حجم المرويات فى العبادات أكثر من غيره، وهو ينسى مثلا أن الإمام أحمد بن حنبل الذى ضرب بمسنده مثلا هو أقوى من واجه الخلفاء وناله منهم العنت والعذاب فى فتنة خلق القرآن، وأن ما من ثورة إلا وكان الفقهاء عمادا لها أو سندا سواء ضد بنى أمية أو بنى العباس. لا يدرك المؤلف أن انفصال جمهور الفقهاء عن الاشتباك المباشر مع السلطة ربما كان له صلة أوثق بطبيعة السلطة وقتها وما يمكن أن تحدثه معارضتها أو الخروج عليها فى المجتمع، كما له صلة أوثق بالحرص على استقلالية المجال الدينى عن السلطة باعتبار أن السلطة والسياسة عموما موضوع خلاف ونزاع وتغيير مستمر، وأنه يمكن التسليم للسلطة بشأنها ما تركت المجال الدينى مستقلا وله ولايته على المجتمع. كذلك فإن مقترحه لإعادة تقسيم علوم الإسلام يفتقد الوعى بالخلفيات الكامنة وراء التقسيم مثل اقتراحه نقل باب الإمامة من علم الكلام إلى الفقه، فهو مقطوع الصلة بالخلاف العقائدى الكبير حول طبيعة السلطة والسياسة وهل هى توقيفية كما تقول الشيعة مثلا أم متروكة للأمة كما يعتقد أهل السنة وعموم المسلمين..فالأمر أبعد من بساطة ما يطرحه المؤلف. يصعب قراءة هذا العمل الضخم بكلمات، لكن مفتاح القراءة الأول هو فهم طبيعة شخصية مؤلفه والروح المسيطرة عليه فى مشروعه لبناء فقه جديد؛ إنها روح المصلح الاجتماعى الذى لا ترتفع عينه عن الواقع وتسارعه وتجدد قضاياه وتعقد مشكلاته، أكثر منه المجدد الدينى الذى يهتم ببناء أسس مشروعه التجديدى على الأصول الثابتة للدين، ومن ثم نلاحظ دوما أن الرغبة العارمة فى القفز بواقع المجتمع الإسلامى للإمام وإقالة العقل المسلم من عثراته تغلب على قدرته أو حتى رغبته فى إحكام مشروعه. وأخيرا، فإن مما قد يهدد جدية هذا المشروع ويقلل مما بذله صاحبه أن جملة الآراء الفقهية التطبيقية له كان فيها من الإثارة والخفة ما قد ينعكس على النظرة للمشروع نفسه؛ وأتصور أنه من الظلم، وهو ما قد يتحمله جمال البنا نفسه، تجسيد هذا الجهد بفتاوى من مثل إباحة الزواج العرفى، وأن التدخين غير مفطر فى رمضان، واعتبار القبلات بين الشباب والفتيات من اللم المتجاوز عنه وغيره مما راج فى وسائل الإعلام باعتباره فقها جديدا!.