أسعار الدواجن واللحوم اليوم الثلاثاء 21 مايو 2024    4 توصيات ل«اتصالات النواب» لسلامة الراكبين بشركات النقل الذكي    زاخاروفا تعلق على التصريحات الأمريكية حول قرار الجنائية الدولية    مساعد وزير الخارجية الإماراتي: لا حلول عسكرية في غزة.. يجب وقف الحرب والبدء بحل الدولتين    الصحة: منظومة التأمين الصحي الحالية متعاقدة مع 700 مستشفى قطاع خاص    احذروا الإجهاد الحراري.. الصحة يقدم إرشادات مهمة للتعامل مع الموجة الحارة    محمود محيي الدين: الأوضاع غاية في التعاسة وزيادة تنافسية البلاد النامية هي الحل    الطيران الحربي الإسرائيلي يشن غارتين جديدتين شرق مدينة رفح الفلسطينية    الطيران المسيّر الإسرائيلي يستهدف دراجة نارية في قضاء صور جنوب لبنان    فرنسا: ندعم المحكمة الجنائية الدولية واستقلالها ومكافحة الإفلات من العقاب    «بلاش انت».. مدحت شلبي يسخر من موديست بسبب علي معلول    هل يرحل زيزو عن الزمالك بعد التتويج بالكونفدرالية؟ حسين لبيب يجيب    «بيتهان وهو بيبطل».. تعليق ناري من نجم الزمالك السابق على انتقادات الجماهير ل شيكابالا    منافسة أوبن أيه آي وجوجل في مجال الذكاء الاصطناعي    اعرف موعد نتيجة الشهادة الإعدادية 2024 محافظة المنيا    أحمد حلمي يغازل منى زكي برومانسية طريفة.. ماذا فعل؟    «كداب» تقترب من 2 مليون مشاهدة.. سميرة سعيد تنجح في جذب انتباه الجمهور ب الصيف (فيديو)    «في حاجة مش صح».. يوسف الحسيني يعلق على تنبؤات ليلى عبداللطيف (فيديو)    ارتفاع جديد.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الثلاثاء 21 مايو 2024 بالمصانع والأسواق    وزير الصحة: العزوف عن مهنة الطب عالميا.. وهجرة الأطباء ليست في مصر فقط    سائق توك توك ينهي حياة صاحب شركة بسبب حادث تصادم في الهرم    «سلومة» يعقد اجتماعًا مع مسئولي الملاعب لسرعة الانتهاء من أعمال الصيانة    الأنبا إرميا يرد على «تكوين»: نرفض إنكار السنة المشرفة    دونجا: سعيد باللقب الأول لي مع الزمالك.. وأتمنى تتويج الأهلي بدوري الأبطال    مبدعات تحت القصف.. مهرجان إيزيس: إلقاء الضوء حول تأثير الحروب على النساء من خلال الفن    مصطفى أبوزيد: احتياطات مصر النقدية وصلت إلى أكثر 45 مليار دولار فى 2018    7 مسلسلات وفيلم حصيلة أعمال سمير غانم مع ابنتيه دنيا وايمي    واشنطن: نرفض مساواة المحكمة الجنائية الدولية بين إسرائيل وحماس    خط ملاحى جديد بين ميناء الإسكندرية وإيطاليا.. تفاصيل    اتحاد منتجي الدواجن: السوق محكمة والسعر يحدده العرض والطلب    التصريح بدفن جثمان طفل صدمته سيارة نقل بكرداسة    وكيل "صحة مطروح" يزور وحدة فوكة ويحيل المتغيبين للتحقيق    «الداخلية»: ضبط متهم بإدارة كيان تعليمي وهمي بقصد النصب على المواطنين في الإسكندرية    ميدو: غيرت مستقبل حسام غالي من آرسنال ل توتنهام    وزير الرياضة يهنئ منتخب مصر بتأهله إلي دور الثمانية بالبطولة الأفريقية للساق الواحدة    طبيب الزمالك: إصابة أحمد حمدي بالرباط الصليبي؟ أمر وارد    الدوري الإيطالي.. حفل أهداف في تعادل بولونيا ويوفنتوس    بعد ارتفاعها ل800 جنيها.. أسعار استمارة بطاقة الرقم القومي «عادي ومستعجل» الجديدة    "رياضة النواب" تطالب بحل إشكالية عدم إشهار22 نادي شعبي بالإسكندرية    موعد عيد الأضحى 2024 في مصر ورسائل قصيرة للتهنئة عند قدومه    دعاء في جوف الليل: اللهم ابسط علينا من بركتك ورحمتك وجميل رزقك    وزير الصحة: 5600 مولود يوميًا ونحو 4 مواليد كل دقيقة في مصر    مراقبون: قرار مدعي "الجنائية الدولية" يشكك في استقلالية المحكمة بالمساواة بين الضحية والجلاد    إصابة شخصين في حريق شب بمزرعة بالفيوم    إجازة كبيرة رسمية.. عدد أيام عطلة عيد الأضحى 2024 ووقفة عرفات لموظفين القطاع العام والخاص    كيف أثرت الحرب الروسية الأوكرانية على الاقتصاد العالمي؟.. مصطفى أبوزيد يجيب    إيران تحدد موعد انتخاب خليفة «رئيسي»    أطعمة ومشروبات ينصح بتناولها خلال ارتفاع درجات الحرارة    حظك اليوم برج الميزان الثلاثاء 21-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    متى تنتهي الموجة الحارة؟ الأرصاد الجوية تُجيب وتكشف حالة الطقس اليوم الثلاثاء    على باب الوزير    بدون فرن.. طريقة تحضير كيكة الطاسة    وزير العدل: رحيل فتحي سرور خسارة فادحة لمصر (فيديو وصور)    مدبولي: الجامعات التكنولوجية تربط الدراسة بالتدريب والتأهيل وفق متطلبات سوق العمل    تأكيداً لانفرادنا.. «الشئون الإسلامية» تقرر إعداد موسوعة مصرية للسنة    الإفتاء توضح حكم سرقة الأفكار والإبداع    «دار الإفتاء» توضح ما يقال من الذكر والدعاء في شدة الحرّ    وكيل وزارة بالأوقاف يكشف فضل صيام التسع الأوائل من ذى الحجة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بالخرائط والصور.. وليد فكري يكتب ل «بوابة الشروق»: لماذا شاركت مصر في حرب القرم بأوكرانيا؟
نشر في الشروق الجديد يوم 06 - 03 - 2014

على خلفية الأزمة الجارية في أوكرانيا، والتي ظهر بها صراع روسيا والغرب على النفوذ في البلاد، ودخلت القوات الروسية منطقة القرم، والتي أعلن برلمانها رسميًا موافقته على الإنضمام إلى روسيا، طلبت «بوابة الشروق» من الكاتب والباحث المتخصص في التاريخ، وليد فكري، أن يكتب دراسة تاريخية عن خلفية النزاع حول هذه المنطقة، وعن تاريخ الحرب التي وقعت هناك بين أعوام 1853 و 1956 وشاركت مصر فيها بشكل فعال مساندةً للدولة العثمانية.
حرب القرم .. الصراع على تركة الرجل العثماني المريض
ما قبل البداية
كان لحرب القرم أبعاد متنوعة منها الاقتصادي-السياسي، والثقافي-الديني بل والشخصي.. بطلاها عملاقان كلا منهما يجمع بين الزعامة السياسية والروحية.. فالسلطان العثماني هو أمير المؤمنين وخليفة المسلمين و"الغازي" في سبيل الله وحامي بيضة الإسلام.. والقيصر الروسي هو وريث القيصرية البيزنطية وحامي الأرثذوكسية من "الكُفار البرابرة أتباع محمد".. هذا عن جزء من البُعد الديني للأمر، أما الجزء الثاني منه فيتمثل في حلقة من الصراع الكاثوليكي الأرثذوكسي القديم في السيطرة على المقدسات المسيحية بالقدس..
فرنسا وروسيا كانتا في حالة منافسة على رعاية وحماية مصالح الرعايا المسيحيين للسلطان العثماني، فبينما تولت الخارجية الفرنسية حماية المسيحيين اللاتين سعت روسيا لحماية قرنائهم الأرثذوكس.. وكانت ثمة منافسة ضارية بين الفئتين المسيحيتين على تولي شئون المقدسات في مدينة القُدس الشريف، وكانت الطائفة الأرثذوكسية هي صاحبة اليد الأعلى في هذا الشأن نظرًا للعدد الضخم ممن ينتمون لها (عشرة ملايين مسيحي) في الدولة العثمانية.
وبسبب حادثة اختفاء نجمة منقوشة بالفضة كانت تزيّن موقع ميلاد السيد المسيح عليه الصلاة والسلام في كنيسة المهد ببيت لحم، واتهّام الأرثذوكس بنزعها وعدم إثبات صحة ذلك الاتهام من قِبَل جهات التحقيق، طالبَت فرنسا بتوسيع صلاحيات اللاتين في القدس بينما طالبت روسيا بالمثل للأرثذوكس ودعت الباب العالي لرفض المطلب الفرنسي، ثم بعد ذلك تطوّر الأمر لمطالبة روسيا العثمانيون بتقنين رعاية القيصر الروسي للرعايا العثمانيين الأرثذوكس بموجب اتفاقية خاصة، وهدد الروس بأن رفض الباب العالي لهذا المطلب سيقابَل بإعلان الحرب!
أما من الناحية السياسية - وهي الأقوى - فإن المبعث الأساسي للموقف الروسي كان طمع القيصر نيقولا في تحقيق هدفين:الأول هو تنفيذ وصية سلفه العظيم بطرس الأكبر لخلفاءه ب"الوصول للمياه الدافئة"، أي أن يكون لروسيا موطيء قدم على سواحل البحور الكُبرى كالمحيط الهادي والخليج العربي والبحرين الأحمر والمتوسط.. أما الهدف الثاني فكان مسارعة روسيا لنيل أكبر نصيب ممكن من تَركة الدولة العثمانية التي كان كل ذي عينين يدرك أنها في طور الاحتضار..
وبالفعل فقد حاول نيقولا أن يقنع فرنسا وإنجلترا - كلا على حِدة - بالتحالف معه لتقاسُم أجزاء الإمبراطورية العثمانية ملوّحًا لبريطانيا بدعم استحواذها على مصر ولفرنسا بدعم استيلاءها على تونس.. إلا أن الدولتين الغربيتين رفضتا العرض الروسي لإدراك كلا منهما أن دخول الروس في تلك المنطقة سيهدد مصالح كلا منهما خاصة تلك المتعلقة بالطريق بين إنجلترا وأملاكها في الهند.. وعليه فإن مصلحتهما تقوم على الحفاظ على الجسد العثماني من التمزق لأطول فترة ممكنة..
أما الجانب الشخصي من موقف القيصر الروسي فكان ببساطة رغبته أن يدخل التاريخ كحاكم قوي يحقق توازن القوى في أوروبا في مواجهة فرنسا وإنجلترا ويعيد مجد القياصرة الأرثذوكس العظام، فضلًا عن أنه-كأغلب الأنظمة الأوروبية الحاكمة آنذاك-كان يسعى لنقل الاهتمام الشعبي لقضايا خارجية كمحاولة للتصدي لموجة التحرر الثوري التي كانت قد بدأت في الانتشار في أوروبا..
***
بداية الأحداث: دبلوماسيًا
مهّدت روسيا للحرب من خلال حشدها القوات على حدودها مع الإمبراطورية العثمانية وإيفادها الأمير متشينكوف إلى الباب العالي بحجة تسوية قضية الأماكن المقدسة وكذلك قضية المحاولات التحررية ل"الجبل الأسود" في البلقان-تلك المحاولات التي كانت روسيا تدعمها بشدة طمعًا في خلق "مخلب قط" لها تغرسه في جانب الجسد العثماني.. تلك القضية الأخيرة كانت هي المحرك الأقوى للسياسة الروسية تجاه العثمانيون، ولم تكن قضية المقدسات إلا ذريعة..
قدّم متشينكوف للباب العالي المطالب الروسية وهي:
-سحب جميع الامتيازات الممنوحة لرجال الدين الكاثوليك في الأراضي المقدسة ومنحها للأرثذوكس.
-الاعتراف بحق روسيا في رعاية الأرثذوكس في جميع أنحاء الدولة العثمانية.
-إبرام معاهدة دفاع مشترك مع روسيا للتصدي لأي اعتداءات على الدولة العثمانية.
كما طالب المبعوث الروسي بإغلاق المضائق في وجه السفن الفرنسية والإنجليزية..
بعد مشاورات بين السلطان ورجاله من ناحية وبين العثمانيون والسفراء الأوروبيون من جهة أخرى استقر القرار العثماني على رفض المطالب الروسية.. وبدأ الجميع في الاستعداد للحرب، فتحركت قطع الأسطول الفرنسي إلى "سلامين" في اليونان، بينما انتظرت القطع البحرية الإنجليزية في مالطة الأوامر للتحرك..
أما روسيا فجاء ردها سريعًا بعبور قواتها نهر "بروت" الذي يفصل بين أملاكها والأملاك العثمانية، واحتلت القوات الروسية "الأفلاق والبغدان"(والاشيا ومولدوفيا) للضغط على العثمانيون بعد خطبة عصماء ألقاها القيصر نيقولا الأول معلنًا نفسه حاميًا للأرثذوكسية ضد التدخل العثماني في الشأن الديني المسيحي!
وبدأت الحرب
أرسل السلطان العثماني إلى روسيا احتجاجًا على هذا التحرك العدواني، لم تعره روسيا اهتمامًا، وبادرت كلا من فرنسا وإنجلترا بإرسال قواتها البحرية إلى البحر الأسود في خليج بسيكا، وأنذرتا روسيا بالانسحاب الفوري من الأراضي العثمانية المحتلة..
كان القيصر الروسي يتوقع أن تحركه العسكري ضد الدولة العثمانية لن يؤدي إلى تحرك مماثل ضده من قِبَل فرنسا وانجلترا، كما كان يتوقع أن فرنسوا جوزيف إمبراطور النمسا والمجر سيسارع للوقوف إلى جانب روسيا، اعترافًا منه بجميلها إذ ساعدته في قمع ثورة المجر ضده سنة 1848.. ولكن القيصر كان قد أخطأ قراءة الموقف الفرنسي الإنجليزي من أي تواجد روسي قرب البحر المتوسط..
أما العاهل النمساوي - الذي لا يريد لبلاده أن تدخل حربًا غير ذات فائدة لها - فحاول أن يمسك العصا من المنتصف بدعوته لمؤتمر في فيينا يجمع الأطراف المتصارعة، إلا أن كلا من العثمانيون والروس امتنعوا عن حضور المؤتمر الذي لم ينجح في نزع فتيل الحرب..
هنا أعلنت كلا من الدولة العثمانية وروسيا الحرب رسميًا، وتحركت القوات العثمانية إلى نهر الدانوب حيث عبرته وانتصرت على جيشًا روسيًا هناك.. بينما كانت قوة عثمانية أخرى تخترق الحدود مع روسيا وتحتل قلعة سان نيقولا..
سارع القيصر نيقولا إلى طلب العون من نظيره النمساوي إلا أن هذا الأخير لم يجد مناصًا من مصارحته بان مصلحة بلاده تقضي ببقاءها على الحياد.
بُذِلَت محاولة دبلوماسية أخرى لتهدئة الوضع كان صاحبها العاهل الفرنسي نابليون الثالث الذي عرض على روسيا في يناير 1854 الانسحاب من ولايات الدانوب-مولدوفيا ووالاشيا-مقابل تنظيم مؤتمر للنظر في أمر الصلح مع الدولة العثمانية إلا أن روسيا رفضت العرض مما دفع فرنسا وإنجلترا لدخول الحرب رسميًا على روسيًا في مارس من نفس العام.
بدأ الفرنسيون والإنجليز في قصف مرفأ أوديسا الروسي وبعض المرافيء الروسية على البحر الأسود.
في ذلك الوقت كان جيشًا روسيًا يعبر الدانوب ليواجه جيشًا عثمانيًا ويهزمه عند مدينة سيلسيتريه، إلا أن انتشار الكوليرا في صفوف الروس حال بينهم وبين الاستيلاء على المدينة.
هنا فوجيء القيصر الروسي بصفعة هائلة، فالنمسا قامت بإبرام اتفاقية دفاعية ضد الروس مع دولة بروسيا، وانضمت إلى التحالف الإنجليزي الفرنسي العثماني، وأرسلت إنذارًا لروسيا بالانسحاب من ولايات الدانوب العثمانية، وتدخل ملك بروسيا عند القيصر نيقولا ناصحًا إياه بالانصياع للإنذار.. ولم يجد القيصر مناصًا من القبول، وهكذا دخلت القوات النمساوية المنطقة باعتبار أنها تقوم بمهمة "حفظ للسلام" وفصلت بين الجانبين المتحاربين الروسي والعثماني..
وهكذا انتهت الحرب على جبهة الدانوب.. ولكنها انتقلت بأكملها لجبهة القرم.. فالحلفاء ضد روسيا لم يكونوا ليهدئوا إلا بضمان انتهاء الخطر الروسي على الدولة العثمانية!
***
في سبتمبر 1854 قامت القوات المتحالفة بعملية إنزال قرب ميناء سباستبول الروسي على البحر الأسود، وبسبب أخطاء في التخطيط الحربي تأخر سقوط المدينة في أيديهم إلى العام 1855 وإن كانوا قد استطاعوا كذلك السيطرة على ميناء أوديسّا..
كان الهدف من هذا التدخل العسكري في الأراضي الروسية هو القضاء على القوة البحرية لروسيا وإغلاق الباب تمامًا لأية فرص مستقبلية لاعتداء الروس على الأراضي العثمانية..
واستمرارًا في سياستها لإقرار السلام، تدخلت النمسا لدى الدول المتحاربة بمذكرة تضمنت أربعة بنود مقترحة لإقرار السلام:
-استبدال الحماية الروسية على ولايتا "الأفلاق والبغدان"(والاشيا ومولدوفيا) بضمان أوروبي بموافقة الباب العالي.
-حرية الملاحة لجميع الدول في نهر الدانوب.
-إعادة النظر في اتفاقية المضائق لسنة 1841 لصالح التوازن الأوروبي.
-تخلي روسيا عن حقها في رعاية مسيحيي منطقة البلقان.
بينما وافقت الحكومة العثمانية على المذكرة، رفضتها نظيرتها الروسية باعتبار أن بنودها مهينة لروسيا.. فشدد الحلفاء من ضغطهم العسكري على جبهة القرم، وانضمت دولة سردينيا الإيطالية إلى الحلفاء في حربهم ضد روسيا، كما قامت السويد بخطوة مماثلة بسبب الضغوط الروسية عليها فيما يتعلق باستغلال الموانيء الإسكندنافية..
هنا كانت روسيا تودع عهد نيقولا الأول الذي وافته المنية في مارس 1855 وخلفه ابنه إسكندر الثاني، بينما كانت النمسا تنتقل من خانة الوسط إلى موقف التحالف الكامل ضد روسيا..
ومع كل تلك الضغوط، اضطر الروس للتسليم بالأمر الواقع، وأعلنوا الموافقة على إنهاء حالة الحرب، وبالفعل تم عقد مؤتمر السلام في باريس في فبراير 1856 .
***
كان هذا تلخيصًا لحرب القرم المذكورة.. ولكن لا يكتمل الحديث دون التطرق للدور المصري في الأمر.. والواقع أن البعض يتناولون هذا الدور بالتضخيم والمبالغة المفرطة باعتبار أن مصر كانت طرفًا فاعلًا في تلك الأحداث.. ولا أدري ما العيب أو الإساءة في أن نعترف بحقيقة أن الأمر الواقع آنذاك كان يقول أن مصر كانت مجرد تابع للدولة العثمانية.
إلا أنني-من جانب آخر-لا أقصد أن أغفل الدور الحربي المصري في العمليات العسكرية.. فبشهادة من عاصروا العمليات العسكرية خلال تلك الحرب فإن المصريون قد ضربوا مثلًا رائعًا في الشجاعة والاستبسال والانضباط، أما من الناحية السياسية فكان الأمر يتوزع بين رغبة النظام الحاكم لمصر في الاستفادة من تلك الحرب، ورغبة الباب العالي في استغلال الإمكانيات الحربية المصرية وتوظيفها لصالحه.
***
في الوقت الذي اندلعت فيه حرب القرم كان عباس يجلس على عرش مصر باعتباره مزيجًا من الوالي المُعَيَن من قِبَل السلطان العثماني، والحاكم شبه المستقل الذي ورث حكم البلاد عن مؤسس الأسرة العلوية محمد علي باشا..
ووفقًا لفرمان يونيو 1841 فإن والي مصر لم يكن له أن يزيد عدد أفراد الجيش عن 18000 فرد في وقت السلم، يمكن زيادتها في وقت الحرب، وألا يقوم ببناء أية سفن حربية إلا بأمر الباب العالي، فضلًا عن التزامه بأن يحمل الجنود المصريون نفس الشارات والرايات العثمانية، وألا تختلف أزياءهم أو علاماتهم عن تلك التي يحملها جنود جيش السلطان، كما نُص في الفرمان على أن على والي مصر إرسال 400 جندي مصري سنويًا إلى الأستانة ليكونوا تحت أمر السلطان، وكان التزام الباب العالي بإقرار أسرة محمد علي في حكم مصر مرتبطًا بالتزام بنود هذا الفرمان..
إلا أن عباس كان قد تجاهل البند الخاص بعدد قوات الجيش والتي ظلت في زيادة حتى تجاوز تعدادها في عهده 94000 مقاتل.. وكان سبب ذلك هو خشيته من غدر الحكومة العثمانية به، فضلًا عن إدراكه أن وجود هذا العدد الضخم من القوات تحت يده هو الوسيلة التي تقيه هذا الغدر..
ولأن الفرمان سالف الذكر كان ينص على التزام مصر بكافة المعاهدات الدولية التي تبرمها الدولة العثمانية، فإن عباس قد وجد نفسه ملتزمًا بالمشاركة في الحرب ضد روسيا..
كانت في مشاركة مصر في تلك الحرب عدة فوائد لعباس، فأولًا كانت حالة الحرب ذريعة ممتازة لزيادته تسليح وتعداد الجيش المصري، وإكمال بعض الإصلاحات الحربية التي بدأها إبراهيم باشا، وثانيًا فإن مده يد العون للباب العالي كان بمثابة رسالة لهذا الأخير أن عليه الحفاظ على هذا الحليف القوي على عرش مصر في وقت كان أقارب عباس فيه يحيكون المؤامرات ضده في الأستانة، وثالثًا فإن عباس كان يحاول أن يستبدل التقارب المصري الفرنسي بآخر مصري إنجليزي، ودخول الحرب في جانب تجتمع فيه كلا من انجلترا والدولة العثمانية هو فرصة خيالية له ليتقرب لكلا منهما.
وبالفعل، فإن في يوم 28 يوليو 1853 قام الأسطول المصري بنقل قوات بلغ تعدادها 20000 مقاتل بقيادة سليم باشا فتحي- وهو أحد أبطال حروب إبراهيم باشا في الشام والأناضول - إلى الأستانة ومنها لمسرح العمليات الحربية في الدانوب.
كانت القوة المصرية تنقسم إلى سبعة آلايات (كتائب) من المشاة، وآلاي من الخيالة، و12 بطارية مدفعية، وكانت القوة مزودة ب40000 بندقية و672 مدفع. أما القوة البحرية فكانت عبارة عن 12 قطعة بحرية منها ثلاثة قطع كل منها مزودة بمئة مدفع، وأربعة مزودة بستون مدفع، وثلاثة مزودة ب24 مدفع وباخرتان بكلا منهما إثنا عشر مدفعًا..
فور وصول الجيش إلى ميدان المعركة قام بالمرابطة في "ساستريا" التي تعرضت لهجوم روسي عنيف انكسر على صخرة استبسال القوات المصرية في الدفاع عن المدينة، وأثبت أنه قد أجاد تعلُم الطرق الحديثة في القتال، حتى أن الجنرال أسمونت - أحد قادة الجيش المصري - قد شهد للمصريين بالتفوق على الفرق التركية.. كما تحرك الأسطول إلى البحر الأسود حيث اشتبك مع نظيره الروسي الذي أغرق بعض القطع المصرية فقامت باقي القطع بنقل القوات المتبقية إلى ثغور البحر الأسود..
بعد انتقال الحكم من عباس إلى سعيد بسبب وفاة الأول استمر الوالي الجديد في اهتمامه بأمر تلك الحرب المشتعلة في القرم.. وسارع بإرسال الإمدادات إلى القوات المشتبكة هناك والتي كانت تحقق الانتصارات المبهرة رغم معاناة الجنود المصريون من انخفاض درجات الحرارة في شتاء 1854-1855 في الأجواء الجليدية التي لم تعتدها الأجساد المصرية..
كانت القوات المتحالفة قد احتلت مدينة "إيباتوريا" من ثغور القرم لاستخدامها لضرب المواقع الروسية في شبه الجزيرة، وتولى المصريون الدفاع عن تلك المدينة ببسالة رغم تعرضهم لخسائر بشرية فادحة نتيجة العمليات الحربية والأمراض.. وفي يوم 18 فبراير 1855 استشهد سليم باشا فتحي قائد القوات المصرية بالقرم ليخلفه أحمد باشا منكلي، إلا أن هذا الأخير قد أصيب بمرض خطير اضطره لتسليم القيادة لإسماعيل باشا أبوجبل.
وعلى الجانب البحري فُقد الجيش المصري حسن باشا الإسكندراني قائد الأسطول وسنان بك أحد قادته ونحو 1920 مقاتلًا غرقوا جميعًا في البوسفور بسبب اصطدام سفينتان مصريتان نتيجة عاصفة عاتية هبت على السفن المصرية خلال تحركها من الأستانة بعد إجراء بعض عمليات الإصلاح والصيانة..
وأخيرًا.. في 1856 انتهت الحرب بإتفاقية باريس سالفة الذكر ..
أما على الجانب المصري، كما أفاد عباس من المشاركة المصرية في حرب القرم فإن خليفته سعيد قد سعى للمثل، ففي عام 1856 بعد انتهاء الحرب أمر بإصلاح السفن المصرية وإنشاء سفن جديدة استمرارًا لسياسة سلفه في تكوين قوة حربية مصرية قادرة على توطيد حكم أسرة محمد علي في مصر.
***
هكذا كانت حرب القرم بمثابة مصباح علاء الدين للقوى المتصارعة: فرجل أوروبا المريض - الدولة العثمانية - كسب بضعة عقود من العمر في فترة احتضاره، وروسيا التي كانت تطمع في أن تطلق على هذا المريض رصاصة الرحمة لتسارع إلى نيل نصيب الأسد من تركته استطاعت - وفقًا لبنود اتفاقية باريس 1856 - أن تخلق لنفسها دورًا قويًا في البلقان والدانوب من خلال الشعوب الساعية للانفصال عن العثمانيين كالصرب والبوسنة والجبل الأسود، أما إنجلترا وفرنسا فقد حققتا نصرًا مزدوجًا فمن ناحية صار تدخلهما في شأن الولايات العثمانية-بالذات مصر-أكبر وأعمق، ومن ناحية أخرى فإنهما استطاعتا تأجيل إعلان وفاة العملاق العثماني إلى حين ترتيب كلا منهما أوراقها وخططها لتقسيم التركة بهدوء فضلًا عن إنهاكهما روسيا بحرب لم تخرج منها تلك الأخيرة إلا وقد وهنت عظامها، وأسرة محمد علي استطاعت أن تحصل لنفسها على مزيد من الاستقلال ولو بصورة شكلية ومؤقتة، والنمسا أثبتت قدرتها على مزاحمة الدول الأوروبية الكبرى إن لم يكن حربيًا فدبلوماسيًا..
هكذا يمكن لحرب بدأت بدعوى الخلاف على الأماكن المقدسة، ودارت في شبه جزيرة صغيرة تقع على مسافة كبيرة من مكان الخلاف، أن تحقق مكاسب لدول وأنظمة تتوزع بين ثلاث قارات! وما هذا على ما تفعله السياسة بعجيب!
ملحق:
نص معاهدة باريس 25 فبراير – 30 مارس 1856

مصادر المعلومات:
1-الدولة العلية العثمانية: محمد فريد بك
2-الجيش المصري في القرن التاسع عشر: د.محمد محمود السروجي
3-العثمانيون: د.محمد سهيل طقوش
4-مصر في عهدي عباس وسعيد : د.زين الدين شمس الدين نجم
5-تاريخ الشعوب الإسلامية: كارل بروكلمان


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.