منذ أسبوع تقريبًا استيقظت على أعلى صوت سمعته منذ انهارت العمارة المجاورة لنا عندما كنا نقطن بمنطقة اسمها "بركة الفيل" في السيدة زينب منذ سنوات، لكن الصوت هذه المرة كان أعلى، وصداه تردد لثوانٍ متعددة بعده، ولم يكن مكتومًا كالصوت السابق، ارتجت جدران منزلنا الهزيل بعنف، وأصدرت الشبابيك صوتًا بدا لي أنه يأذن بتكسر الزجاج في أي وقت، لكن لحسن الحظ لم يحدث. حين خرجت للبلكونة، كنت أنتظر أن أرى سحبًا كثيفة من الغبار الأصفر، كما حدث من قبل، لكنني لم أر سوى دخان أسود كثيف وثقيل وبعدها بدقائق لم يعد له أثر سوى من مكان بعيد ما، قلت في سرّي "يا رب ما تكون المديرية"، لكن الله لم يستجب لدعائي، وكانت بالفعل مديرية الأمن، والأدهى أن ذلك لم يكن انهيارًا في المبنى أو حريقًا، كانت تلك ببساطة عملية تفجير مديرية أمن القاهرة. وحين حادثني صديقي من دبي هاتفيًا بعدها بدقائق يطمئن عليّ، كان صوتي مرتجفًا، أقرب للبكاء، كنت مذعورة وخائفة ومعدلات الأدرينالين لديّ كانت من القوة بحيث كنت غاضبة جدًا من أي شخص يحاول الاستظراف أو السخرية مما حدث على "فيسبوك" الذي كنت أتابعه كالمجنونة لأعرف ما حدث، فقنوات تليفزيون مصر الرسمية الجميلة لم تعلن عن أي شيء حتى بعد التفجير بحوالي نصف الساعة. بنهاية اليوم الأسود، كنت قد تخليت عن نبرة الذعر والخوف والقلب الذي يتمزق من الأسى، وبدأت في الشعور بالغضب الشديد، وفي الوقت نفسه، بالسخرية الشديدة من موقفي الصباحي السابق. كنت قد تقبلت الأمر، أن ما حدث قد حدث فعلا، وأنها ليست المرة الأولى، ولم يتبق سوى أن أتقبل أنها لن تكون المرة الأخيرة. بدأت أفكر في أنني لم أعد أحتمل كل ذلك العبث، وأنني إن كنت قد تخليت مرة عن الخوف والجُبن الذي تربيت عليه بما يكفل لي الاستمرار على قيد الحياة عندما بدأت المشاركة في مظاهرات ما قبل ثورة يناير 2011، وفي احتجاجاتها هي نفسها وما تلاها، فإنني لا أتصور أو أقبل أن يأتي يوم أخشى فيه على حياتي من قنبلة بدائية الصنع مررت جوارها داخل أتوبيس أو مشيًا على الأقدام أو ساقني حظي العثر لأتواجد بشكل ما قربها في محل سكني، أو أن أتواجد في المكان الخطأ وفي الزمان الخطأ فتقتلني رصاصة طائشة من اشتباكات بين طرفين لا أهتم لأي منهما ولا أقبل في الواقع أن أميل تجاه تأييد ما يقومان به تحت أي مبرر أو سبب. شعرت أن ما يؤذيني حقًا ليس انتشار الفاشية حتى أصبحت أكثر شيوعًا من "صباح الخير"، أو الثورة المضادة التي نجحت في أن تأكل العنصر الوحيد الذي كان يضمن مستقبلًا أكثر نظافة لأجيال قادمة، ما يؤذيني حقًا هو أن الموت أصبح مجانيًا للغاية، وعبثيًا للغاية، وأنه صار قاب قوسين أو أدنى منا جميعًا، في أي وقت، ولأي سبب، أو أحيانًا دون حتى أسباب. تخيل أن تخرج من بيتك لتذهب إلى أي مكان ولا تعود، أنك حتى وأنت قابع في بيتك، لست آمنًا، أنك حتى وأنت تتجنب كافة أنواع الصراع، مهما كان صراعًا هزليًا أو خطيرًا، مازلت عرضة للخطر، تخيل أن تتحول حياتك دائمًا لاحتمالية أن تذهب هباءً دون أن تعرف لماذا، بما يمنحك فقط الإمكانية للغضب، ولكنك لا تستطيع الرفض أو الفكاك من ذلك المصير. الموت المجاني العبثي هذا يأتي إليك مغلفًا أحيانًا بمصطلحات تشبه البنج الموضعي، "الحرب على الإرهاب"، "الضحايا"، "الشهداء"، وسواء كنت تصدق في تلك الأشياء أو تكفر بها، أنت دائمًا مهدد بأن تكون مجرد رقمًا في عداد ذلك الموت العبثي، موتك لن يغير شيئًا، ولن تتسنى لك الفرصة لتسأل "ليه" أو "ما ذنبي؟"، يمكنك طبعًا أن تنجو بما يشبه الأعجوبة من الاشتباكات والرصاص وقنابل الغاز والمدرعات إذا كنت قد اخترت بالفعل أن تخرج من بيتك حاملًا روحك على كفيك، وأنت تعرف من البداية أن قرارك يمكن أن يرسلك مباشرة إلى القبر، لتتحول فيما بعد إلى جرافيتي على أحد الجدران، لكن ماذا لو أنك لم تختر كل ذلك من البداية؟ ماذا لو أنك اخترت ألا تشارك في المعارك الدائرة لأنك لا تهتم بمن الفائز بها ولا تهتم بقضاياها من الأصل؟ ماذا لو أنك كنت تشبه بطل فيلم "فرش وغطا" الذي هرب من كل شيء كانت نهايته فيه وشيكة للغاية، ليلقى حتفه في النهاية على يد رصاصة طائشة مجهولة المصدر في اشتباكات طائفية غبية في مكان لم يكن ينوي الذهاب إليه ليموت من الأساس؟! يسألني صديقي "إنتي خايفة ولا إيه"؟ ولا أظن أنه كان يتوقع إجابتي الحادة بالإيجاب "طبعًا"، ربما كان يجب أن أطمئنه بعدها أنني الآن أصدق في كل مرة أخرج من بيتي فيها بأنني لن أعود له، وأنني صرت أسلّم بحتمية الأذى لمجرد أنني مواطنة مصرية أوقعها حظها العاثر في حقبة زمنية يقودها طرفان يتسمان بالجنون والفاشية والغباء، وأنني صرت أتعامل مع كل شيء باعتباره "الأخير"، وأنني من شدة خوفي وذعري ويأسي بت لا ألوي على شيء، سواء كانت قنبلة على بعد 10 دقائق مشي من بيتي، أو اشتباكات تقطع عليّ طريقي الرئيسي أو صوت إطلاق رصاص في منتصف الليل بالقرب من قسم السيدة زينب الذي خنقتني نيران حريقه يوم 28 يناير 2011 والآن لا أستطيع العبور جواره لأنه احتل الشارع الرئيسي بأكمله. الآن صرت أدرك أن كل لحظة يمكن أن تكون الأخيرة، وأنني أو أحد والدّي الأعزاء، يمكن أن نكون رقمًا منسيًا ذات يوم، ولن نعرف لماذا أو ما ذنبنا، وحيث إن الموت صار مجانيًا وعبثيًا إلى هذه الدرجة، لماذا لا نضحك الآن من كل تلك الأوقات التي تحفزنا وتعصبنا وتشنجنا فيها من أجل ما بدا وقتها أنه قضية وحدث جلل، لماذا لا نتوقف عن التعامل بجدية مع كل شيء؟! عزيزي المواطن المصري، دع القلق، وابدأ المسخرة، لا تأخذ الأشياء بجدية ولا تتشنج في الدفاع عن شيء، تعلّم كيف تحب القنبلة وتتعامل مع الاشتباكات باعتبارها مجرد "مطب" مصري الصنع يمكن تجاوزه من خلال تغيير الشارع. تذكر أنه بعد كل خبر عن اغتيال أو انفجار أو مقتل (عدد لا بأس به من المواطنين) مباشرة، لن تُترك وشأنك ليأكلك القلق أو الاكتئاب، وإنما سيذكرك التليفزيون الرسمي ومحطات الراديو مشكورين بالأسباب التي تجعلك تفخر لكونك مصريًا، وتنغزك لتسألك "ماشربتش من نيلها"، أو تعود لتطلب منك ببساطة ألا تنسى أن مصر بحالتها الراهنة والموت الذي يتجول في أنحائها مازالت "أم الدنيا وقد الدنيا". ربما عليك أن تعود لتهتم بالانقسام الأكبر، الأهلي أو الزمالك، أو أن تترقب صدور ألبوم الهضبة الجديد، ربما يجب أن نعود جميعًا لأيام ليالي التلفزيون وسينما يوم الجمعة، للمشاجرات على الأنواع الأدبية وشد الشعر عندما ينجعص أحدهم ليقول إنه ما من شيء في الأدب اسمه "قصيدة النثر"، أو أن نترقب بدء العام الجديد ونهاية شهر يناير باعتباره عيدًا للشرطة، وأن تعود جماعة الإخوان المسلمين لأنشطتها الخيرية وتفكها تمامًا من مسألة السلطة والتمكين، ولا بأس إذن أن نرحب بالسيد جمال مبارك، طالما أصبح هو الوحيد المفتقد من المشهد العام المصري، بعد أن عادت إلينا كل الوجوه القديمة التي صاحبته.. عزيزي المواطن، اغتنم الفرصة الآن، فالنسبية المطلقة مجانية ومريحة تمامًا كالموت.