حتى لو كنت ممن يختلفون مع عشاق الرئيس الراحل أنور السادات الذين يؤمنون بكونه سابقا لعصره، فلن تستطيع أن تنكر أنه فعلا سبق الجميع فى ترشيح الفريق عبدالفتاح السيسى لرئاسة الجمهورية كما كشف لنا تسريب المنامات الشهير (راجع مقالا سابقا لى بعنوان ما هو السيسى رئيسى فعلا). المهم الآن أن يدرك الفريق السيسى وهو ينشغل بوضع اللمسات النهائية على إخراج قرار ترشحه للرئاسة، أن أخطر أعدائه بعد حلف اليمين لن يكون جماعة الإخوان التى يمكن أن يحيدها بشكل أو بآخر مما فعل سابقوه، ولا القوى الثورية الشابة التى ستعارض أى شخص يصل إلى الحكم إذا استمر فى تطبيق سياسات مبارك وسابقيه ولاحقيه، بل إن أعدى أعدائه لن يكون سوى قوى النفاق الخلاقة التى لم تترك رئيسا لهذه البلاد إلا وعزلته عن رؤية الواقع وإدراكه، فكانت أبرز أسباب فشله وهلاكه، حتى لو كان صاحب الإنجاز العسكرى الأبرز فى تاريخ مصر. يروى أستاذ الصحافة الكبير الراحل الدكتور إبراهيم عبده فى كتابه المهم (ومن النفاق ما قتل) واقعة حدثت قبل وقت قصير من مقتل السادات، مفادها أن جورج بوش الذى كان وقتها نائب الرئيس الأمريكى رونالد ريجان خطب فى مأدبة أقامها للاحتفاء بالسادات خلال زيارته لواشنطن فقال إن الله خلق العالم فى ستة أيام، وكان يخلق كل يوم ملايين البشر وملايين الزواحف والأنعام، ثم خصص يوما لخلق السيد المسيح، وفى يوم خلق الرئيس السادات ولم يخلق فى ذلك اليوم شيئا آخر اكتفاء بهذا العمل العظيم. وعندما انتهت الوليمة التفت الدكتور مصطفى محمود إلى رؤساء تحرير الصحف المصرية، وقال لهم إياكم أن ترسلوا بهذا القول إلى صحفكم فإنه سيقيم الدنيا ويقعدها، وعقبت السيدة أمينة السعيد بأن نشر عبارة بوش سوف تسىء إلى المسلمين والمسيحيين. وفى اليوم التالى استدعى السادات رؤساء التحرير باسم الثغر منشرح الصدر، وسألهم هل استوعبوا ما قاله بوش، فتبرع منافق منهم بضرب مهموز فى أمينة السعيد قائلا إنها نصحت بعدم إرسال ما قاله بوش لصحفهم، ليؤكد الجميع أنهم خالفوا نصيحتها وأرسلوا نص ما قاله، لينظر السادات شزرا إلى أمينة السعيد دون أن يقول لها شيئا لحبه لها، لكنه حملها فى داخله مسئولية نشر ذلك الكلام التافه الذى قاله عنه جورج بوش رغم أنه لو نشر لكان قد أضر السادات ولم ينفعه. يقول الدكتور إبراهيم عبده راويا واقعة أخرى «عندما قال السادات فى خطبة ألقاها بمناسبة تأسيس جامعة الشعوب العربية والإسلامية أن رفاعة الطهطاوى قاد الجماهير لمحاربة الولاة والخديويين، فكتبت للرئيس رسالة أنبه إلى أن الرجل نشأ وعاش ومات فى حجر السلطة، وأنه كان رجل علم، ولم تكن هناك صحف تصل بينه وبين جماهير المصريين، حتى يشتغل هو أو غيره من الإعلام بالشئون السياسية. ومن طريف ما حدث أن الرئيس بعث برسالتى إلى كاتب خطبته، ويبدو أن كاتب الخطبة كان قد استعان بصديق فى كتابتها فطلب إليه أن يرد على رسالتى، وإذا بى أقرأ من غير مناسبة مقالة عن الطهطاوى فى إحدى صحف الحكومة فى 9 ديسمبر 1980 يحدثنا فيها كاتبها أن الطهطاوى ترجم دستور 1866 وأنه أول من ذكر فى كتبه لفظ (الوطنية) و(الأمة) وبذلك يكون الرجل زعيما سياسيا، مع أن كلمة الأمة ذكرها الله تعالى حين قال للمسلمين كنتم خير أمة أخرجتم للناس، واستعمل المؤرخون كلمة الوطنية والوطن قبل أن يولد الطهطاوى بقرون. وهكذا صوروا للرئيس رحمه الله أن الطهطاوى الذى ترجم الدستور بأمر من الخديو إسماعيل، زعيم سياسى يقف على قدم المساواة مع مصطفى كامل وسعد زغلول ومصطفى النحاس». ويضيف قائلا «من الخطب التى وضعت للرئيس وألقاها فى مجلس الشعب فى نوفمبر 1980 خطبة جاء فى فقرة منها أن الحقوق التاريخية لعروبة القدس «لا يمكن تجاهلها» وأنه تحدث فى هذا الأمر مع بيجين، وقال له «إن الأب اسطفانوس رفض تسليم القدس إلا للخليفة عمر بن الخطاب وكان ذلك بعد الحروب الصليبية» ومعنى ذلك أن القدس سُلمت لعمر بن الخطاب بعد وفاته بنحو ثمانمائة عام. أما فى خطبته الأخيرة فقد ظهر جهل معدى خطبه بالتاريخ حين كرر السادات ست مرات، أن نوبار باشا ولى الحكم بعد سعد زغلول سنة 1924، بينما نوبار باشا هذا مات قبل استقالة سعد زغلول، والذى ولى الوزارة بعد سعد هو زيور باشا. ومن النفاق الحقير أن صحفيا مرموقا اتصل بالرقيب الخفى الذى لا يعلن عنه، وبين له وجه الحق فى المسألة ليصدر أوامره لتصحح الصحف اسم الرجل الذى جاء فى الوزارة بعد سعد زغلول، ولم يكتف بهذا الصحفى المرموق بل اتصل بالصحف نفسها، ولما كان الجبن سيد أخلاق المنافقين فإن رؤساء الصحف لم يجرؤوا على تصحيح الواقعة حتى لا يغضب السلطان، وصدرت الصحف جميعا فى اليوم التالى إلا الأخبار وفيها أن نوبار باشا الذى مات فى القرن التاسع عشر جاء رئيسا للوزارة بعد سعد زغلول سنة 1924». يقول الدكتور إبراهيم عبده معلقا على كل هذه الوقائع التى لا تشكل سوى قطرة فى بحر النفاق الذى أغرقنا عبر السنين «صدقونى ما من أحد فى العالم يلقى هذا النفاق ويعيش وسط هذا الرياء ويقرأ ويسمع كل يوم وكل ساعة ولحظة أنه منزه ولا يخطئ، وأنه والأنبياء على قدم المساواة، وأن قوله لا يأتيه الباطل أبدا وأن فى مقدوره أن يرحم أو لا يرحم وأن فى استطاعته أن يرمى ببعض خصومه من رجال الدين فى السجون كالكلاب. ما من أحد فى العالم يحاط بكل هذا النفاق ويبقى على طبعه الأصيل، فلابد أن تغره الدنيا، ولا يقبل نقدا لسلطانه أو تصويبا لبيانه، فمن المسئول عن هذا كله؟، إنه النفاق الذى مهد لكل بلاء أصابنا أو أصاب السلطان». فاعتبروا يا أولى الألباب.