من الظواهر الأخرى للمرحلة الصعبة تلك التى يحاول فيها هؤلاء وأولئك حصر المصريين «بين المطرقة والسندان»، أن بعض ما بات يحكم الصراع «الذى لم يعد سياسيا للأسف» هو تلك القواعد الحدية المتطرفة لما يطلق عليه المعادلة الصفرية zero-sum game والمصطلح القديم، يعرفه الاقتصاديون ومتخصصو نظرية المباريات Game Theory، ويعنون به، إن أردنا تبسيطا: أن يرتبط مكسبك بالضرورة بخسارة الطرف الآخر. والأدهى، أو الأسوأ حين تعتقد أن ذلك لابد أن يكون مطلقا، مكسبا كاملا مقابل خسارة كاملة. والأمر أو الأشد سوءا حين لا يكون هذا الطرف الآخر عدوا بل «الدولة»، أو بعضا من «مواطنيها». شىء من هذا يحدث فى مصر. والشواهد على هذا للأسف تبدو واضحة جلية منذ اليوم الأول. بداية من رفض الجماعة نداء أخيهم ورفيقهم القديم عبدالمنعم أبو الفتوح فى هذا اليوم البعيد من يناير 2013، وليس نهاية بقرار تنتقل به الجماعة من وصفها «إعلاميا» بالمحظورة، لتوصف «رسميا» بالإرهابية. (راجعوا السجل الطويل لمبادرات أجهضت، وهناك من تمنى ذلك. وكان بعضها، للتاريخ قبل أن تراق نقطة دم واحدة: «الشروق» 15 سبتمبر 2013). ولعلى من الذين يعتقدون أن مشكلة جماعة تنزلق هكذا من اليوم الأول إلى خيار أن تكون معركتها صفرية، هى مشكلة فكرية، وثقافية، وتربوية أكبر بكثير من أن تحلها إجراءات أمنية مهما قست أو تجاوزت، أو لوحت بهراوتها. كما أنها بالتأكيد أكثر تعقيدا مما يظن أصحاب قرار/ أو بيان وصفها بالإرهابية. بل لعلى أرجو ألا يكون من بعض ذلك، «إجراءات وقرارات» ما يزيدها تعقيدا. ••• معادلة صفرية، هى ككل المعادلات الصفرية تفتقر إلى الحكمة، وتبدو وكأنها لا تكترث بالدماء. معادلة مجنونة لا تقرأ فى أرقامها غير أعداد الضحايا، ضباطا وجنودا «بسطاء»، تستهدفهم تفجيرات، ودعوات تحريض هنا وهناك، أو متظاهرين «بسطاء أيضا» تدور بهم يوميا عبثية المطالب وعنف الصدامات. وتسمع تعداد ضحاياهم مساء كل جمعة. ونعرف جميعا أن هؤلاء وأولئك سيتساوون «يوم الحساب» فى حرمة الدماء.. ولكنه جنون «المعادلة الصفرية». ••• عندما طالعت قبل أيام على موقع التواصل الاجتماعى twitter ما كان من جدال «تجاوز السخونة» بين الداعية الكويتى الشهير الشيخ مشارى راشد العفاسى وأصوات تقف فى مربع الإخوان المسلمين، أدركت إلى أى مدى وصلت «صفرية المعادلة». كان الشيخ الكويتى الذى يتجاوز عدد متابعيه على تويتر الثلاثة ملايين قد انتقد فى تغريداته ما اعتبره موقفا إخوانيا رافضا للإصلاح والمصالحة بين المصريين، محملا المسئولية بوضوح عن قتل المسلمين «لمن أمرهم بالمكوث فى الميادين» (الرابط إلى نصوص ما ذكره الرجل فى تغريداته مصاحب للمقال على موقع «الشروق»). ولا يعنينى هنا فى الجدل الذى احتدت ألفاظه وتطرق فى بعضه لما ورد فى كتب لسيد قطب، إلا ما كشف عنه وبدا لى مقلقا من انعدام لإمكانية الحوار، أو بالأحرى إمكانية الخروج من صندوق «صفرية المعادلة» الأصم المصمت. خاصة أن جدلهم فى هذه الحالة لم يكن مع أطراف ذات صلة أو متهمة مسبقا بانحيازها مع هذا أو ضد ذاك، أو مما يمكن «رجمها» ابتداء بكراهية الإسلام أو «المشروع». ••• «السياسة نسبية، والدين مطلق»، هكذا نعرف. وهكذا بدا من «حوار التغريدات» وما استدعاه أن من الروافد الرئيسة لصفرية معادلة الصراع فى مصر، وربما فى المنطقة كلها ما استحضر إليه قسرا من مقولات دينية نقلته من مربع الصراع السياسى الذى يحتمل بطبيعته «النسبية» الاختلاف فى الرأى، والبحث عن المشترك، إلى مربع «المطلق» والمقدس بطبيعته. فكان أن اقتنع البعض للأسف بفكرة مريضة جرى ترويجها وترديدها كل ساعة بأنها «معركة الإسلام ضد كارهيه». وكان أن اعتبر البعض أنفسهم «هم الأحرار»، وبقية المصريين «عبيدا»، فاعتبرهم المصريون بالتالى «خوارج» عنهم. زايد البعض على أغنية تتحدث عن «شعبين»، ولو تدبروا كلماتها جيدا، وكذلك كلمات الأغنية التى ردوا بها عليها، لاكتشفوا الحقيقة الموجعة. ••• هل يعنى ذلك أن الوقت مبكر للبحث عن المشترك؟ لم أكن أرغب أبدا فى إجابة تبدو يائسة على هذا السؤال. ولذلك عدت إلى أوراق دونتها كحصيلة لجلسات مطولة مع متخصصين وخبراء فى مركز العدالة الانتقالية بنيويورك ICTJ قبل حوالى الشهر، ومن بينهم أصحاب تجربة عملية فى مراحل التغيير والتحول الديموقراطى «الصعبة»، وبعضهم طلب منى بوضوح ألا أقلق فالمصالحة أو الوفاق الوطنى لا تأتى بكبسة زر، بل هى نتاج لطريق طويل لم نخط فيه بعد. وما أسمته علوم السياسة بالعدالة الانتقالية Transitional Justice هو «عملية مستمرة» تستغرق إجراءاتها وتدابيرها وقتا قصر أو طال. المهم أن نبدأ.. والقاعدة الذهبية هنا هى «أن تأتى متأخرا خير من ألا تأتى أبدا» ••• فى أجواء المعادلة الصفرية وفيما «بين المطرقة والسندان»، تبحث مصر/ الوطن عن طريقها «الذى تستحق» إلى المستقبل. إلا أن الحاصل أن «الاغتيال المعنوى» طال للأسف كل من حاول أن يتلمس الطريق وأن يقول «تعالَوْا إلى كلمة سواء». سبه هؤلاء متهمينه بالخنوع، وتثبيط همم المجاهدين، وشحذ الآخرون كل أسلحتهم آملين اصطياده، أو على الأقل تجريسه وتأديبه حتى لا يشغلهم عن «تنظيف البلد». «تبحث عن المشترك»، قاربا يحمل الوطن بجميع أبنائه إلى بر الأمان والسلام والمستقبل، فيردون عليك ردا قاطعا وباترا: «لا مشترك بيننا وبينكم». تدعو إلى طاولة يجلس حولها الجميع باحثين عن المستقبل، فتوأد المبادرة تلو الأخرى. ويكتفى البعض بما يسمعونه من موفدى الغرب ناسين حكاية صدام الشهيرة مع السفيرة الامريكية April Glaspie (25 يوليو 1990). تذكر بقولة مالك: «كل يؤخذ منه ويرد» فلا يعجب كلامك أولئك الذين خدعوا بسطاءهم فى رابعة بأن الملائكة يحرسونها، أو بأن النبى قدم رئيسهم ليؤمه فى الصلاة. تذكر بأنه لا استقرار إلا إذا شعر الناس بالعدل وسيادة حقيقية لقانون تحترمه الدولة قبل مواطنيها، فيضرب بكلامك عرض الحائط. ويتجاوز البعض استقواء بسطوته.. وسلطته. يحتد عليك نفر من هؤلاء وهؤلاء، طالبا منك الصمت أو الابتعاد حتى لا تشغله عن مهمته المقدسة، انتحارا، أو نحرا. وينصحك آخرون بألا تشغل بالك، وأن تدعهم وشأنهم، فهم اختاروا أن تكون «المعركة صفرية».. والمعارك الصفرية لا تنتهى هكذا بين عشية وضحاها. «ولن يجنى المخلص غير تمزيق ملابسه». أما البحث عن المشترك.. وخلاص الوطن، فلم يحن وقته بعد. يقولون إن «الدائرة الجهنمية» لا بد أن تكتمل حتى يتصل طرفاها. وأنه عندما يختار هؤلاء أو أولئك أن تكون معركتهم صفرية، فلابد للأسف أن تكتمل الدائرة، ونشهد ما شهدناه من «انتقام وانفلات» بعد جنازات المنصورة. من قرر واعيا أو مغيبا أن يسير نحو حتفه، لن تستطيع له مهما حاولت إنقاذا. ها قد ارتطمت العربة بالحائط. أو تبدو كذلك.. تثبت خبرة السنوات الثلاث، للأسف صحة ما يذهب اليه الناصحون. ولكنى أراهن على جيل جديد. وأظن أن مصر «ومستقبلها» تستحق المحاولة.. والأمل. كما أنى أظن أن «لسة الأغانى ممكنة». ••• وبعد.. أعرف أن هناك من قادته حساباته الخاطئة لأن يقرر فى البداية أن تكون «معركته صفرية»، وأتفهم أن لذلك تبعاته وثمنه. وأن كل نفس بما كسبت رهينة. إلا أننى أدرك أيضا أن القارب واحد، وإن اشتط، أو غفل عن ذلك يوما بعض راكبيه. كما أدرك، ككل طبيب أن جرعة زائدة من الدواء قد لا تقضى على جرثومة المرض وحدها، بل قد تودى بحياة المريض. كما أعلم أن الواجب يقتضى أن تبذل كل جهد ممكن لتمنع من يحاول الانتحار أن يكمل جريمته، فما بالك بمن بدا وكأنه اختار أن يرتدى حزاما ناسفا ولسان حاله يقول: «علي.. وعلى الجميع»، حتى ولو كان هذا الجميع هو «الوطن» أو المستقبل بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. إذا كان هؤلاء وأولئك قد اختاروا أن تكون معركتهم / معادلاتهم «صفرية»، فهذا شأنهم، ولكن أرجو أن يعرفوا جميعا، أن هذه ليست معركتنا. كنا نرجو الله حكمة تحول دون وصولنا إلى هنا. ولكن قدر الله وما شاء فعل. نسأله سبحانه «الأمن» للبلاد، «والعدل» للعباد.. واللطف فيما قدر.