فى شتاء 1972، وبينما كانت أجهزة المخابرات وفى مقدمتها الموساد تنبش الأرض بحثا عن معلومة محققة عن اعتزام المصريين بدء حرب تحرير سيناء، كانت هناك مجموعة من العمال فى بقعة ما بصحراء حلوان تسمى «شركة الحديد والصلب المصرية»، منهمكين فى تصنيع عبوات أغذية معدنية صغيرة هى «الإشارة والبشارة» لبدء التحضير للعمليات ضد العدو الصهيونى. حفظ العمال «السر الوطنى»، ونقلت تلك العبوات لشركات تصنيع الأغذية التى عبأتها بمؤن الجنود اثناء الحرب، حققت مصر نصرا عسكريا لافتا فى اكتوبر 1973، وبعد نحو 40 عاما على الحرب، يدخل عمال نفس المصنع فى اعتصام مفتوح منذ 26 الشهر الماضى، احتجاجا على عدم صرف 16 شهرا من حوافز الإنتاج و«الإنتاج الإضافى»، التى قررتها الجمعية العمومية للشركة فى أكتوبر الماضى. وبحسب نص قرار صرف الحوافز «نظرا للظروف الراهنة التى تمر بها الشركة من توقفات بسبب نقص فحم الكوك والركود الاقتصادى بسبب الاحداث السياسية الراهنة، ونظرا للظروف وللجهود الطيبة التى بذلها العاملون خلال العام المالى 2012/ 2013، ورغبة من إدارة الشركة فى تقدير جهود العاملين وتقديم أفضل مكافأة لهم، قرر المهندس سعد نجيدة، رئيس مجلس إدارة الشركة، صرف حافز انتاج للعاملين». اعتراف رسمى من قبل مجلس الإدارة والجمعية العامة للشركة، ب«جهود طيبة» خلال العام المالى، وتقديم مكافأة للعاملين، وعلى الرغم من ذلك لايزال هؤلاء العمال فى اعتصامهم. يظن الكثيرون أن كلمة الاعتصام مرادفة لوقف العمل، إلا ان عمال الحديد والصلب بحلوان أصروا على تصحيح ذلك المفهوم، وبينما كانت مجموعة من المعتصمين يرفعون اللافتات المطالبة بحقوقهم أمام مبنى الإدارة ويصيحون بالهتافات الرافضة لإهدار مستحقاتهم، لم تتوقف عجلة الإنتاج التى طالما نادت حكومات ما بعد ثورة يناير بضرورة تسييرها. وبين لحظة وأخرى ينبه المعتصمون زائرى المصنع من الإعلاميين أو الصحفيين، بالإشارة إلى سيارة تحمل «ألواحا حديدية» من منتجات الشركة، أو أخرى تنقل كتلا رملية بداخلها خام الحديد للبدء فى تصنيعها، حيث يعتبرون أن استمرار العمل هو «صك براءة» من الاتهامات التى تلاحقهم بتعطيل المصنع المسجل على قوته نحو 12 ألف عامل. «بالنسبة لمصنع الحديد والصلب احنا وضعنا الحجر الأساسى سنة 1955 وحتى 1958، كانت الظروف صعبة، تضييق وحصار اقتصادى ومحاولات للعزل، ولكن نحمد ربنا أنه رغم هذا استطاع القائمون على العمل افتتاح المصنع فى التاريخ المحدد له رغم العدوان الثلاثى، ورغم الحصار». هكذا قال الرئيس الراحل جمال عبدالناصر فى افتتاح المصنع فى يوليو 1958. يقول القيادى العمالى بالمصنع همام يوسف، إن الانتاج تأثر بشكل بالغ بسبب تناقص كمية الفحم القادمة من شركة الكوك التى تم تأسيسها بهدف إمداد المصنع بالوقود، وأنه منذ عام 2010 بدأت الشركة فى تصدير الفحم للدول الأجنبية التى توقفت عن تلك الصناعة بسبب تلويثها للبيئة. ويبدى يوسف استغرابه من سماح الشركة القابضة التى تدير «حلوان للحديد والصلب» وشركة «الكوك» بتصدير الفحم على الرغم من الحاجة المحلية له، الأمر الذى يتسبب فى تعطيل الإنتاج وتراجع كمية الانتاج السنوية للمصنع. ويتابع: «هناك سيناريو ممنهج لتدمير الشركة والترويج لخسارتها»، ويشير إلى ما سماه «مقارنة ظالمة» يقيمها البعض بين حديد وصلب حلون والشركات الأخرى، التى تعتمد على أن عدد العمالة فى الأولى أكبر من غيرها، بينما لا ينعكس ذلك على الإنتاج، وهو ما يرد عليه القيادى العمالى بقوله: «تراجع كمية الفحم الذى يعتمد عليه العمل بالشركة، ونوع المعدات التى لم يتم تطويرها منذ أكثر من نصف قرن، هما السبب وراء تراجع الإنتاج وليس كفاءة العامل». ويضيف: «حديد وصلب حلون هى الشركة الوحيدة فى مصر التى تعتمد على إنتاج الحديد من مرحلة الخام، وحتى صورته النهائية، دون استيراد أى شىء، ما يعنى أنه فى حال تعرض البلاد لأزمة طارئة أو حصار من أى نوع، فإن هذه هى الشركة الوحيدة التى يمكنها انتاج الحديد كسلعة استراتيجية، وهو ما انتبهت له الدولة إبان حكم الرئيس عبدالناصر وفترة من حكم الرئيس السادات، إذ كانت هناك كتيبة دفاع جوى تابعة للقوات المسلحة، مكلفة بحماية المصنع». أيقونات فى داخل مكتبه بالمبنى الإدارى للشركة، جلس رئيس قطاع المناجم المهندس محمود بكير، بينما كانت خريطة المصنع التفصيلية تأخذ موقعها على جدار المكتب، وبالقرب منها صور لجمال عبدالناصر، والمسجد الأقصى، وميدان التحرير مكتظا بالمتظاهرين. لم يتفاعل بكير مع دعابة «أنه لم يكن ليستطيع وضع تلك الصور وتحديدا صورة عبدالناصر إبان حكم مبارك تجنبا لمضايقات أمن الدولة».. لم يتكلف الرجل عناء الرد واكتفى بابتسامة اتبعها بقوله: «صورة عبدالناصر فى كل مكتب ومن زمان، واللى مش عاجبه زمان أو دلوقت يخبط دماغه فى الحيط». يوضح الرجل على الخريطة التى يحفظها عن ظهر قلب، أن تلك القلعة مكونة من 5 آلاف فدان «3 آلاف للمصانع والورش، وألفى فدان لمدينة العمال ومساحة النادى والخدمات»، وحدودها شمالا الشركة القومية للأسمنت، ومنطقة عرب أبومساعد جنوبا، وشرقا طريق الاوتوستراد، وغربا طريق الكورنيش. ويكشف الرجل أن حصار المصنع من عدة جهات يسهل عملية سرقته بشكل شبه يومى، وتسليح افراد الامن غير كاف لحمايته، وما يتم سرقته عبر اقتحام الاسوار ليلا من منتجات المصنع، تزيد قيمته احيانا عن تكلفة الانتاج اليومى. الطريق إلى الورش إما أن تكون لديك سيارة أو تمتلك دراجة، حتى تتحرك بشكل كامل داخل مصنع الحديد والصلب، إذ تبدو الدراجات وسيلة لمعظم العاملين، بينما تساهم سيارات متهالكة فى نقل اخرين، نحو 10 دقائق قطعناها فى الطريق إلى ورشة «درفلة الشرائط على البارد» وهى مرحلة ما قبل بيع المنتج. بمجرد أن تخطو إلى الورشة تخطف بصرك الاسقف الحديدية الشاهقة، والتى نصبت على اعمدة من الحديد تم تشكيلها بعناية، بينما تضفى اشعة الشمس الهاربة عبر ثقوب السقف لتستقر على المنتجات التى تعلوها الأتربة. فى مدخل الورشة يقف العم ناصر عبدالغفار مرتديا «العفريتة» الزرقاء، بوجه بشوش يستقبل الزائرين، وكانت اولى كلماته: «الحمد لله الناس بتوصل من غير معاد علشان تشوف الإنتاج شغال، احنا مش بتوع عطلة»، يسير الرجل على نهج أقرانه المعتصمين فى مدخل المصنع الذين لايفوتون فرصة للتأكيد على أنه اعتصام وليس اضرابا. يشكو عبدالغفار من أزمة الفحم التى تعطل سير العمل، ويشير إلى سيارة متوقفة تحمل بعض المنتجات والواح الحديد قائلا: «قبل 5 اعوام لم تكن تتوقف السيارات عن نقل المنتجات التى اصبحت الآن مكدسة بسبب سوء التسويق، وغير منتظمة لغياب الفحم». ويوضح أن منتجات المصنع كانت تتلهف عليها شركات تصنيع الثلاجات والسخانات، وكبرى شركات الإنشاء بسبب جودتها وصلابتها، مبديا حزنه من تغير الأوضاع بسبب إلغاء الحكومة لإجراءات حماية الأسواق وتسهيلها للاستيراد برسوم محدودة أو معدومة فى بعض الأحيان، على الرغم من تأثير ذلك على السوق المحلية. ويضيف عبدالغفار: « الله يرحمك ياجمال يا عبدالناصر، لو كان يعرف أن المصنع الذى بناه سيكون مصيره التخريب والصدأ ما كان فعل»، واختتم كلامه بأن الغرض الاساسى من بناء المصنع كان الاعتماد على الداخل وانتاج الحديد بدون ضغوط، لاستخدامه فى الصناعات المدنية والعسكرية وانشاء المصانع. طعم الدولارات أمام إحدى الماكينات وقف أشرف محمود، يساعد زملاءه فى رفع لفة شرائط حديد من احد خطوط الإنتاج إلى مرحلة اخرى تسبق البيع، وفور انتهاء مهمته، قال إن مصنع الحديد والصلب مثل جسم الإنسان، إذا تعطل عضو فيه يؤثر على كفاءة الجسم كله، ومشكلة تراجع كمية فحم الكوك الواردة إلى المصنع يعتبرونها رأس كل الأزمات. ويضيف: «منذ عرفت شركة إنتاج فحم الكوك طعم الدولارات التى يحصلون عليها جراء تصديره إلى الدول الاوروبية التى تحظر تصنيعه، اصبحت شركة حديد وصلب حلوان مسألة هامشية، على الرغم من التكامل بينهما»، حيث رفض أن تقتصر وسائل الإعلام فى تناولها لازمتهم على «حكاية المتأخرات والحوافز» على الرغم من اهميتها، ويلخص رأيه قائلا: «المصنع يستطيع أن يكون مصدر طاقة جبارة وأمن قومى لمصر كلها إذا تم الاهتمام به». ممر طويل يقطعه العمال فى الشركة داخل ورشة «الدرفلة على البارد» والتى يقول العمال إنها تزيد على 10 آلاف متر، لا يحتاج الغريب عن المكان لدليل يشرح له الاتجاهات، إذ تتصل خطوط الانتاج بعناية وتصل كل مرحلة بما بعدها، ووراء ذلك كله شبكة معقدة من التوصيلات الكهربائية التى تستطيع تشغيل مدينة بأكملها. من السهولة أن تتعرف على مصدر الطاقة اعتمادا على صوت الذبذبات الكهربائية المرعبة، لكنه من الاستحالة ان تعرف كيف تصل إلى المقر الرئيسى لشبكة الكهرباء دون أن يرشدك أحدهم. درجات سلم تتجاوز العشرين مصنوعة من الحديد تنزل بك إلى اسفل، وبعدها إلى اليمين قليلا يأخذك سلم اخر يغرق فى العمق، لينتهى المطاف وسط غابة من «التوصيلات» المصفوفة على ألواح على الجانبين وتصدر صوتا لا يمكن تجاهله، ولا يبدو أن هناك فائدة من استخدام الهاتف المحمول الذى لا تسقط «شبكته» صريعة ضغط الكهرباء العالى. وفى منتصف الخندق الكهربائى، تستقر لافتة جدار فارغ، وكتب عليها أحدهم بخط اليد «أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم فى بروج مشيدة»، تبدو الآية القرآنية ذات دلالة، فيما يقول أحد عمال صيانة الكهرباء إن بقاءهم هنا لفترات طويلة وسط كل هذه الأخطار، يجعلهم دائما فى وضع استعداد للموت. «الحديد الساخن» لاتبدو البرودة القادمة من الأماكن المفتوحة التى تعصف بالعمال مزعجة لأغلبهم، الذين اعتادوا عليها خاصة مع اتساع المسافات بين ورشة وأخرى، وفيما لا تتجاوز المسافة بين ورشتى الدرفلة على البارد والساخن 200 متر إلا انه يجب عبورها بعناية، إذ يقطعها شريط القطار. يقول جمال بدوى، فنى قطارات، إن الأحجام الكبيرة التى يتعاملون معها من قطع غيار أو خامات حديد تجعل الوسيلة الوحيدة المناسبة لنقلها هى القطارات، إلا أنه يبدى اسفه من عدم وجود قطع غيار سواء للقطارات أو للمعدات الخاصة بالمصنع، خاصة وانها لا تزال على حالها منذ 50 عاما، ويتم تطويرها داخليا. قبل مدخل ورشة درفلة الحديد على الساخن، يلفت الانتباه لوح حديدى تم ثبيته بشكل احتفائى، بينما كتب عليه «أول لفة حديد من انتاج الورشة 1975».. السخونة التى تستقبل من يدخل ورشة الدرفلة على الساخن، لاتليق بالبرودة بالخارج، هنا فقط يمكن أن يعرف الانسان معنى مقولة «يجب أن تطرق على الحديد وهو ساخن»، فى داخل الورشة يدخل الحديد الأفران الساخنة كسائل متوهج، وتبدأ عملية تشكيله وصقله وبمجرد أن يخرج لوح الحديد الاحمر، ينقله السير بسرعة إلى «مكابس» تضغطه لتحدث فيه أثرا بالزيادة والنقصان، وتساعدها فى ذلك المياه التى تصطف فتحاتها أعلى سير نقل الألواح الساخنة لتساعد فى تبريدها. التعيين والمعاش المبكر 25 ألف عامل كانوا هم قوام الشركة عندما بدأ العمل بها، وبمرور الوقت تقلص عددهم ليصل إلى 12 الفا فقط، بينما توقفت التعيينات منذ 2007، وتبدو الدلالة لتقليص عدد العمالة على حجم اللجنة النقابية الخاصة بمصنع الحديد والصلب، والتى تقلصت من 21 عاملا إلى 18 بمرور الوقت، لأنها تتناسب مع عدد العمال، الامر الذى يؤكده اشرف محمد قائلا: «فى حال استمرت الشركة على سياسة عدم التعيين، وفى مقابل خروج كبار السن على المعاش سنويا، فإنه من الممكن ألا تكون هناك لجنة نقابية بعد 10 سنوات». ويضيف محمد: «اللجنة النقابية المنتخبة منذ 2006 كانت من المفترض انتهاء مدتها بعد 5 سنوات، إلا ان الاحداث والاضطرابات التى تمر بها البلاد حالت دون اجراء انتخابات ويتم التجديد لها حتى اشعار اخر»، ويوضح عامل اخر أنه ظل يعمل من الباطن لدى مقاول افراد فى المصنع دون تعيين لأكثر من 8 سنوات، ولم تكن تربطه بالمصنع أى علاقة تعاقدية أو تأمينية، إلا أنه وبعد كل تلك المدة استطاع أن ينفذ «من خرم ابرة» بحسب تعبيره وفاز بالتعيين فى آخر دفعة مع أبناء العاملين فى 2007. ويتابع العامل: «بعد كل هذا الشقاء تحت رحمة المقاول، والتحايل والسعى للتعيين فى آخر دفعة حتى نحظى براتب ثابت وتأمين على عملنا الملىء بالمخاطر، نجد مجلس الإدارة رافضا لأن يصرف مستحقاتنا التى تعتبر النقطة الوحيدة المضيئة فى رحلة الشقاء اليومى»، مشيرا إلى أن كثيرين من العمال يعتمدون على تلك المستحقات والمكافآت، إما لتعليم اولادهم بشكل مقبول أو تزويجهم، فى محاولة للخروج من المعيشة الصعبة التى يلاقونها مع ذويهم. ويختتم بقوله: «لايوجد أحد لايريد العمل، وإذا كانت هناك نية سليمة لدى من يحكم مصر أيا كان اسمه فى أن يكون هذا المصنع الأفضل من نوعه فى الشرق الاوسط سيفعل، لكن الجميع يريد تسكين المشاكل وليس حلها».