الفطنة والذكاء للعلماء والأئمة الذين يتصدرون المشهد الأسمى أصبحت كالبضاعة النادرة، لا يجيدها الكثيرون، ولأن الخصلتين من شروط الإمام الصالح والعالم الراشد، فقد رسمت سيرة الأئمة والعلماء السابقين نموذجًا فريدًا، يجب أن يقتدي به العلماء المعاصرون. الدكتور القصبي زلط، نائب رئيس جامعة الأزهر السابق والأمين العام لجماعة العشيرة المحمدية روى أجزاء من سيرة هؤلاء بهدف العبرة. ما هو المقصود بذكاء الامام وفطنته؟ ذكاء الامام هو قدرته على التعامل مع الامور الصعبة، وهو ما يوفر له مخرجا عاقلا من المسائل الحرجة، والشرك الذى ينصبه له حاقد أو جاهل، وفطنة العالم تهيئ له احتواء الامور والقدرة على اقناع الآخرين، وهى صفات يجب أن تتوافر فى العالم أو الداعية. من هو الامام الذى تراه الأكثر ذكاء وفطنة؟ ذكاء الامام الشافعي أنقذه من كيد وحقد مجموعة من العلماء كانوا يدبرون له المكائد عند الأمراء، فاجتمعوا يوما عند «الخليفة الرشيد» الذى كان معجبًا بذكاء الشافعي وعلمه بالأمور الفقهية، وقرروا أن يجمعوا له العديد من المسائل الفقهية المعقدة لاختبار ذكائه. سأله الأول: ما قولك فى رجل ذبح شاة فى منزله، ثم خرج فى حاجة فعاد وقال لأهله: كلوا أنتم الشاة فقد حرمت على، فقال أهله: علينا كذلك. فأجاب الشافعي: إن هذا الرجل كان مشركًا فذبح الشاة على اسم الأنصاب وخرج من منزله لبعض المهمات فهداه الله إلى الإسلام وأسلم فحُرّمت عليه الشاة وعندما علم أهله أسلموا هم أيضًا فحُرّمت عليهم الشاة كذلك. وسُئل: شرب مسلمان عاقلان الخمر، فلماذا يقام الحد على أحدهما ولا يقام على الآخر؟ فأجاب إن أحدهما كان صبيًا والآخر بالغا. وسُئل: ما تقول في إمام كان يصلى مع أربعة نفر في مسجد فدخل عليهم رجل، ولما سلم الإمام وجب على الإمام القتل وعلى المصلين الأربعة الجلد ووجب هدم المسجد على أساسه؟ فأجاب الشافعي: إن الرجل القادم كانت له زوجة وسافر وتركها فى بيت أخيه فقتل الإمام هذا الأخ وادّعى أن المرأة زوجة المقتول فتزوج منها، وشهد على ذلك الأربعة المصلون، وأن المسجد كان بيتًا للمقتول، فجعله الإمام مسجدًا. ماذا كان رد فعل الخليفة الرشيد على تلك الجلسة؟ لم يستطع الرشيد أن يخفى إعجابه بذكاء الشافعى وسرعة خاطرته وجودة فهمه وحس إدراكه، وقال: قد بينت فأحسنت وعبّرت فأفصحت وفسرت فأبلغت. فقال الشافعي: أطال الله عمر أمير المؤمنين، إني سائل هؤلاء العلماء مسألة، فإن أجابوا عليها فالحمد لله، وإلا فأرجو أمير المؤمنين أن يكف عنى شرهم. فقال الرشيد. لك ذلك وسلهم ما تريد يا شافعى. فقال الشافعى: مات رجل وترك 600 درهم، فلم تنل أخته من هذه التركة إلا درهمًا واحدًا، فكيف كان توزيع التركة؟ فنظر العلماء بعضهم إلى بعض طويلاً ولم يستطع أحدهم الإجابة عن السؤال، فلما طال بهم السكوت، طلب الرشيد من الشافعي الإجابة. فقال الشافعي: مات هذا الرجل عن ابنتين وأم وزوجة واثنى عشر أخًا وأخت واحدة، فأخذت البنتان الثلثين وهى 400 درهم، وأخذت الأم السدس وهو 100 درهم، وأخذت الزوجة الثمن وهو 75 درهما، وأخذ الاثنا عشر أخا 24 درهمًا فبقى درهم واحد للأخت. تبسم الرشيد وقال: أكثر الله في أهلي منك، وأمر له بألفي درهم فتسلمها الشافعي ووزعها على خدم القصر.