بعد قيام الثورة بشهور قليلة عرض علينا صندوق النقد الدولى أن يمنحنا قرضا بشروط ميسرة للغاية عندما كان حجم الاحتياطى النقدى فى البنك المركزى نحو 36 مليون دولار، وقتها رأى المشير حسين طنطاوى ضرورة التريث بحجة عدم تحميل الأجيال القادمة أى أعباء اضافية. عندما جاءت حكومة الدكتور كمال الجنزورى ورأت أن البلاد بحاجة ماسة للقرض، واقتنع المجلس العسكرى بالظروف المستجدة، فإن الذى عرقل الحصول على القرض هو جماعة الإخوان وحزب الحرية والعدالة الذى فاز وقتها بغالبية مقاعد البرلمان.
صندوق النقد أصر على ضرورة موافقة القوى السياسية على القرض خصوصا الإخوان المسلمين حتى يكون هناك توافق سياسى بشأنه لكن الإخوان فكروا وقتها بمنطق أنه لا ينبغى عليهم مكافأة حكومة الجنزورى، وتحدثوا بأكثر من طريقة خلاصتها وبمنطق براجماتى بحت أنهم سيحصلون على القرض بمجرد استلام الرئيس محمد مرسى للسلطة، لكن رياح الأحداث هبت بما لا يشتهون.
الاقتصاد استمر فى الترنح والتراجع سواء من شلل فى السياحة أو تراجع تام فى الاستثمار الأجنبى إلى زيادة فى عجز الموازنة العامة، الأمر الذى جعل الصندوق يفرض شروطا صعبة لتقديم القرض.
هذه الشروط الصعبة هرب منها الإخوان بأقصى مدى يستطيعونه، واتفقوا مع الصندوق على تأجيل الجانب المؤلم أى زيادة أسعار السلع الرئيسية إلى مرحلة ما بعد انتخابات البرلمان التى كانت مقررة فى ابريل المقبل، على أن يبدأوا الآن بالشروط الأقل إيلاما أى رفع الأسعار على السجائر والمشروبات الكحولية والأسمنت والاتصالات. لكن المفاجأة أن صندوق النقد أرسل خطابا بلهجة حادة وغير مسبوقة ينتقد فيه خطة الحكومة بشأن إجراءاتها الاقتصادية ويطالبها فيه بأن تكون أكثر حزما.
أما المفاجأة الأكبر فهى أن تأجيل الانتخابات بعد حكم القضاء الإدارى الأخير يعنى أن الحكومة أمامها خياران كلاهما مر: الأول أن تؤجل القرض إلى ما بعد الانتخابات وبالتالى يستمر الوضع الاقتصادى المأزوم، والثانى أن تقبل بشروط الصندوق، التى ستقود حتما إلى غضب اقتصادى عارم فى ظل الوضع السياسى المأزوم بفعل الاستقطاب الحاد.
المفاجأة أو الكوميديا السوداء هى أن صندوق النقد الدولى لمح بوضوح للحكومة فى الاتصالات الأخيرة أنه يريد موافقة المعارضة المصرية أى جبهة الانقاذ على القرض ضمانا للتوافق المجتمعى، وهو الفيتو الذى استخدمه الإخوان لمضايقة الجنزورى، ويمكن أن تستخدمه المعارضة الحالية لمضايقة الإخوان.
المفارقة أن الاخوان المسلمين عندما رفضوا إعطاء موافقتهم على القرض أيام الجنزورى كان الوضع الاقتصادى سيئا أيضا وكانت المظاهرات الاجتماعية أو الفئوية فى أوجها، ولم يتهمهم أحد وقتها بأنهم يتجاهلون المشاكل الاقتصادية من أجل مصلحتهم الحزبية الضيقة.
الآن غالبية قادة الإخوان ومعهم معظم أركان الحكومة يتهمون المعارضة بأنها من أجل مصالحها الخاصة تصر على عدم التهدئة السياسية التى تقود بدورها إلى اضطرابات فى الشارع وغياب الاستقرار وعدم عودة عجلة الإنتاج. الأمر الذى يعرقل الانطلاق إلى الامام ويعرقل الحصول على قرض الصندوق.
بالطبع هذا الوضع لا يرضى أحدا، لأنه يضر بالجميع ويدفع ثمنه فى الأساس الفقراء والمساكين، والأخطر أنه يهدد باستقرار كل الوطن، والخروج من هذا النفق مسئولية الجميع، لكنه مسئولية أولى وأساسية على رئيس الجمهورية وحزبه وجماعته السياسية.
يتساءل المعارضون قائلين: إذا هو لم يقدم برهانا عمليا على انه رئيس لكل المصريين، فما الذى يدفع الآخرين كى يساعدوه.. أليس ذلك هو المنطق الذى استخدمه الإخوان مع الجنزورى.. لماذا يلومون المعارضة الآن إذا فكرت فى استخدامه؟!.