رفع درجة الاستعداد وتكثيف الحملات الرقابية بالأقصر استعدادا لعيد القيامة    رئيس الأعلى للإعلام يهنئ البابا تواضروس الثاني بمناسبة عيد القيامة المجيد    التنمية المحلية: عدم إصدار تراخيص المباني الجديدة وشهادات المطابقة دون اشتراطات الكود الهندسي    الصحة تنشر قوافل علاجية تزامناً مع احتفالات عيد القيامة المجيد.. اعرف الأماكن    تشييع جنازة الإذاعي أحمد أبو السعود من مسجد السيدة نفيسة| صور    تراجع قوي لمؤشر الذهب بالتداولات العالمية بعد قرارات الفيدرالي الأخيرة    توريد 147 ألف طن قمح لشون وصوامع الوادي الجديد    المتر ب 15 ألف جنيه.. بدء طرح شقق أبراج حدائق أكتوبر خلال أيام    استعدادًا لفصل الصيف.. محافظ أسوان يوجه بالقضاء على ضعف وانقطاع المياه    تنشيط السياحة تستقبل الباخرة Seabourn Quest بميناء الإسكندرية    فلسطين تطالب بتحقيق دولي في واقعة اغتيال الطبيب عدنان البرش بسجون الاحتلال    البنك الأهلي يفتقد أسامة فيصل بمواجهة إنبي بالدوري    تحدث لأول مرة.. مفاجأة «فيفا» تشعل نهائي الأهلي والترجي التونسي    وزير الرياضة يتفقد مركز شباب سانت كاترين بجنوب سيناء    أول قرار ضد سائق متهم بدهس طفلتين بحلوان    عرض حياة المواطنين للخطر.. القبض على طالب استعراض بدراجته النارية    نَزِّله وداس عليه| أهالي ضحية أتوبيس الحضانة في المنوفية يطالبون بحقه    جدول امتحانات الثانوية العامة 2024 والثانوي الأزهري    السعودية تصدر بيانا مهما بشأن تصاريح موسم الحج للمقيمين    إيرادات هزيلة لفيلم "أسود ملون" بطولة بيومي فؤاد، والنشطاء: سقط في بحر غزة    بالفيديو| أيتن عامر تغني "عيونه دار".. وتامر حسني: إيه الحلاوة دي    ما حكم أكل الفسيخ وتلوين البيض في يوم شم النسيم؟.. تعرف على رد الإفتاء    الصحة تنشر رقم الخط الساخن للإبلاغ عن حالات التسمم بالفسيخ.. تعرف عليه    خريطة القوافل العلاجية التابعة لحياة كريمة خلال مايو الجارى بالبحر الأحمر    سر المحترفين.. إضافة هذه المادة لسلطة الرنجة هتودي طعمها فى حتة تانية| تفاصيل    الخارجية الروسية: تدريبات حلف الناتو تشير إلى استعداده ل "صراع محتمل" مع روسيا    رويترز: قطر قد تغلق مكتب حماس كجزء من مراجعة وساطتها بالحرب    عفروتو يكشف تفاصيل مكالمته مع محمد صلاح    لاعبة طائرة الأهلي: لن نفرط في اللقب.. ورغبتنا كبيرة في التتويج بالرباعية    الانتهاء من 45 مشروعًا فى قرى وادى الصعايدة بأسوان ضمن "حياة كريمة"    محافظ المنوفية يحيل 37 من المتغيبين بمستشفيات الرمد والحميات للتحقيق    التموين: توريد 1.5 مليون طن قمح محلي حتى الآن بنسبة 40% من المستهدف    القوات المسلحة تهنئ الإخوة المسيحيين بمناسبة عيد القيامة المجيد    دفاع طفل شبرا الخيمة يتوقع أقصى عقوبة لطفل الكويت معطي التعليمات    إيقاف حركة القطارات بين محطتى الحمام والعُميد بخط القباري مرسى مطروح مؤقتا    توفيق عكاشة: شهادة الدكتوراه الخاصة بي ليست مزورة وهذه أسباب فصلي من مجلس النواب    المبادرة الوطنية لتطوير الصناعة "ابدأ" .. الليلة مع أسامة كمال في مساء dmc    روسيا تسقط مسيرتين أوكرانيتين في بيلجورود    أبرزها متابعة استعدادات موسم الحج، حصاد وزارة السياحة والآثار خلال أسبوع    دعاء يحفظك من الحسد.. ردده باستمرار واحرص عليه بين الأذان والإقامة    الباقيات الصالحات مغفرة للذنوب تبقى بعد موتك وتنير قبرك    كرة السلة، أوجستي بوش يفاجئ الأهلي بطلب الرحيل    حسين هريدي: الخلاف الأمريكي الإسرائيلي حول رفح متعلق بطريقة الاجتياح    السيسي يعزي في وفاة نجل البرهان رئيس مجلس السيادة السوداني    ماريان جرجس تكتب: بين العيد والحدود    مستشار الرئيس للصحة: مصر في الطريق للقضاء على مسببات الإصابة بسرطان الكبد    موسم عمرو وردة.. 5 أندية.. 5 دول.. 21 مباراة.. 5 أهداف    مي سليم تروج لفيلمها الجديد «بنقدر ظروفك» مع أحمد الفيشاوي    رئيس الوزراء يتفقد عددًا من المشروعات بمدينة شرم الشيخ.. اليوم    اليوم.. إعادة فتح البوابة الإلكترونية لتسجيل استمارة الدبلومات الفنية 2024    ما حكم تهنئة المسيحيين في عيدهم؟ «الإفتاء» تُجيب    برج «الحوت» تتضاعف حظوظه.. بشارات ل 5 أبراج فلكية اليوم السبت 4 مايو 2024    إيرادات فيلم السرب على مدار 3 أيام عرض بالسينما 6 ملايين جنيه ( صور)    هل بها شبهة ربا؟.. الإفتاء توضح حكم شراء سيارة بالتقسيط من البنك    مصرع 14 شخصا إثر وقوع فيضان وانهيار أرضي بجزيرة سولاويسي الإندونيسية    محمود بسيوني حكما لمباراة الأهلي والجونة في الدوري    المطرب هيثم نبيل يكشف كواليس فيلم عيسى    هبة عبدالحفيظ تكتب: واقعة الدكتور حسام موافي.. هل "الجنيه غلب الكارنيه"؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بين الثقة والريبة
نشر في الشروق الجديد يوم 27 - 06 - 2009

فى حديث بينى وبين أحد الأصدقاء حول خطاب أوباما فى القاهرة، وصفنى الصديق بأننى «متفائل»، وأن ظاهر الأمور ليس بالضرورة كباطنها. وأعتقد أن ما قاله الصديق يعبر عن قضية عامة. فهناك بشكل عام نوعان من البشر، بل وأحيانا من الجماعات أيضا. فهناك من يصدقون بشكل عام ما يقال لهم. كما أن هناك أيضا من يرتابون فى كل ما يقال أمامهم.
الأولون كثيرا ما يوصفون بالسذاجة، فى حين أن الآخرين هم أقرب إلى الارتياب أو ما يعبر عنه بالإنجليزية Cynics التى لم أجد لها ترجمة دقيقة، فكل ما يقال أمامهم هو تغطية لأشياء غير معلنة وغالبا شريرة. وإذا كان الأولون يوصمون «بحسن النية»، فإن الآخرين يوصفون «بحسن الفطنة». وبشكل عام تتوافر الصفة الأولى لدى الشباب وصغار السن، فى حين أن الثانية تظهر بشكل أوضح لدى الشيوخ وكبار السن. الأولون يميلون إلى التفاؤل وحسن الظن بالمستقبل، والآخرون أقرب إلى التشاؤم نتيجة تجاربهم وخبراتهم الماضية. ولعل الحقيقة هى بين الأمرين، فالبشر ليسوا ملائكة لا يكذبون أبدا كما أنهم أيضا ليسوا شياطين يكذبون باستمرار. ومع ذلك فإن هذه النتيجة التوفيقية بالاعتراف بوجود الصدق والكذب معا، ليست دقيقة، ولا هى مفيدة. فالصدق والكذب ليسا على قدم المساواة. حقا يتواجد الأمران فى كل المجتمعات وبلا استثناء. فالجميع يصدق ويكذب، ولكن، وهنا الفارق، الأصل فى الأشياء هو الصدق فى حين أن الكذب خروج أو استثناء على هذا الأصل. ويرجع ذلك إلى اعتبارات بيولوجية فى تكوين الإنسان الطبيعى كما يعود فى نفس الوقت إلى ضرورات اجتماعية لوجود المجتمع نفسه وتماسكه، فضلا عن ضوابط أخلاقية راسخة. فالصدق بعمومه وليس الصدق المطلق هو من طبيعة الإنسان السوى كما أنه العنصر الأساسى لوجود المجتمعات واستمرارها.
فهل نصدق الآخرين أو لا نصدقهم؟ هل نفترض مقدما أن الآخر صادق أم كاذب؟ هذا هو السؤال.
وكنت قد نشرت فى جريدة الأهرام منذ عدة سنوات (2006) مقالا بعنوان «الإنسان حيوان كاذب». ولم يكن المقصود من هذا العنوان القول بأن الإنسان يكذب دائما، بل كان الغرض هو الإشارة إلى أن الإنسان هو وحده القادر على الكذب رغم أن الكذب ليس كل حياته. فكيف يختص الإنسان دون غيره بالكذب؟
الكذب مرتبط باللغة. فدون لغة لا كذب، فأنت تطلق عبارات ذات معانى مستقرة فى الوجدان الاجتماعى ولكنك قد تقصد أشياء أخرى. فالكذب عمل إرادى مقصود. ونظرا لأن الإنسان وحده يتمتع بالإرادة الحرة ونعمة اللغة، فهو وحده أيضا القادر على الكذب. فقد حبا الله الإنسان وحده من دون الكائنات الأخرى بنعمة اللغة. حقا هناك العديد من الحيوانات والطيور التى تصدر أصواتا محددة للتعبير عن احتياجاتها البيولوجية مثل الجوع أو الخوف أو الرغبة فى الجماع. ولكن هذه الأصوات ليست لغة لأنها ليست إرادية واختيارية بل هى مجرد تعبير غريزى. أما اللغة عند الإنسان فهى عمل إرادى، فهو يختار متى يتحدث ومتى يصمت، وعندما يقرر الحديث فهو يختار الألفاظ المناسبة، وقد يكذب فيما يقوله.
فاللغة وما توفره للإنسان من حرية فى اختيار الكلمات والألفاظ تعطيه الفرصة للصدق أو الكذب. واللغة مجال واسع يسمح للفرد بالاختيار والمراوغة. فاللغة بما تتضمنه من حرية الاختيار تسمح للإنسان بالمغالطة والادعاء بل والكذب. وهكذا، فكما يتمتع الإنسان وحده بالبلاغة أو الفصاحة، فإنه أيضا وحده القادر على الكذب. وكما يصعب أن تجد عصفورا فصيحا أو بقرة بليغة، يستحيل أن تجد بغلا كاذبا! الحيوانات لا تكذب لأنها لا تستطيع ذلك.
وإذا كان الإنسان وحده يكذب فليس معنى ذلك أن الكذب هو صفته الأساسية. فيظل الأصل عنده هو الصدق، ويأتى الكذب استثناء من هذا الأصل. فالطفل الصغير يصدق غالبا والكذب عنده أمرٌ غريبٌ ومستهجن، وعلى حين تصدر عباراته الصادقة تلقائيا ودون عناء، فإن الكذب يحتاج منه إلى جهد وتترتب عليه عادة معاناة نفسية. الصدق أقرب إلى الفطرة والكذب يحتاج إلى جهد وصنعه. فأنت لا تحتاج إلى أسباب أو مبررات لقول الصدق، ولكنك فى حاجة لذلك عند الكذب. الكذب خروج على الطبيعة والتلقائية.
وإذا كان الكذب هو نتيجة وجود اللغة، فإن غلبة الكذب على الحوار يهدم اللغة ذاتها ويفسدها ويعطل دورها. فإذا غلب الكذب وشاع بين الناس ضاعت المعانى وفقدت الكلمات مغزاها وانقطع التواصل بينهم، ولم يعد للغة من معنى أكثر من مجرد أصوات بلا دلالة. فاللغة تقوم على ركيزتين، الأولى «لغوية» بحت من حيث توافر الكلمات وتعددها ووضوح معانيها واستقرار قواعد الصرف والنحو عند استخدامها، أما الركيزة الثانية فهى ركيزة «اجتماعية» تتعلق بتوافر الثقة بين المتحدثين باللغة على الصدق فى الحديث أو على الأقل حسن النية. فالتعامل باللغة يفترض قدرا من حسن النية فى صدق ما نعلنه. ووجود اللغة واستمرارها يفترض درجة من المصداقية فى خطاب الأفراد، وأنهم، وإن لم ينطقوا دائما بالصدق الكامل، فإنهم لا يتحدثون أيضا بالكذب المطلق. فالمجتمعات قد تتقبل هامشا من الكذب وتتعايش معه، ولكنها لا تستطيع الحياة فى جو من الكذب المطلق.
ولكن الحاجة إلى الصدق بشكل عام وإن لم يكن مطلقا لا ترجع فقط إلى اعتبارات الطبيعة البشرية بل يبدو أن هناك أيضا نفورا أخلاقيا طبيعيا لدى معظم الجماعات ضد الكذب. فالكذب ليس فقط خروجا على التلقائية بل هو مدان أخلاقيا واجتماعيا. والإنسان ليس مجرد كائن حى عادى، ولكنه وعلى خلاف الكائنات الأُخرى هو كائن «أخلاقى» يميز بين الخير والشر، ويعرف الفارق بين الحق والباطل. وليس من الضرورى أن يقوم دائما بأعمال الخير أو يتجنب أعمال الشر، ولكنه يعرف الفارق بينهما ولا ينجو من خجل من نفسه عند اقتراف أفعال شائنة ومن شعوره بالخزى والعار أمام مجتمعه الصغير. فجميع الأديان وكذا المبادئ الأخلاقية تدين الكذب وترى فيه جريمة أخلاقية واجتماعية. ولذلك يصعب أن يظهر الكذب علنيا، ويظل دائما من أبناء الظلام يبرز مترددا وعلى حياء وعادة مغلفا بالعديد من المبررات النفسية. فالكذب يتضمن تكلفة اجتماعية من سخط الناس واحتقارهم للكاذب.
لكل ذلك، فإن الكذب وإن كان صفة للبشر لا يشاركهم فيها أحد من الكائنات الحية الأخرى، فإنه يظل مع ذلك استثناء فى حياتهم. فالأصل فى العلاقات الإنسانية هو الصدق والاستثناء هو الكذب، ولكنه استثناء شائع، كهامش يمثل نسبة محدودة من مجمل علاقات التخاطب. فلا يوجد مجتمع واحد بلا كذب. ولكن ليس معنى ذلك أن كل ما تقوم به هذه المجتمعات أو أغلبه كذبا. الكذب - ورغم انتشاره يشغل حيزا أقل بكثير مما يشغله الصدق.
وبطبيعة الأحوال تختلف الجماعات من حيث مدى غلبة الصدق فى نظامها الاجتماعى والسياسى والأخلاقى. وقد رأى بعض الدارسين أن المجتمعات الأكثر تقدما استندت فى تقدمها إلى ما تتمتع به من ثقة فى المعاملات ومصداقية فى التعامل، وذلك على عكس المجتمعات التى تندر فيها الثقة فى التعاملات وتغلب عليها الريبة والكذب، فإنها قلما تعرف تقدما اقتصاديا واجتماعيا. فمجتمعات التقدم أكثر صدقا وصراحة كما أن مجتمعات التخلف أكثر كذبا ولوعا.
وكل ذلك لم يمنع بطبيعة الأحوال من أن التاريخ البشرى قد عرف أكاذيب هائلة استمرت قرونا نتيجة لمعتقدات خاطئة أو حماية لمصالح اقتصادية أو مزايا اجتماعية لطبقة أو جنس.
والخلاصة أنه رغم كثرة الكذب وتفشيه فى عالمنا البشرى، فمازال الأصل هو الصدق وبالتالى الثقة فى الآخرين. حقا، ليس صحيحا أننا نعيش فى عام من الملائكة، ولكنه قطعا ليس عالما من الأبالسة. فهناك الصدق والكذب، ولكن الصدق أكثر وأعم، وإن كان الكذب أخطر وأشد إيلاما.
قد يكون من حسن النية أو حتى من السذاجة الميل إلى التفاؤل إزاء ما يصدر من السياسيين من مؤشرات إيجابية، ولكن الاعتقاد بأن كل بارقة أمل تظهر من جانبهم لا تعدو أن تكون مصيدة للإيقاع بنا أمر لا يقل خطورة. صحيح أن سوء الظن من حسن الفطن، ولكن المثل يقول أيضا تفاءلوا بالخير يأتيكم. وتظل الحجة الأخيرة لأصحاب نظريات الشك والارتياب، هى أن «السياسيين»، وربما يضاف عليهم رجال المال، ليسو من فئة البشر، أو هم بالأحرى فئة خاصة من البشر لا تتقيد بما يتقيد به عموم الناس. وهو احتمال لا يسهل استبعاده ببساطة. والله أعلم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.