هذا المثل الشعبى الذى وقر فى اللاوعى الجمعى المصرى، يعبر بوضوح عن التعصب الدينى الكامن فى قلوب وعقول المصريين المسلمين ضد المصريين المسيحين على الرغم من الخطاب الأجوف الشائع عن الوحدة الوطنية. وقد ظل هذا التعصب وما يصاحبه من كراهية حبيس القلوب لأزمنة طويلة إلى أن جاءت الأصولية الدينية بشقيها الإسلامى والمسيحى وتغلغلت فى أوصال المجتمع فى الثلث الأخير من القرن الماضى، فشقت عن مكنون القلوب وأطلقت المارد من محبسه فراح ينتقم لأوجاع القلب المزمنة بإحراق الكنائس بما فيها ومن فيها باعتبارها المصدر لتلك الأوجاع. ولا أدل على ذلك من العبارات التى قالها أحد المسلمين الذى شارك فى هدم كنيسة الماريناب بإدفو: «إننى أتأذى من مجرد النظر إلى مبنى الكنيسة».
●●●
والسؤال الآن: هل هدأت الأوجاع وشفيت القلوب من الآلام بعد الهدم والتدمير والإحراق؟ الجواب، بالطبع، لا لأن هذه الأوجاع وتلك الآلام تتغذى وتنمو على الكراهية، والكراهية هى الوقود الذى يشعل نار التعصب الذى يغذى بدوره غريزة العنف والتدمير من أجل التخلص من أوجاع القلوب المتبادلة.
والسؤال الآن: إذا كان ذلك صحيحا، فكيف تعايش المصريون على مدى تاريخ المجتمع المصرى فى سلام وتآخ ظاهرين؟
الجواب هو أن المصريين تعايشوا وهم فى حالة اغتراب عن بعضهم البعض. والمقصود بالاغتراب هنا هو الانقسام على الذات حيث تم الفصل بين الإنسان كنوع، أى باعتباره إنسانا ينتمى إلى النوع الإنسانى، والإنسان باعتباره حيوانا اجتماعيا.
العلاقة بين المصريين، المسلمين والمسيحين، اختزلت فى المستوى الاجتماعى المحكوم بعلاقات الوجود الاجتماعى المتبادل بما ينطوى عليه من احتياجات الحياة اليومية من مأكل وملبس ومسكن ومجاملات اجتماعية عند الضرورة. بينما ظل المستوى الإنسانى مغتربا لأنه قد تم اختزاله فى العقيدة الدينية بينما هو أكثر رحابة وأكثر عمقا لأنه ينطوى على نزوع الإنسان نحو المطلق مدفوعا فى ذلك برغبة فى الإحساس بالأمان فى العالم، والعقيدة الدينية هى وسيلته للاقتراب من هذا الإحساس بالأمان.
فكل من المسلم والمسيحى يسعى نحو المطلق مستعينا فى ذلك بعقيدته الدينية وما يصاحبها من شعائر ارتبطت بالمكان، المسجد والكنيسة، وعندما اغترب المصريون عن جوهرهم الإنسانى واختزلوه فى الوجود الاجتماعى، اختزل الجوهر فى المظهر، فاختزل الإنسان فى دينه ثم اختزل دينه فى مكان إقامة الشعائر، وهنا برز المثل الشعبى عنوان هذا المقال. ومن يومها والعلاقة بين المصريين المسلمين والمصريين المسيحيين تحمل فى طياتها بذور فنائها.
بيد أن ضرورة الوجود الاجتماعى فرضت على المصريين اكتشاف وسائل لردم الفجوة التى تفصل بين وجودهم الاجتماعى ووجودهم الإنسانى فقاموا بإخفاء تلك الفجوة فى أعماق قلوبهم أى فى أعماق اللاوعى الجمعى. بيد أن هذه الهوة بقيت بل إنها ازدادت اتساعا وعمقا بقدر اتساع وعمق القسمة الثنائية بين الإنسان ودينه أى بين النسبى والمطلق باعتبار أن الوجود الاجتماعى نسبى ومتغير أما الوجود الدينى المتمثل فى الإيمان بالعقيدة الدينية فهو مطلق بطبيعته. وقد نتج عن هذه القسمة الثنائية المفتعلة الحفاظ على تعايش وهمى طال أجله إلى أن أرغم الإنسان الاجتماعى على مواجهة الإنسان الدينى وجها لوجه. ولم يعرف أحدهما الآخر بفضل حالة الاغتراب المتبادل بينهما. وعندئذ اهتز المطلق، وأعنى هنا بالمطلق رغبة الإنسان بالإحساس بالأمان فى العالم الذى يوفره الإيمان بمطلق معين. وهذا الإحساس يشكل جوهر الإنسان الذى دأب منذ وجوده فى العالم على السعى نحو اقتناصه من أجل أن يشعر بالأمان فى العالم. واهتزاز المطلق لابد أن يستنفر بالضرورة المؤمن للدفاع عن مطلقه إلى حد الموت والاستشهاد.
●●●
وقد فجرت أحداث يوم الأحد الدامى السؤال العسير:
هل من الممكن أن يتعايش المصريون وفى أعماقهم كراهية دينية متبادلة؟
وهل يمكن للمصرى المسلم أن يقيم علاقة إنسانية مع المصرى المسيحى بينما يؤمن المسلم فى أعماقه بأن المسيحى على ضلال والعكس صحيح؟
أجابت أحداث يوم الأحد الدامى عن هذين السؤالين بالنفى المأساوى، كما أنها كشفت عن جذور أوهام التعايش السلمى بين ما دأبنا على تسميته ب«عنصرى الأمة»، كما نزعت تلك الأحداث الدامية القناع عن أسطورة «الوحدة الوطنية» فعندما وضع كل من «عنصرى الأمة» على المحك فى موقف درامى شعاره «أكون أو لا أكون»، انطلق المارد الدينى مكشرا عن أنيابه ومشهرا مخالبه أى أسلحته البدائية من أجل الدفاع عن وجوده فى العالم ضد الخطر الذى يتهدد مطلقه ويهدده هو بالفناء. واستعان فى ذلك بشعور الكراهية والتعضب. بل مضيفا لهذا الشعور قدرا هائلا من الجهل الناتج عن عدم إعمال العقل الناقد الذى تم تعطيله ثم إفساده بفضل تسلط أوصياء الفكر الدينى التفكيرى الذى شاع بين كلا الطرفين المسلم والمسيحى. وقد عمل هؤلاء الأوصياء بدأب شديد على استلاب عقل شعبيهما كوسيلة للحفاظ على سلطتهما مستندين فى ذلك إلى دعم الخطاب الإعلامى التجهيلى (نقيد التنويرى) وإلى نظام تعليمى متعصب ومروج للفكر الدينى التكفيرى.
وعندما يفسد العقل الناقد لا يبقى سوى الغرائز الهوجاء جاهزة للاستنفار وهذا ما حدث بالضبط فى يوم الأحد الدامى عندما استجابت الجماهير إلى من دعاها إلى شحذ طاقاتها الغريزية التدميرية وذلك من خلال دق طبول الكراهية على نشيد التعصب الذى تردد فى الأرجاء: «النصارى فين.. الإسلام أهو». وبذلك اكتمل المشهد الدينى الذى تم تصميمه وإخراجه باحتراف بالغ من قبل القوى المتمرسة على إشعال الفتن بين الناس كوسيلة للحفاظ على سلطتها على عقول الجماهير وتوجيهها نحو الدمار والموت من أجل حماية مطلق توهموا أنهم امتلكوه. فراح ضحية هذا الوهم الشباب الذى دفع حياته فى المقابل، بل أن جثامين هؤلاء الشباب ستظل الوقود الذى سيبقى على نار الكراهية والتعصب والجهل مشتعلة لزمن لا يعرف أحد مداه. وحتى ذلك الحين المنتظر سيظل المصريون يرددون مثلهم الشائع: «صباح الخير يا كنيسة .. اللى فى القلب فى القلب».
●●●
فهل من مطفئ للحرائق؟ اطرح هذا التساؤل واسعى لإيجاد الجواب من خلال استدعاء مقولة أردوغان التى قالها أثناء زيارته للقاهرة مؤخرا: «أنا مسلم فى دولة علمانية». تلك المقولة التى استفزت أصحاب التيار الإسلامى الأصولى واستنفرت كراهيتهم الأزلية للعلمانية بعد أن كانوا قد استقبلوا أردوغان استقبال الأبطال الفاتحين باعتباره المخلص والزعيم الذى سوف يقوم بإحياء الخلافة الإسلامية!
أردد مع أردوغان مقولته وأوجهها إلى الذين يصرون على توهم أن العلمانية نقيض الإسلام تحديدا، وأتساءل: هل فقد أردوغان المسلم إيمانه لمجرد أنه يعيش فى دولة علمانية يحكمها بالقانون الوضعى وليس بأحكام الشريعة؟
وختاما، أتساءل إلى متى سيظل الإنسان المصرى مغتربا عن أخيه الإنسان، وإلى متى ستبقى العقيدة الدينية وسيلة تستغل لإحداث القسمة الثنائية بين الإنسان وأخيه الإنسان؟
وهل سيبقى الرمز الدينى، وأعنى بذلك مكان العبادة مسجدا كان أم كنيسة، أكثر قداسة من الإنسان الذى يتعبد فى هذا المكان؟
إذا كانت العلمانية تعلى من شأن الانسان فإنها أيضا تحافظ على جوهره بما توفره من حرية العقائد والمساواة بينها لأن العلمانية ليست ضد الدين كعقيدة إيمانية وتدين وممارسة شعائر، ولكنها بكل تأكيد ضد أى سلطة دينية تمنح نفسها حق الوصاية على عقول وضمائر الناس وتقودهم إلى الدمار والموت.