فى مقاله المنشور بجريدة «الشروق» تحت عنوان «كيف نجمع بين التدين والتقدم؟» وبتاريخ 21/10/2011، يتناول د. جلال أمين إشكالية الجمع ما بين التدين والتقدم باعتبارهما ظاهرتين اجتماعيتين. فالتدين «كسلوك إنسانى واجتماعى ينطوى على جرعة كبيرة من العاطفة»، على حد تعبير جلال أمين، مما قد يؤدى إلى غلبة العاطفة على العقل وإخضاعه «لتفسيرات لا عقلانية لما يأمر به الدين أمر ينهى عنه لمجرد انها التفسيرات التى قبلها عدد كبير من الناس الأعلى صوتا والأشد حماسا». أما التقدم فيشترط العقلانية ومن ثم يبزغ التناقض الذى يؤسس لإشكالية الجمع بين التدين والتقدم فى وحدة واحدة على الرغم من التناقض. وفى تقديرى، أن د.جلال أمين يقصد بمن يسميهم «الأعلى صوتا والأشد حماسا» أصحاب التيار الأصولى الإسلامى أو كما اصطلح على تسميته بتيار الإسلام السياسى.
ثم يخلص د. جلال أمين إلى أن الشك فى قدرة ذلك التيار على تحقيق نهضة اجتماعية وسياسية هو الذى دفع بالمثقفين إلى تبنى العلمانية على أمل أن تقوم العلمانية بحماية النشاط السياسى من الانحراف والاستبداد واللاعقلانية، على حد تعبير د. أمين فى مقاله سالف الذكر.
وبناء على هذا الاستنتاج يحذر د.أمين من الخطر الذى وقع فيه بعض المثقفين عن غير وعى، ويتمثل هذا الخطر فى الاستغناء عن ما يتصور د.جلال أنه «شرط أساسى من شروط نجاح النشاط السياسى ونجاح الجهود المبذولة لتحقيق النهضة». ويحدد د.جلال أمين هذا الشرط الأساسى بأنه «الحمية الدينية القوية التى يمكن أن تقوى روح المعارضة والمقاومة وتسهم فى إنجاحها». وبناء عليه يستطرد د.أمين فى بيان مخاطر العلمانية وذلك بتقرير الآتى: «وغنى عن البيان أن العلمانية ليست كافية لحماية النشاط السياسى من الوقوع فى الشطط واللاعقلانية. فالنشاط السياسى القائم على أسس علمانية بحتة لم ينجح دائما فى أن يحمى نفسه من الشوائب والانحرافات، بل وقد تقترب العلمانية أيضا بما يشبه التقديس فى موقفها من زعمائها فتعتبرهم بمثابة «السلف الصالح» وتنتهى إلى درجة عالية من الاستبداد والتسلط، كما نعرف جيدا من تاريخ الستالينية والنازية والفاشية.
●●●
وأتساءل: هل يتصور د.جلال أمين أن الشعوب الأوروبية التى سادت العلمانية مجتمعاتها تخلص من تحليل د.جلال أمين إلى مسألتين: أولا، أن العلمانية منافية للدين وللتدين وتقصيهما تماما من الواقع الاجتماعى والسياسى. ثانيا، أن العلمانية تؤدى إلى الاستبداد والدكتاتورية. والمسألة الثانية لازمة من الأولى ونتيجة منطقية لغياب الدين والتدين عن المجتمع. فإذا كانت العلمانية مضادة للدين والتدين فهى بالضرورة تقف ضد الحرية والديمقراطية والعقلانية وتقود. إلى الفاشية. وكل ذلك بطبيعة الحال لا يؤدى إلى التقدم بل يقود إلى دمار الحضارة الإنسانية والدليل على ذلك الدمار الشامل الذى لحق بالعالم من جراء الحرب العالمية الثانية باعتبارها من منتجات العلمانية، أى النازية والفاشية.
واستقرت فى وعيها الجمعى وتجسدت فى قوانين ومؤسسات، هل تلك الشعوب برمتها ملحدة ومخاصمة للتدين؟ إذا كان الجواب بالنفى، وهو بالقطع كذلك، ود.أمين على وعى بذلك، تنتفى صفة اللادينية عن العلمانية. فالشعوب التى تبنت العلمانية مازالت شعوبا متدينة تمارس شعائر دينها وتستقى منه قيمها الروحية والاجتماعية، إلى جانب القوانين والتشريعات الوضعية.
وأتساءل: هل انحرفت هذه الشعوب عن العقلانية وعن التفكير العلمى المنطقى الملازم لها؟ الجواب بالنفى حيث إن الثورة العلمية والتكنولوجية التى أفرزت مجتمع المعرفة، والتى ننعم نحن باستهلاك منتجاتها، هى من إنتاج هذه الشعوب العلمانية.
وأتساءل: فإذا كانت العلمانية لا تعنى اللا دينية ولا تنفى التدين ولا تؤدى إلى اللا عقلانية، فلماذا إذن بزغت النازية والفاشية فى تلك المجتمعات؟
السبب وراء بزوغ تلك الظواهر السلبية ليست العلمانية ولكنه شىء آخر. وهذا الشىء الآخر الذى يؤدى إلى ما يسميه د. أمين ما يشبه تقديس الزعماء، هو الدوجماطيقية.
الدوجماطيقية تعنى الإيمان الأعمى يعتقد إلى حد التعصب. واللفظ مشتق من كلمة يونانية doxa وتعنى الرأى أو الفكرة. ولكى نفرق بين العلمانية والدوجماطيقية أشير إلى تعريف د.مراد وهبة للعلمانية بأنها «التفكير فى النسبى بما هو نسبى، وليس بما هو مطلق». العلمانية، بهذا المعنى، حالة ذهنية تفرز منهجا للتفكير فى أمور الواقع النسبية طبقا لمعطيات تلك الأمور والمسائل النسبية والمتغيرة ابدا. وبناء على ذلك، تدرك الذهنية العلمانية الحدود الفاصلة بين ما هو نسبى ومتغير وما هو ثابت وأبدى، مما يعنى أنها تدرك وجود المطلق وتعترف به بينما تظل على وعى بأن العقل الإنسانى المتناهى ليست لديه القدرة على الوصول إلى المطلق اللامتناهى مهما حاول العقل الإنسانى، ولكنه بالرغم من هذا الوعى يظل يحاول. وتدرك الذهنية العلمانية طبيعتها النسبية من خلال وعيها بوجودها على كوكب الأرض الذى يتسم بعدم الثبات، فهو يلف ويدور مع دوران الأرض.
وهذا الوعى يلزم منه أن يدرك الإنسان أنه ليس مركز الكون لأن الأرض التى يحيا عليها ليست مركز الكون. ولكنها واحدة من ضمن كواكب ونجوم ومجرات تسبح فى فضاء الكون. وبناء على ذلك الوعى يدرك الذهنية العلمانية أنها لا يمكن أن تمتلك الحقيقة المطلقة. ولذلك لا يمكن أن تقع فى براثن الدوجماطيقية.
أما الأمثلة التى ذكرها د.أمين للتدليل على ارتباط العلمانية بالدكتاتورية، فهى تقدم الدليل على نفى صفة العلمانية عن تلك الظواهر وارتباطها بالدوجماطيقية.
●●●
إذن، الذهنية العلمانية لا تقع بالضرورة فى الدوجماطيقية ولا تتعصب لفكرة أو معتقد لدرجة التقديس كما يتصور د.أمين. فالذهنية العلمانية التى تدرك الواقع النسبى فى نسبيته ولا تحيله إلى ما هو مطلق، هى ذهنية عقلانية بطبيعتها ولا تنطوى على أى نوع من الحمية أيا كان نوعها، مما يؤدى إلى التعصب. كما أن الذهنية العلمانية تؤمن بالأديان وبالتدين المؤسس على العقلانية على النحو الذى نادى به الفيلسوف المسلم العقلانى ابن رشد فى كتابه الشهير «فضل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال».
وبناء عليه، فالعلمانية ليست ضد التدين، كما انها ليست ضد التقدم. فالمسلم المؤمن من الممكن أن يكون علمانيا ومؤمنا بالتقدم المؤسسى على التفكير العلمى من جهة، ومن جهة أخرى على القوانين والتشريعات التى تقوم عليها مؤسسات المجتمع الذى يعترف بحرية التدين وبممارسة تلك الحرية مع عدم فرض معتقد دينى، أو غير دينى على باقى المجتمع احتراما لمبدأ حرية الاعتقاد.
ولذلك علينا أن نفرق بين الدين والتدين من جهة، والحركة الأصولية الدينية من جهة أخرى. فالخلط بينهما يوقعنا فى وهم التنافض بين التدين والتقدم.