كنت فى لقاء جماعى مع بعض الأصدقاء الذين استغلوا وجودى ففتحوا باب الأسئلة والنقاش فى قضايا عامة. فسألونى عدة أسئلة لا أعرف الإجابة عنها. فكان هناك شىء من الاستهجان من قبل البعض بمنطق: «إذا كنت أنت لا تعرف، فمن يعرف؟» وكان هذا تعليقا على إعلانى أننى لا أعرف نوايا أحد الوزراء بشأن موضوع معين. وأنا فعلا لا أعرف ما هى سياسته لأننى لم أسأله فى هذا المجال من قبل. هل يلام الإنسان لأنه يقول «لا أعرف» حين لا يعرف؟ وحين طرحت المسألة للنقاش على الحضور، بدا الأمر كما لو أنه من غير المتوقع لشخص ما أن يقول: «لا أعرف». صديقى الذى كان يدير اللقاء قال: «قل أى حاجة». وهو ما لم أستطعه، وأتذكر قول فؤاد نجم: «والكلمة دين من غير إيدين بس الوفى على الحر». يبدو أننا بحاجة للتحسب من هذا المأزق الذى نضع أنفسنا فيه. أنا أخشى أن يكون «الفَتْى» نوعا من «النصب» لأنه نوع من الكذب الذى قد يفضى إلى خسائر حقيقية. هل تتذكرون نجيب الريحانى فى فيلم «سى عمر» حين دخل عليه الساحر الهندى المفترض، فهجم عليه نجيب الريحانى بعدة عبارات من قبيل: كومار.. بومباى.. كندهار.. سيخ.. سيخ.. فكان المتوقع أن الساحر الهندى سيكشف أمره، ولكن تبين أن «الفَتْى» نجح فى مواجهة «الفَتْى المضاد» حين بدأ الساحر يترجى نجيب الريحانى ألا يفضحه ويكشف ستره. وظل كلاهما يتحدثان باللغة الهندية وبقية الحضور فى انبهار لهذه الطلاقة التى يتحدث بها الشخصان. وفى مشهد مشابه، كان محمد فوزى وإسماعيل ياسين يقومان بدور الطبيب ومساعده فى أحد الأفلام، وأثناء تشخيص المرض، قال أحدهما: كركديه آمبيانس شيح شيح، فكان رد الآخر: موغات موغات. وكأن هذا هو تشخيص المرض باتفاق الاثنين. المشكلة أن هذا «الفتى» يأخذ أبعادا خطيرة حين يختلط بقضايا الأمة وشئون الحكم فتجد أشخاصا يتهمون آخرين بالعمالة والفلول والنهم للسلطة وغيرها. بل اكتشفت أن انتقادا وجهه أحد الأشخاص لأحد المثقفين ممن أيدوا الثورة بوضوح: «أنه كان يحترمه حتى تبين له أنه يكتب فى الإسلاميات». والأغرب أن هذا المثقف لم يكن يكتب فى الإسلاميات أصلا، مع أنها ليست جريمة، لكن «الفتى» ليس عليه جمرك. وهو ما لا يبدو بعيدا عن المشهد الكوميدى الذى قال فيه سمير غانم لجورج سيدهم إن «الفراولة مقلب» لأن «كلها نوى» يقصد أن فيها نواة كبيرة. وهذا مشهد يتحدث فيه جاهل إلى جاهل عن قضية يجهلانها. وهذا ما يفعله كثيرون مع الأسف. والأغرب من ذلك أن تجد شخصا يتعهدك بالإيميلات والتعليقات من قبيل: «أنت اليوم أثبت أنك راجل جاهل». وبعد يومين يرسل قائلا: «نفسى أعرف كيف حصلت على دكتوراه؟» ثم يمرر يوما ليرسل رسالة مشابهة، وهكذا. والسؤال المطروح لماذا تستمر فى قراءة من لا تظن فيه أنه لا يستحق القراءة. القارئ الكريم يذكرنى بسعيد صالح حين قال عن «الأستك منه فيه» إنه: «أشده ويلسعنى» فيكون السؤال: «بتشده ليه؟» فيقول: «علشان يلسعنى». بنفس المنطق: «لماذا تقرأ لكاتب معين، ثم تشكك فى قدرة الكاتب؟» فغالبا الإجابة هى: «أقرأ له كى أشتمه». «طيب بتقرأ ليه»، «علشان أشتمه». ضعوا هذه المشاهد بجوار بعضها البعض، لنعرف لماذا نحن بحاجة لثورة فى التعليم والإعلام والثقافة. ونقطة البداية: وليسقط «الفَتْى» ولتحيا «لا أعرف».