دخلت مصر، بفضل شجاعة أبنائها وثورتهم المجيدة، مرحلة جديدة من الحياة السياسية والاجتماعية. ولقد عكست هتافات الجماهير فى أتون الثورة رغبتهم فى خلق مجتمع جديد، ونادى الجميع بصياغة دستور يعبر عن مطامح المصريين فى حياة تملؤها الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية.
لم تكن آمال الجماهير بعيدة عما رسخ فى الضمير الوطنى من شغف بالحرية، ورغبة فى تحقيق دولة قوية ترعى أبناءها، وتمكنهم من تحقيق حياة هانئة يسودها الوئام والتكافل الاجتماعى فى الداخل، والتعامل بندية مع الدول الأخرى بما يحقق العدل والسلام الدولى.
●●●
وفى خضم الجدل حول الجمعية التأسيسية لصياغة الدستور، وما أثير حول مدى توازن تشكيلها، والمخاوف من صياغة البنود المتعلقة بالحقوق السياسية والثقافية والمدنية، نسى الجميع الجانب الاقتصادى فى تنظيم المجتمع. ذلك، بالرغم من أهميته فى الدساتير الحديثة، والتصاقه بمطالب الجماهير وثورتهم المباركة، واحتلال الحقوق والواجبات الاقتصادية مركزا مهما فى عدد من المواثيق الدولية التى صادقت عليها مصر.
وتتعلق الحقوق الاقتصادية بما يخص ملكية أدوات الإنتاج، وكيفية تشغيلها، وكذلك توزيع الناتج القومى والمساهمة فى أعباء الخدمات العامة.
ولعل الحق الأول للمواطن هو أن يحيا حياة كريمة، يحقق فيها ذاته ويجنى ثمار عمله الخلاق، حياة تتوفر فيها السعادة، والبعد عن الشقاء! وقد يستغرب البعض هذه المبادئ المثالية، ولكن ما هو الغريب فى أن ننادى برفاهية البشر وتحقيقهم لذواتهم وقدراتهم. أليس هذا هو هدف الحكم الرشيد فى أى دولة حرة. ألم يدعونا الله العلى القدير إلى تكريم بنى آدم وإعطائهم حقوقهم.
ولقد عبر إعلان الاستقلال الأمريكى الصادر فى 1776، عن هذا المفهوم بطريقة مبتكرة تتناسب مع الحياة البسيطة والمبادئ المثالية للمهاجرين إلى العالم الجديد؛ وذلك بمطالبة الدولة أن تساعد المواطنين على تحقيق السعادة Pursuit of Happiness.
قد تكون سنوات حكم حسنى مبارك قد أنستنا هذا المبدأ الأساسى، بل عملت الحكومة على زيادة شقاء الناس عن طريق بيروقراطية قاتلة، وطوابير لا تنتهى، ومواصلات لا يعتمد عليها، وبيئة ملوثة، وضرائب تقسم ظهور الفقراء. كل هذا بالإضافة إلى تكديرنا والمن علينا لكثرة عيالنا، وكثرة مطالبنا من وجهة نظر الحكومة.
وبدلا من أن يدعو الإعلام الرسمى إلى تأصيل مفاهيم العدالة الاجتماعية والتكافل بين الطبقات، عمل على تأجيج التوتر الاجتماعى عن طريق تشجيع الاستهلاك الترفى، وتركيز الأضواء على أخبار الفن وأبناء الطبقات الغنية وطموحاتهم الأنانية، ومشاغلهم الترفية من أزياء وموضه، وأكلات مبهرة وقصور فاخرة.
●●●
وسوف نتناول فى هذه المقالة خمسة من الحقوق الاقتصادية ذات الأولوية نستقيها من دساتير مصر السابقة وآخرها دستور 1971، وكذلك فى الميثاق العالمى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية الصادر عام 1966 والتى صادقت عليه مصر، وهى الحرية من الجوع والخوف، حق العمل، والحق فى المسكن والبيئة النظيفة، والحق فى التعليم والصحة مع الإشارة إلى أهمية دعمها بسياسات موائمة، وآليات تنفيذية واضحة.
ويتقدم الحقوق المذكورة فى الميثاق العالمى لحقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية أن يكون الإنسان حرا من الخوف والجوع، وهكذا فإن الحق الأول من حقوق الإنسان الاقتصادية هو الحق فى الغذاء. ولم يتضمن دستور 1971 نصا بهذا المعنى وإن ذكر أهمية التضامن الاجتماعى بشكل عام. وقد يرى أعضاء الجمعية التأسيسية ذكر هذا الحق صراحة وعلى أن تتحقق الدولة من وصول الغذاء للجميع بأسعار معقولة، وأن تدفع ثمنه بالنيابة عن الفقراء والمحتاجين وأن تدعمهم نقديا وعينيا. وقد يتطرق الدستور إلى ضمان هذا الجانب عن طريق تبنى الدولة وتشجيعها لتنمية الموارد الزراعية والمائية، وان تعمل على تنمية الريف وتحمى الزراعة المصرية من المنافسة الأجنبية الجائرة.
كذلك على الدولة أن تهتم بالحاجات الغذائية للأطفال والأمهات، والفئات الضعيفة فى المجتمع.
ولعل الوسيلة الأولى للحصول على العيش الكريم فى المجتمع المعاصر هو عن طريق ضمان الحق فى العمل، ويزيد على ذلك دستور 1971 بالنص على «أن العمل حق وواجب وشرف تكفله الدولة، ويكون العاملون الممتازون محل تقدير الدولة والمجتمع». وفى واقع الأمر أن هذا المبدأ القيم تم تفريغه من مضمونه بعدم اتباع السياسات التى تكفل تحقيقه. فالدولة بخست قيمة العمل ليس فقط بعدم دفع أجور مناسبة، ولكن أيضا بفرض ضرائب على العمل تزيد كثيرا عن الضرائب التى تتقاضاها عن أرباح الشركات، وقامت بإعفاء فوائد البنوك من الضرائب، وكذلك أعفت الأرباح الرأسمالية. وسمحت الدولة بممارسات تؤجج عدم المساواة فى الدخول عن طريق السماح بأجور استثنائية خارج هيكل الأجور، وبكادر خاص للمستشارين، وبحوافز تدفع من الصناديق الخاصة لموظفى الدولة، وبحصة من الأرباح لأعضاء مجالس إدارة القطاع العام دون سقوف. ولقد أظهرت المظاهرات الفئوية، وبالذات فى قطاع البنوك، التفاوت الهائل بين الأجور حتى بين العاملين فى ذات الوظائف أو ذات التخصص. وكذلك عملت الحكومة فى السابق على شل العمل النقابى وتقييده، وارتضت فقط باتحاد عمال تسيطر عليه. وبعدما تحققت المساواة بين الجنسين فى العمل والأجر فى الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، رأينا ردة تعيد المرأة إلى البيت، وتفرق بين المواطنين فى فرص العمل، بل تدعو إلى فتنة فى المجتمع بسبب التمييز والواسطة والمحسوبية.
●●●
ومن ضمن الحقوق الاقتصادية والعامة التى نص عليها دستور 1971 هو الحق فى التعليم، وهو حق «تكفله الدولة، وهو الزامى فى المرحلة الابتدائية، وتشرف على التعليم كله، وتكفل استغلال الجامعات ومراكز البحث العلمى، وذلك كله بما يحقق الربط بينه وبين حاجات المجتمع والإنتاج». ولا يخفى على القارئ أن هذا الحق الأصيل قد فرغ من مضمونه نتيجة تدهور جودة التعليم والسماح بوجود عدد من أنظمة التعليم المتوازية حسب القدرة على الدفع. ومن ناحية أخرى يؤكد الميثاق العالمى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية أن على الدولة ان توفر فرص التعليم والتدريب المهنى الذى يكفل للفقراء الحصول على عمل مناسب.
ولم يتضمن دستور 1971 الحديث عن حق المصرى فى المسكن الآمن والبيئة النظيفة، وإن تحدث عن واجب الدولة فى توفير المرافق الأساسية. وأدى إهمال هذه الحقوق فى الثلاثين عاما الأخيرة إلى انتشار العشوائيات وسكنى المقابn وغياب الصرف الصحى وhختلاطه بمصادر مياة الشرب. وقد يكون من المناسب التأكيد على هذه الحقوق الأساسية فى الدستور الجديد.
كذلك تتحدث الدساتير الحديثة، عن حق الإنسان فى الرعاية الصحية. إذ لا يجب أن تكون الصحة حقا للقادرين فقط. وتنص المادة 17 من دستور 1971 «تكفل الدولة خدمات التأمين الاجتماعى والصحى» ومع وضوح هذا الالتزام، تخلت الدولة عنه مع تراجع ميزانيات الصحة، وتدهور الصحة العامة مع زيادة مصادر التلوث وحوادث الطرق، وزيادة الإصابة بالفيروسات الوبائية والسرطان. ومن الواجب أن ترتبط الحقوق بوسائل لتنفيذها مثل الإشارة إلى إعطاء أولوية معينة لخدمات الصحة والتعليم، أو توفير مصادر إضافية لتمويلها من عوائد البترول والموارد الطبيعية الأخرى، أو استحداث مصادر إضافية لتمويلها من الأوقاف الخيرية والزكاة، أو أخيرا توزيع الخدمة بمقابل للقادرين.
وهكذا نرى أن الجمعية التأسيسية يجب ان تهتم ليس فقط بسرد الحقوق، ولكن يجب أيضا أن ترصد كيفية تنفيذها وتضمن سبل تمويلها.
●●●
وفى النهاية نشير إلى أن المبادئ الدستورية الجيدة الإعداد لا تكفى بذاتها لتحقيق حياة كريمة وعادلة، بل يلزم لتحقيقها وجود حياة نيابية سليمة، ورقابة شعبية نشطة، وإعلام وطنى حر يعى حقوق المواطن ويدافع عنها.