رغم أن أعواما كثيرة مرت على رحيل الشاعر الثائر أمل دنقل، إلا أنه يباغتنا فى سكونه بمفاجآت جديدة، ولا تمر ذكرى إلا وفيها بضعة عناصر جديدة حول حياته وشعره وكتاباته عموما، وكنا قد قدمنا عددا من القصائد التى نشرها أمل فى دوريات، ولم يضمها لمجموعاته الشعرية، لأسباب مختلفة، وليس لسبب واحد، ومن الأسباب القوية أن دنقل كان يؤمن بوحدة الديوان، ولابد فى اعتقاده أن الديوان يكون نسيجا متقاربا، لا توجد به نشازات، لذلك استبعد قصائد كثيرة لا يراها مناسبة لهذا الديوان أو ذاك، وربما كان ينتظر مناسبات لم تأت فى حياته، ولكن المدهش أن الأعمال الشعرية الكاملة التى صدرت فى طبعات مختلفة استبعدت كذلك هذه القصائد، ربما لعدم توافرها، وربما عن قصد، ولأن الشاعر هو أمل دنقل، الذى لم يكن شاعرا عابرا بشكل مطلق، لكنه كان وما زال شاعرا فى قلب الحركة، وهو الشاعر الأكثر تأثيرا وحضورا بين كل شعراء جيله وما بعد جيله أيضا، لهذا فنحن يهمنا كل ما كتبه هذا الشاعر الثائر من شعر ونثر، ولذلك تأتى أهمية هذه القصيدة التى ننشرها اليوم، التى تعبر بشكل قاطع هى وقصائد أخرى أن أمل دنقل كان يقف فى المعسكر الذى يؤيد (الثورة) عندما كانت فتية وذات أحلام عريضة، وتحتضن أشواق وآمال الفقراء، والدليل على ذلك قصيدته (أغنية للاتحاد الاشتراكى) التى نشرها فى مجلة صباح الخير، التى كان يقتفى فيها أثر أستاذه الشاعر أحمد عبدالمعطى حجازى، الذى كان قد كتب قصيدة تحت هذا العنوان ذاته، كذلك القصيدة التى ننشرها اليوم، والتى نشرها الشاعر فى مجلة صباح الخير العدد رقم 498، وفى 22 يوليو، والعدد كان يحتفل بالعيد ال13 لثورة يوليو، وتحت عنوان (العمارة رقم 13 شارع النصر)، وكتب عديدون فى هذا العدد، ومجدوا الثورة، وسردوا فضائلها، على اعتبار أن سكان العمارة هم أصحابها وهم الذين بنوها وهم الذين يديرون شئونها، وفى هذا الإطار قدم المحرر قصيدة الشاعر أمل دنقل بصفته أحد سكان العمارة، يكتب المحرر فى التقديم: (ما من فنان فى العمارة رقم 13 شارع النصر، إلا وله حكاية مع عم محمد، وفنانو العمارة كثيرون، لعم محمد أفضال عليهم لا تعد، أهم أفضاله أنه كان إلهاما لكثير من أعمالهم، وذات مساء جلس عم محمد مع شاعر من شعراء العمارة وقال: تعرف؟ جدى خدوه زمان يفحت فى القنال! وانتفض الشاعر أمل دنقل، وكتب هذه القصيدة) هذا هو التقديم الذى جاد به محرر المجلة، ولا أظن أن له علاقة وطيدة بما هم فيه من احتفال وتكريم للثورة، لكن أمل دنقل كان يتعامل مع التاريخ عموما بصفته المنهل الطبيعى للدراما الإنسانية، وأزعم أن هذه القصيدة المبكرة (كان عمره خمسة وعشرين عاما) آنذاك، وكانت هذه القصيدة مقدمة مهمة ومحورية لقصائد كثيرة اتخذت من التاريخ مادة خصبة للدراما الشعرية، وعلى رأس هذه القصائد قصيدة (لا تصالح).. ودواوين أمل كلها تذخر بهذا العنصر الذى يستمد من التاريخ مادته الشعرية والدرامية عموما.
وبالطبع يأتى عنوان القصيدة لافتا، وهو يحمل اسم الامبراطورة (أوجينى )التى حضرت عام 1879 حفل افتتاح قناة السويس، مدعوة من الخديو إسماعيل، وهى زوجة نابليون الثالث امبراطور فرنسا فى ذلك الوقت، وكان قد تزوجها عام 1853 وجاءت الامبراطورة الجميلة الاحتفالية الضخمة، ونالت من التقدير الاسماعيلى ما يفوق الخيال، ومما أدهشها هى شخصيا من كيفية وكمية السفه المخيمة على الموقف، وفى بلاد فقيرة، وتذخر كتب التاريخ بما قالته الامبراطورة فى هذه المناسبة، والتقط الشاعر الثائر أمل دنقل تلك المفارقة ليصنع منها أنشودته وقصيدته الرائعة، التى تحتاج إلى تأمل وتحليل واف لا يتسع لها المجال هنا.. وأترككم مع قصيد (أوجينى) للشاعر أمل دنقل.