«فين الدبابة؟»، لم يكن المشاركون فى ورشة مشروع كورال فى أكتوبر 2011 يتوقعون أن يكون هذا السؤال مصدرا لتلك الطاقة الجبارة التى تندلع بين المستمعين لأغنية «إيه العبارة؟» يتنقل المستمع بين أسئلة قصيرة مكثفة حول الثورة من خلال أغنية ولدت بعد أيام قليلة من مذبحة ماسبيرو كنتاج ورشة مفتوحة للتأليف والتلحين والغناء الجماعى استمرت 6 ساعات وشارك فيها 120 شخصا: «إيه هى الثورة؟ مين اللى عملها؟ فين اللى حماها؟ مين اللى سرقها؟ مين ماسك أعلامها؟». تصادف توقيت وقوع أحداث ماسبيرو مع تبلور فكرة جديدة لسلام يسرى المخرج المسرحى والمدير الفنى لمشروع كورال بالدعوة لورشة كورال لمدة يوم واحد للمرة الأولى.
الدعوة للورشة لم يقصد بها التأريخ لحادث معين، إلا أن السؤال عن الدبابة حمل رمزية مُركبة للمنعطف التاريخى الذى مرت به الثورة، ف«الدبابة» المفقودة قد تكون هى تحديدا المركبة العسكرية التى دهست متظاهرى ماسبيرو، أو هى الدبابة فى مطلقها تلك التى فرح بها جموع الشعب خلال الثورة والتقطوا إلى جوارها الصور التذكارية، ثم تعقدت علاقتهم بها بمرور الزمن.
يؤكد سلام يسرى أن الحالة النفسية الجماعية للمشاركين فى ورشة الكورال تؤثر بالطبع على منتج الورشة، موضحا: «الأمر لا يرتبط بما حدث فى ماسبيرو فحسب، بل ارتبط طرح تلك الأسئلة بأحاسيس القهر والارتباك والغربة وقت إنتاج الأغنية، فأغانى الكورال نتاج سريع جدا لتفاعل جماعى بشكل تلقائى تماما يأتى معبرا عن الأحداث».
خلال أسابيع قليلة حققت أغنية «إيه العبارة؟» انتشارا واسعا على مواقع التواصل الاجتماعى، وسجلت نسبة مشاهدة عالية على موقع يوتيوب، كما صارت عبارات الأغنية تتردد فى هتافات المتظاهرين. هذا الانتشار لا يضاهيه انتشار لعمل من إنتاج مشروع كورال سوى أغنية «حياة الميدان»، وهى ترتبط بجرعة الطاقة الإيجابية خلال المرحلة الوردية للثمانية عشر يوما الأولى للثورة. الأغنية كانت نتاج ورشة بعنوان «يوتوبيا» (أى المدينة الفاضلة) استمرت لمدة خمسة أيام فى فبراير 2011، أى بعد أيام من إجبار الرئيس السابق على التخلى عن الحكم. تجمع «حياة الميدان» عشرات الهتافات التى هزت ميادين التحرير فى تسلسل بدا وكأنه يعكس قصة انتصار الثورة فى مسيرة هتاف متصاعد بداية من «قوة، عزيمة، ايمان، ثورة مصر فى كل مكان»، ثم ها نحن نرى «الشعب المصرى طالع م الغيطان وم المصانع»، حتى وصلت المسيرة إلى محطة الحرية «مصر هتفضل حرة تملى» و«ارفع راسك فوق انت مصرى»، حينها كان مؤشر التفاؤل الجماعى فى أقصى درجاته.
فى النصف الثانى من 2011 مرت الثورة بمنعطف مهم عقب أحداث مسرح البالون، حين حدث أول هجوم مباشر على أهالى شهداء الثورة، وتزايدت الشكوك بشأن جدية محاسبة المسئولين عن قتلهم. وعاد المتناحرون بشأن «الانتخابات أولا» أم «الدستور أولا» إلى اعتصام يوليو تحت شعار «الثورة أولا». تصادف اعتصام يوليو مع موعد تنظيم ورشة مشروع كورال فى الإسكندرية والتى انتجت أغنية «فانتازيا الثورة»... تبدأ الأغنية بجملة افتتاحية تُعدّل من بيان عمر سليمان الشهير إلى بيان يتمسك فيه الرئيس بمنصبه بدلا من التخلى عنه، ويمضى سيناريو «الفانتازيا» متخيلا سير الأحداث إذا كانت «هتافتكو خلاص خلصت. ثورتكو خلاص فشلت. تحريركو خلاص لغيناه»، ثم تخرج الأغنية بالمستمع من ذلك السيناريو الانهزامى إلى السيناريو المعاكس الذى يفتح طاقة حماس وأمل عن طريق هتاف غنائى ينطق بالتصميم على أن الثورة مستمرة: «الثورة لسه عايشة عاوزين حق الشهيد. الثورة لسه عايشة مانستش خالد سعيد».
مرحلة «بيقولوا فيه ثورة»
وفى مايو 2011، قامت مجموعة «مصريون متحدون» التى شكلها بعض المغتربين فى بريطانيا باستضافة ورشة أخرى لمشروع كورال. الأغانى التى نتجت عن ورشة لندن حملت روحا تختلف عن تلك التى نتجت فى القاهرة أو الاسكندرية. مشاعر الغربة والحنين فى أغنية «بيقولوا فيه ثورة» تحمل طابعا لا يحمله سواها، إذ تعكس الأغنية مشاعر صانعيها من الذين حالت الظروف بينهم وبين الوجود فى مصر حين اندلعت الثورة، وكأنها رسالة أراد المشاركون فى الورشة إرسالها إلى أهلهم فى مصر بأن قلوبهم كانت معهم. يقول أحد المشاركين فى الورشة: «لم يكن هناك عنوان محدد لورشة لندن، بل كان الحديث عن موضوعات أخرى لا تتعلق بالثورة، فالمغتربون كانوا فى حالة حنين لميدان التحرير»، فورش مشروع كورال طافت عددا من مدن العالم منها: لندن، عمّان، بيروت، باريس، وميونيخ. اختلاف نتاج تلك الورش عن بعضها البعض وعن الورش التى نظمت داخل مصر يؤكد مدى تأثره بطبيعة الأفراد المشاركين فيه وعددهم والطاقة التى تنتج خلال الورشة. ففى حين صبغ الطابع السياسى انتاج ورشة عمان مثلا، اختار المشاركون فى ورشة ميونيخ التعبير عن رغبتهم فى البكاء ومناقشة أمور متعلقة بالكائنات الخرافية.
التأريخ للثورة يحدث مصادفة، والأمر يعتمد على تلقائية الإبداع بشكل كامل، فطبيعة المشروع المفتوح لمشاركة كل الأفراد الراغبين فى التعبير عن أنفسهم دون قيد أو شرط وبشكل تطوعى جعلت نتاجه معبرا عن الشعور الجماعى للمشاركين، وهو فى مجمله نبض الوطن. فما حدث على حد تفسير سلام يسرى هو أن «الجمهور يتحول إلى المبدع ويخدم الفرد بوجوده ومشاركته الجماعة دون اهتمام بالظهور الفردى ودون التمسك بقيم الاحترافية، إنما يتمسك بتلقائية العرض والاعتماد على الطاقة الجماعية الإيجابية التى تتولّد من خلال المشاركة».
هذه التلقائية هى التى ميزت المشروع منذ تأسيسه فى مايو 2010 مع ورشة «كورال شكاوى القاهرة»، الذى عبر فى حينها عن أوجاع المشاركين العامة والخاصة. فقد كانت أغانى «كورال الشكاوى» تبدأ دوما بمعزوفة من الآهات الجماعية المنغمة يعرفها جيدا محبو أغنية «غريب فى بلدى». تجمع الأغنية فى جمل بسيطة مشكلات الوطن المعقدة التى كانت قد وصلت إلى الذروة، من تجاهل لحقوق العمال وبيع مصانع القطاع العام.. إلى تصدير الغاز المصرى واستيراد القمح.. إلى غزو السلع الصينية والمسلسلات التركية.. إلى سوء أداء شركات النظافة الأجنبية التى جاءت إلى القاهرة بعقود معيبة ف«زبّلوها زيادة».. مشاعر الغربة والظلم حملتها الأغنية، كالتالى: «أنا غريب فى بلدى..وحقى شايفه ضايع.. بنوك بدل الجناين.. وليه العدل مايع».
ربما يكون تأريخ الكورال للثورة بدأ قبل اندلاع الثورة نفسها، فمن خلال أغنية «يا فرعون» التى نتجت عن ورشة «كورال الأمثال الشعبية» فى ديسمبر 2010، يرصد المستمع إرهاصات الثورة من خلال سلسلة من الأمثال الشعبية المغناة التى وضعها المشاركون كحوار بين الشعب والحاكم الظالم الذى تفرعن بعدما «ما لقاش حد يلمه».. ينذر الغاضبون فرعون بالطوفان القادم، ويتوقعون أن يجبر الطوفان الجارف الأب على التخلى عن الابن: «ان جه عليك النيل طوفان.. حط ابنك تحت رجلك يا إنسان».
ومع اندلاع الثورة فى يناير 2011، قام سلام يسرى المدير الفنى لمشروع كورال بإعداد فيديو خاص لأغنية على هيئة حوار بين مبارك وجموع الشعب الغاضبة التى خرجت للشارع. تلاحظ مى شكرى، إحدى المشاركات فى ورش الكورال منذ بدايته، كيف لا تزال الأغنية «تكمل حالة التنبؤ وتنطبق على ما حدث من تطورات«، موضحة: «حين كنت أغنى جملة (وإيش يعمل الترقيع فى التوب البالى) فى مارس 2011 تزامن ذلك مع الاستفتاء على التعديلات الدستورية، فوجئت بعاصفة من التصفيق بين الجمهور، وكأنما كان هذا المثل يعبر عن الرافضين لترقيع الدستور».
لا تعليق
خلال الورشة الأخيرة للكورال فى أوائل يناير الماضى، والتى كان عنوانها «لا تعليق»، حاول المشاركون من الثوار المنهكين النأى بالحديث عن مجريات الأمور. العنوان جاء دالا على أن الكلام يقف عاجزا عن مواكبة عبثية الأحداث، واتخذ المشاركون قرارا جماعيا بإنتاج أغنية لا ترتبط بالأحداث العامة، تقول رانيا إبراهيم إحدى المشاركات فى ورش الكورال: «تكرار الاشتباكات والمواجهات العنيفة فى الأسابيع التى سبقت الورشة والإحباط والجو المشحون أمور أرهقتنا، كنا نريد اللجوء للفضفضة الشخصية»، إلا أن ما حدث تلقائيا خلال الورشة كان تأليف 3 أغانٍ ترتبط ارتباطا مباشرا بالأحداث. تحمل أغنية «لا تعليق» سخرية لاذعة ونبرة تحدى قوية: «نشن. اضرب. جدع يا باشا! زوّر. مَنتج. ذيع ع الشاشة!». بينما تحكى أغنية «قبل الفجر فى طلعت حرب» تجربة شخصية لأحد المشاركين خلال أحداث محمد محمود حين التقى شخصا كان ممن يهاجمون الثوار ويحملهم مسئولية «وقف حال البسطاء»، إلى أن وجد نفسه فى خضم مواجهات نوفمبر، فتغير موقفه وانضم للثوار.
لا ينشغل مشروع كورال بالمسميات الكبرى لتوصيف اسهامه فى حركة المجتمع أو دوره فى تأريخ الأحداث أو فى الحشد لدفع بها فى اتجاه محدد، فالتغيير «حين يصبح هدفا وهمّا فى حدّ ذاته يصبح فعلا فوقيا ولا يؤدى إلى تغيير حقّ. والتغيير الحق فعل تفاعلى وتبادلى يؤثر فى المشاركين كما يتأثّر بهم، فلا يغيّر عنصر عنصرا آخر وإنما تُغير التجربة الجميع معا بالضرورة»، هكذا يرفض سلام يسرى مصطلح «التوعية» ذى النبرة الاستعلائية، والذى يفترض أن شريحة معينة هى «الواعية» بينما الآخرون مجرد متلقين أقل ثقافة ورقيًا.