فى أحد مشاهد الفيلم الشهير «الناصر صلاح الدين»، يطلب ريتشارد قلب الأسد من رجل الدين المصاحب له أن يقيم الصلاة، يحاول الرجل إقناعه بعدم لياقة أن يصلى الملك ريتشارد وهو مخمور. فينزل ريتشارد، الذى هو حمدى غيث، على ركبتيه أمام الرجل، ويتحول الطلب إلى أمر: «أريد البركة فورا أو اللعنة فورا». وبالطبع يخضع الكاهن ويصلى بالحضور. وفى كتاب، نادر النُسخ، بعنوان: «رؤية هلال شهر رمضان فى مصر الإسلامية حتى نهاية عصر المماليك» يحكى مؤلفه محمد بهجت مختار عصفور، نقلا عن المقريزى، حول التغيرات التى أحدثها الفاطميون فى نظام الصوم، وكيف أن جوهر الصقلى أجبر قاضى البلاد، على التماشى مع العقائد الشيعية فى أمر صوم رمضان.
هذه العلاقة، التى تحمل شيئا من المسخرة، بين بعض رجال الدين وبين الحاكم، تتذكرها وأنت تقرأ كتاب «الأزهر.. الشيخ والمشيخة» للكاتب المعروف حلمى النمنم، والصادر حديثا، فى لغة حكى رشيقة، عن مكتبة مدبولى. وهو كتاب تأريخى مهم، يتتبع فيه النمنم، تطور الجامع الأزهر، ومحورة دوره حول شيخه منذ النشأة، وصولا إلى ما عرف بوثيقة الأزهر، أو البيان الذى أطلقته المؤسسة بالتوافق مع عدد من المثقفين بعد ثورة يناير.
فكر النمنم فى إنجاز هذا الكتاب منذ 2008، عندما استفز د.محمد سيد طنطاوى عددا كبيرا من المعنيين، بعدما اختلق معارك وهمية مع عدد من العلماء والصحفيين، الذين اعتبرهم: «مثيرى شائعات»، لحديثهم عن ثروة علاء مبارك أو عن التوريث وكيف أن العقاب الإلهى ينتظر هؤلاء، واستدعت هذه الحالة تاريخ الأزهر وشيوخه منذ البداية، غير أنه: «إذا كان بناء المسجد الجامع فى المدينة ضرورة سياسية ودينية، فإن إقامة الأزهر فى القاهرة، حمل معنى إضافيا، وضرورة أيديولوجية ومذهبية»، بتعبير الكاتب، ذلك أن الدولة الفاطمية كانت شيعية المذهب، فجاء بناء الأزهر كخطوة أولى من جوهر الصقلى لمحاولة السيطرة على الدولة العباسية فى بغداد.
والواحد تأخذه بعض المشاعر المرتبكة وهو يقرأ مثل هذا الكتاب الشيق، فلا تستطيع منع نفسك من الضحك مثلا، أمام بعض فتاوى قضاة الدولة وشيوخها، غير شاعرين بالخجل، وهم يلوون الأمور لصالح رغبات الحاكم ومبرراته الواهية، كأن يحكم قاضى قضاة مصر صدر الدين درباس بأنه: «لا يجوز أن تقام خطبتان للجمعة فى مدينة واحدة، وتأسيسا على ذلك قرر صلاح الدين الأيوبى إغلاق الأزهر والاكتفاء فى القاهرة بجامع الحاكم بأمر الله». وظل الازهر مغلقا 98 عاما، بحسب النمنم فى مستهل الكتاب.
وطبعا، إغلاق الأزهر لم يكن سببه مسألة ازدواجية الخطب، ولكن هو محو الثقافة الشيعية التى جاءت بها الدولة الفاطمية، حتى إن الأمر وصل إلى إحراق «دار الحكمة» التى بناها الصقلى، وهى المكتبة الكبرى فى البلاد، وتحويل الكتب التى كانت تحتويها إلى مستوقدات الفول، التى طال إحماء نارها بالكتب لعامين كاملين.
النمنم يرى أن العلاقة بين شيخ الازهر والحاكم لا تحمل قاعدة معينة غير أن لها بعض الملامح ذلك «أن كلا منهما مضطر إلى التعامل مع الآخر»، ثم يتعرض لبعض أشكال هذه العلاقة بين حكام: «يحبون العلماء ويوقرونهم، وآخرين لا يحبونهم ويتحاملون عليهم، وفى المقابل كان هناك علماء يتوددون إلى الأمراء، وآخرون حاولوا أن يتوازنوا فى التعامل معهم».
وتحمل الصفحات قصصا مشوقة، أبطالها اسماء بحجم وشهرة سليمان الحلبى وكليبر وعمر مكرم وعبدالله الشرقاوى وفريزر وأحمد عرابى، ومحمد على الذى: «نجح فى استغلال ضعف العلماء، والقضاء على دورهم السياسى والوطنى، ونجح فى أن شيخ الأزهر مجرد موظف كبير فى دولته، يتصرف كما يريد من الوالى، وكما يليق بموظف ملتزم».
المشكلة هى أنه طالما ظل شيخ الأزهر يأتى بالتعيين من الحاكم لا بالانتخاب، سوف يظل الشيخ خاضعا للدولة وأهوائها أو أنه يضطر للاستقالة من منصبه، لكن النمنم يندهش، ونندهش معه من أن الداعين إلى الانتخاب، يطرحون فكرة أن يظل الشيخ فى منصبه حتى الموت، مثله فى هذا مثل البابا فى الكنيسة، وهو ما لا يتسق مع فكرة حق الاختيار والانتخاب.
على أية حال، يجب الانتباه إلى المكانة التى يتبوأها الأزهر فى العالم الإسلامى، وما زلت أذكر دردشة مع الناقد الدكتور محمد بدوى، عندما سألته عن رأيه فى رحلة إلى إندونسيا، قال لى وقتها إنهم سوف يحتفون بك كثيرا لمجرد أنك آتٍ من بلد الأزهر الشريف.