الكتابة الحلوة تيمتها الصدق.. بنت الإيجاز ودقة التعبير. هى كائن حى من لحم ودم يرى ويسمع ويشم، دون جهد جبار. و«الولع بالتاريخ وأحداثه»، إذا جاء بتمكّن يضاف إلى صفات تلك الكتابة، التى يمتلكها قليلون على اتساع الوسط الأدبى. وربيع جابر واحد من هؤلاء. يدهشك أنه يصدر كل عام رواية، وأحيانا روايتين، تقرأها فتجد بها ذلك الكائن الحى، الذى يتحول إلى حركة جسد، ونبرة صوت، ورائحة نفاذة، تخرج من صفحات مائلة للإصفرار، ممزوجة بحبر أسود، تزيد من الطابع التاريخى لأبطاله. هو إذا من ندرة يفعلون أشياء كثيرة بنجاح. فى ظل زخم من الكتابات الروائية التى تتوسل بالسير الذاتية المتشابهة للأسف لأصحابها، والتى غالبا ما تتمحور حول تجاربهم الشخصية، الجسدية والنفسية، فى استسهال مقيت، فتفقدها المتعة، وتقتل الإبداع، فإن تجاوز كاتب ما هذه التجارب، وهرب من جلده، وتوغل تحت جلد مغاير، فهى مغامرة إبداعية حقيقية، خاصة إذا أفلح كاتبها، كما فعل ربيع جابر فى «دروز بلغراد حكاية حنا يعقوب»، (المركز الثقافى العربى ودار الآداب)، رواية البوكر لهذا العام.
الرواية هى السابعة عشرة فى مسيرة جابر الشاب، ينطلق فيها، كعادته، من واقعة تاريخية، جرت فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر، إثر أحداث 1860، عندما تم نفى مئات من دروز جبل لبنان إلى بلغراد عقابا على مشاركتهم فى تلك الأحداث. أضاف إليها جابر حكاية بائع مسيحى يُدعى «حنا يعقوب» المغلوب على أمره طوال الرواية، ف«هذه حكاية حنا يعقوب وزوجته هيلانة قسطنطين يعقوب وابنتهما بربارة، وفيها ما وقع للعائلة البيروتية الصغيرة من مصائب بسبب الحظ العثر ووجود الرجل المتوسط القامة الحنطى الوجه الأسود الشعر والعينين بائع البيض فى المكان الخطأ فى الساحة الخطأ».
وما بين خوف زوجته هيلانة من خروجه اليومى المبكر فى فترة كثر فيها العساكر والغرباء، ووقوع حرب أهلية فى الجبل الذى يظلل بيروت، وركوبه، بالخطأ، المركب الذاهب إلى بلغراد، وعبارة مضللة تحرق الدم من ترجمان فرنسى قالها عن حنا يعقوب، تقع قصة دروز بلغراد، أو بالأحرى حكاية حنا يعقوب «الغلبان».
ذات صباح، يذهب بائع البيض المسلوق حنا يعقوب، بإرادته إلى باب المرفأ، فيتم ضمه إلى مئات الدروز، سدا لنقص، بعد إفراج إسماعيل باشا عن سليمان عز الدين مقابل جرتين من الذهب، ثم تتحول صرخته «أنا حنا يعقوب، مسيحى من بيروت، بيتى على حائط كنيسة مار إلياس الكاثوليك»، إلى ترجمة فرنسية ممتازة من الترجمان التركى للقنصل: «يقول أنا قتلت حنا يعقوب، مسيحى من بيروت، بيته على حائط كنيسة مار إلياس الكاثوليك».. وهكذا قضى حنا يعقوب 12 سنة فى السجن، فصار اسمه سليمان عز الدين غفار، وصار «قانونيا» شقيق الإخوة الثلاثة، الذين كرهوه أولا ثم أحبوه.
وهكذا، تحت وطأة التهديد والقهر.. تحت الحكم العثمانى، يكون على حنا يعقوب «المسيحى» أن يبدأ مع بقية المعتقلين الدروز المسلمين المتهمين بقتل المسيحيين، المسير فى درب جلجلة طيلة 12 سنة، فيموتون من الجوع والعطش والظلم. الغريب أنهم يفعلون ذلك دون تذمر أو شكوى، وكأنهم تماهوا مع وقائع الظلم والاستبداد، وفى الوقت نفسه نجدهم على النقيض لديهم أخلاق محبة وغفران وسلام نفس، مثل معظم أخلاق العبيد.
ولتجاوز القلق من تشابه أحداث روايته مع أحداث تاريخية حقيقية، قال جابر مصدرا روايته بعبارة مكررة: «هذه الرواية من نسج الخيال، وأى شبه بين أحداثها وأشخاصها وأماكنها مع أشخاص حقيقيين وأحداث وأماكن حقيقية هو محض مصادفة ومجرد عن أى قصد».
بعض النقاد، يرفضون، بفذلكة، وصفها بأنها رواية تاريخية بل يفضلون القول إنها رواية الذاكرة ومدونة شفهية للحياة التى نعيشها. ولتكن ما تكون، رواية تاريخية أو رواية ذاكرة، المهم أنها حكاية جميلة مملوءة عذابا، تحبس الأنفاس عبر 98 قصة، لكل منها عنوان يحمل اسم مكان أو زمان أو شخصية، يعود فى آخرها حنا يعقوب من الهرسك إلى بلاده مع قافلة للحجاج، متجهة إلى مكة، يصلى صلاة المسلمين، واصلا حلب ثم دمشق. ومن دمشق يعود إلى بيروت، ويرى هيلانة، زوجته، تجلس على عتبة البيت صبية وجميلة كما تركها. يشعر بالرعب إذ يظن أنه يحلم، وأنه لا يزال فى القبو، ثم ينهار بالبكاء عندما يدرك أن الصبية اليافعة التى يراها على عتبة الباب هى بربارة ابنته، ثم نهدأ نحن القراء، مع البطل الذى.. «حضن زوجته وابنته وبكى. شهق وملأ رئتيه بالهواء».