جامعة الإسكندرية تعلن أسماء الكليات الفائزة بجوائز مهرجان الفنون المسرحية    أسعار العملات أمام الجنيه المصرى اليوم الخميس.. الريال السعودى ب12.46 جنيه    رئيس مياه سوهاج يتفقد مشروعات الصرف الصحى بمركز طما بقيمة 188 مليون    ارتفاع جماعى لمؤشرات البورصة بمستهل تعاملات جلسة نهاية الأسبوع    مصر مع فلسطين والسلام فى مواجهة جرائم نتنياهو وأكاذيب CNN    كولومبيا تعلن إقامة سفارتها فى الأراضى الفلسطينية برام الله    تشابي ألونسو: لم نكن في يومنا ولدينا فرصة للفوز بكأس ألمانيا    وسائل إعلام إسرائيلية: العدل الدولية تستعد لإصدار أمر بوقف الحرب فى غزة    مواعيد مباريات الخميس 23 مايو 2024.. الزمالك في الدوري والجولة قبل الأخيرة بالسعودية    استمرار موجة الطقس الحار فى الدقهلية والعظمى تسجل 39 درجة    البحث عن "جنى" آخر ضحايا غرق ميكروباص أبو غالب بمنشأة القناطر    إصابة 3 مواطنين فى حادث انقلاب سيارة واحتراقها بطريق أسيوط الغربى    بدء نظر طعن المتهمين على أحكام قضية ولاية السودان بعد قليل    الرعاية الصحية تعلن نجاح اعتماد مستشفيى طابا وسانت كاترين بجنوب سيناء    وفد المركز الأوروبي للوقاية من الأمراض يجرى زيارة لمستشفى شرم الشيخ الدولى    بعد يومين من اقتحامها.. قوات الاحتلال تنسحب من جنين ومخيمها    دفن جثمان الرئيس الإيراني الراحل في مدينة مشهد اليوم    البث العبرية: 70% من الإسرائيليين يؤيدون تبكير موعد الانتخابات العامة    تداول 15 ألف طن بضائع عامة ومتنوعة في مواني البحر الأحمر    هل يرحل الشناوي؟ أحمد شوبير يوضح حقيقة تفاوض الأهلي مع حارس مرمى جديد    وزيرة التخطيط تبحث تطورات الدورة الثالثة من المبادرة الخضراء الذكية    السكة الحديد تعلن تأخيرات القطارات المتوقعة اليوم الخميس    سويلم يلتقي وزير المياه السنغالي لبحث تعزيز التعاون بين البلدين    الجريدة الرسمية تنشر قرارين جمهوريين للرئيس السيسي (تفاصيل)    رفض يغششه .. القبض على طالب بالشهادة الإعدادية لشروعه في قتل زميله    تفاصيل الحالة المرورية اليوم.. كثافات متفرقة في شوارع القاهرة والجيزة    "سكران طينة".. فيديو صادم ل أحمد الفيشاوي يثير الجدل    نوادي المسرح معمل التأسيس، في العدد الجديد من «مسرحنا»    أول تعليق من دانا حمدان على حادث شقيقتها مي سليم.. ماذا قالت؟    إيرادات فيلم «تاني تاني» لغادة عبد الرازق تحقق 54 ألف جنيه في يوم    فضل الأعمال التي تعادل ثواب الحج والعمرة في الإسلام    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 23-5-2024    وزير المالية: الدول العربية تعاني من التداعيات الاقتصادية للتوترات الدولية    موسم الحج.. إجراءات عاجلة من السعودية بشأن تأشيرات الزيارة بداية من اليوم    "علق نفسه في سقف الأوضة".. نزيل بفندق شعبي ينهي حياته في الأقصر    طلاب الشهادة الإعدادية بكفر الشيخ يؤدون آخر أيام الامتحانات اليوم    "محاط بالحمقى".. رسالة غامضة من محمد صلاح تثير الجدل    اللعب للزمالك.. تريزيجيه يحسم الجدل: لن ألعب في مصر إلا للأهلي (فيديو)    رحيل نجم الزمالك عن الفريق: يتقاضى 900 ألف دولار سنويا    نشرة «المصري اليوم» الصباحية..قلق في الأهلي بسبب إصابة نجم الفريق قبل مواجهة الترجي.. سعر الدولار أمام الجنيه المصري اليوم قبل ساعات من اجتماع البنك المركزي.. الأرصاد تحذر من طقس اليوم الخميس 23 مايو 2024    أول دولة أوروبية تعلن استعدادها لاعتقال نتنياهو.. ما هي؟    سر اللعنة في المقبرة.. أبرز أحداث الحلقة الأخيرة من مسلسل "البيت بيتي 2"    هل يجوز للرجل أداء الحج عن أخته المريضة؟.. «الإفتاء» تجيب    أمين الفتوى: هذا ما يجب فعله يوم عيد الأضحى    رئيس الزمالك: جوميز مدرب عنيد لا يسمع لأحد    تسجيل ثاني حالة إصابة بأنفلونزا الطيور بين البشر في الولايات المتحدة    البابا تواضروس يستقبل مسؤول دائرة بالڤاتيكان    ماهي مناسك الحج في يوم النحر؟    وزير الرياضة: نتمنى بطولة السوبر الأفريقي بين قطبي الكرة المصرية    محمد الغباري: مصر فرضت إرادتها على إسرائيل في حرب أكتوبر    محلل سياسي فلسطيني: إسرائيل لن تفلح في إضعاف الدور المصري بحملاتها    ماذا حدث؟.. شوبير يشن هجومًا حادًا على اتحاد الكرة لهذا السبب    بقانون يخصخص مستشفيات ويتجاهل الكادر .. مراقبون: الانقلاب يتجه لتصفية القطاع الصحي الحكومي    حظك اليوم وتوقعات برجك 23 مايو 2024.. تحذيرات ل «الثور والجدي»    حظك اليوم| برج الحمل الخميس 23 مايو.. «طاقة كبيرة وحيوية تتمتع بها»    احذر التعرض للحرارة الشديدة ليلا.. تهدد صحة قلبك    البطريرك مار إغناطيوس يوسف الثالث يونان يلتقي الكهنة والراهبات من الكنيسة السريانية    إبراهيم عيسى يعلق على صورة زوجة محمد صلاح: "عامل نفق في عقل التيار الإسلامي"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الصيد بالبومة
نشر في الشروق الجديد يوم 12 - 04 - 2012

لا أذكر الزمان، لكننى أتذكر المناسبة والمكان: مدرج كبير بكلية حقوق المنصورة ينعقد فيه مؤتمر طلابى سياسى توافدنا إليه من مختلف كليات الجامعة، وكانت الحركة الوطنية الديمقراطية للطلاب قد بدأت تتشقق وحدتها التى كانت مجتمعة على أهداف ديمقراطية ووطنية لا يختلف عليها أى مصرى صادق وعادل، وتفاقم الانقسام بفعل استقطابات الجماعة الإسلامية التى استولى على قلبها عواجيز الإخوان المجبولين على المناورة والإقصاء، والحلقات اليسارية التى لعب فى رؤوسها قدامى الشيوعيين المولعين بالانشقاقات والجدل، فيما كانت تترصد الجميع عيون الأمن التى تحْمَّرُ للبعض تارة وتفْتَّرُ للبعض تارة أخرى وتمكر بالكل دائما، وتحول المدرج الممتلئ عن آخره إلى صندوق ضوضاء عارمة، تتداخل فيها هتافات الفرقاء التى غطت على أصوت المتحدثين الذين لم يُرد سماعهم أحد، فكلُ لا يسمع إلا صوت نفسه وفريقه وعصبته أو عصابته. حلَّت أنانية البحث عن القوة للتنظيم أو الحزب أو الجماعة أو المجموعة أو التجمع بمكان التطلع إلى الحق المستحق لعموم الأمة.

كنت أجلس منزويا فى المكان الذى أفضله عادة: فى نهاية المدرج حيث يكون الهواء أكثر تجددا عبر النوافذ المفتوحة وحيث يكون باب الخروج الخلفى متاحا للخروج إذا سئمت من الأمر كله، وكثيرا ما كنت أسأم. وفجأة دخل إلى المكان طائر كبير راحت تطارده الأيادى وهو يترنح فى طيران مضطرب خفيض، ولا أعرف كيف صار الطائر بين يدى للحظات، فاكتشفت أنه بومة ملفتة الشكل، ولولا ما يحيط بانطباعاتنا عن البوم، لقلت إنها كانت بالغة الجمال، بريشها الناعم الوثير، بلون الشاى بالحليب المنقط فى صفوف منتظمة على الظهر، واللون الأبيض السكرى الصافى على البطن وباطن الجناحين، لكن عينيها المدورتين المتباعدتين الثابتتين فى محجريهما بمقدمة وجهها المفلطح، وبتلك الحلقة الصفراء البرتقالية النارية حول البؤبؤ الأسود الدقيق، والجفن الذى يمسح العين بشكل قُطرى مائل، كانتا باعثتين على الوجل، أما المنقار الصغير المعقوف ثاقب الطرف فى وسط دائرة الوجه فكان يوحى بأنف مرابٍ لئيم أو ساحر شرير. وإننى أستغرب الآن كيف لم تجرح يدى مخالب أقدامها الحادة كالأمواس، والتى تتفرد بها أقدام البوم عن أقدام معظم الطيور، فبها أربعة أصابع مُشرعة المخالب، اثنان متجهان إلى الأمام ومثلهما إلى الخلف، كماشة خطف مثالية، قيل أنها تلتقط فريستها بإحكام فى جزء من الثانية.

البومة، وهى تقال للمذكر والمؤنث، التى شغلتنى يومها عن كل ما كان يدور فى المكان، وضح أنها كانت ضائعة ومذعورة كثيرا ومريضة على الأرجح، ولاحظت قبل أن يتم إفلاتها من أقرب نافذة أن ذلك المكان فى آخر المدرج الذى كانت الأيادى تتبادلها فيه، قد تحول إلى فضاء مكثف عجيب تطن فيه وترفرف حول البومة جوقة من عشرات العصافير المهتاجة، وسرعان ما لحقت هذه الجوقة بالبومة التى طارت واختفت عن الأنظار. وكان لابد أن تمر أعوام وأعوام حتى أعرف أن ذلك المشهد لم يكن إلا ظاهرة مدهشة لم يقطع العلم فيها بتفسير واضح يتجاوز تفسير الأقدمين وتُسمى» التجمهر الغوغائى « MOBBING، وليس «التجمهر القاتل» كما يترجمها البعض، وإن كان مآل ذلك التجمهر يمكن أن يبرر هذه الترجمة.

الفيلسوف اليونانى أرسطو فى كتابه «تاريخ الحيوان» الصادر عام 350 قبل الميلاد كتب عن هذه الظاهرة، يقول: «فى وضح النهار ترفرف كل الطيور حول البومة فى ممارسة شاع تسميتها ب«الإعجاب بالبومة»، فتنقره وتنتف ريشه، ونتيجة لهذه العادة عمد صيادو الطيور إلى استخدام البومة طُعما للإمساك بالطيور الصغيرة من جميع الأنواع»! وبالطبع لم يكن فى الظاهرة أى إعجاب بالبومة من الطيور المتجمهرة حولها تنقر وتنتف، فهذه علامات كراهية أكيدة وثأر مُبيَّت، لكن أرسطو لم يكن يستطيع تسمية الظاهرة إلا بما ذكره لأن البومة كانت فى زمنه رمزا إغريقيا جليلا للحكمة الأثينية! ومما يؤكد انطواء المشهد العجيب على الكراهية وطلب الثأر، أن البومة عندما تُحدق بها الطيور الصغيرة من كل الجوانب، فإنها تعمد إلى الاستلقاء على ظهرها، متجمعة على نفسها ومنضغطة فى نطاق شديد الضيق، حتى لا يظهر منها إلا منقارها الحاد ومخالبها الشارِطة التى تؤمِّن تغطية كاملة للجسد المنضغط.

فى كتاب «البومة» لديزموند موريس، من سلسلة الكتب العالمية الممتازة عن «التاريخ الطبيعى والثقافى للحيوانات» التى تصدرها منشورات «كلمة» التابعة لهيئة أبوظبى للثقافة والتراث، والتى كانت أهم وأثمن ما عدت به من معرضها الدولى للكتاب منذ عشرة أيام، قرأت أن تجارب ميدانية باستخدام بوم محنط محشو بالقش ودمى خشبية، أثبتت أن الصفات المهمة التى تجعل من البومة بومة هى: الرأس الكبير، والذيل القصير، والريش المُرسَّم بالبقع أو الخطوط، والمنقار والعينان الموجهتان للأمام، وكلما امتلكت الدمية هذه الصفات حدث حولها احتشاد الطيور الصغيرة، كما أن صوت النعيب المميز الذى يطلقه البومة يكفى بمفرده لجذب الطيور الاحتشادية، وهذه الحقيقة عرفها صيادو الطيور فى «ترينداد» منذ أمد بعيد فاستثمروها كطُعم لصيد الطيور الطنانة التى يُستخدم ريشها الألَّاق بديع الألوان فى صنع حِليات الأزياء الثمينة لمخابيل الأثرياء والأباطرة، فطيور الطنان هى أكثر الطيور عدائية للبومة وأكثرها مجازفة فى الاقتراب منها ومحاولة نقر عينيها، ومن ثم يسهل وقوعها فى فخاخ الصيادين.

كان ذلك وصفا لآلية حدوث ظاهرة «التجمهر الغوغائى»، لكن الدافع العميق لدى هذه الطيور لذلك الاحتشاد الذى تكاد فيه الطيور المتجمهرة حول البومة أن تكون فى حالة غليان أو حتى جنون، لدرجة أنها تظل فى هياجها لكثير من الوقت حتى بعد ابتعاد البومة، بل إنها تتجمع وتهتاج على تجمع واهتياج الطيور التى سبقتها دون أن ترى البومة، فهو مما لم أصل إلى سبر أغواره فيما قرأت حديثا، ويجعلنى أعود لكتاب «حياة الحيوان الكبرى» للشيخ كمال الدين الدميرى فأرى أن تفسيره لدوافع هذه الظاهرة هو الأقرب إلى الإقناع، فهو يقول عن البومة: «ومن طبعها أن تدخل على كل طائر فى وكره وتخرجه منه وتأكل فراخه وبيضه وهى قوية السلطان بالليل فإذا رأتها الطيور بالنهار قتلنها ونتفن ريشها للعداوة التى بينهن وبينها ومن أجل ذلك صار الصيادون يجعلونها تحت شباكهم ليقع لهم الطير فيها».

المسألة إذن ثأر تاريخى بين طيور النهار التى ورثت الخوف من طائر الظلمة الذى يغدر بها وهى نائمة فى الليل، أى فى أضعف حالاتها، وهى ما أن تبصر عدوها الليلى ذاك فى النهار، حيث يكون بدوره فى أضعف حالاته، حتى تغلى فى أجسامها الصغيرة غضبة الانتقام، فتحتشد محاولة قتل البومة أو على الأقل إهانتها. وهذا يشبه السلوك البشرى عندما يسقط الجلادون ضِعافا بين أيادى الضحايا الغاضبين بعد طول عذاب. لكن كثيرا ما يتحول صاحب الثأر فى هذا الاحتشاد العجيب إلى ضحية إضافية ومجانية إن لم يتريث فى اندفاعه ويَحْذَر، فالبومة المنقلبة على ظهرها مُشرِعة منقارها الثاقب وشفرات مخالبها الحامية تستطيع بضربة واحدة أن تذبح، أو على الأقل تشرط، طائرا يجازف بالاقتراب منها أكثر مما ينبغى.

لماذا أكتب ذلك فى هذه اللحظة؟ بصراحة لا أعرف. ولا أستطيع هذه المرة أن أُسقط مكونات هذه الظاهرة على مفردات ما نحن فيه، لتزاحم وتشابك وفوضى ما نحن فيه. لكننى أحسست بدافعٍ قوى وغامض لكتابة هذه اللمحة الآن، فثمة تجمهرات غوغائية قاتلة تتكون، وثارات حقيقية ووهمية دافعة لعداء مجنون تطفو على السطح، وطُعم مبثوث وفخاخ مموهة فى كل الدروب، فيما الصيدُ غِر على الأغلب والصيادون خُبثاء على الدوام. لكن من يمثل ماذا؟ أمانة لست مستطيعا التحديد. وأكتفى ذاتيا من الحكى بلذة الاندهاش، وأقنع من ثم بإثارة الدهشة، فلنندهش لعلنا ننتعش، ولننتعش لعلنا ننتبه، فاللحظة التى نقف عندها فارقة، فبرغم كل ما يموج فيها من كذب وهوج ولؤم واستنفار وغموض والتفاف وتعصب، إلا أنها لا تدعو للإحباط أبدا، لأن أعظم ما فيها هو هذا الانكشاف السافر لجميع الأطراف المخاتلة تقريبا، وفى وقت يُعتبر قصيرا جدا فى عمر الشعوب، مما يجعلنى أردد بيقين أن مصر محروسة حقا، وأن من أراد بها سوءا كبه الله على وجهه، وبأسرع وأبشع مما يحسب.

سأعتبر تعليقات القراء هذه المرة، فى إطار الإجابة عن سؤال «من يمثل ماذا» فيما ذكرت، استكمالا للمقال، ونوعا من الكتابة الجماعية، ولعلنى أتبع ذلك النهج فى المرات القادمة، تاركا للعقل الجمعى أن يحل ألغاز التداعى فى عقل الكاتب الفرد، والذى تكون كتابته نوعا من الحدس الذى لا يدرك هو نفسه أبعاده فى كثير من الأحيان. خاصة فى مناخات الاضطراب والكذب الشائع والحيرة. نجاكم الله ونجانا من كل اضطراب وكذب وحيرة. وحمى مصر من بعض أبنائها كما أعدائها. آمين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.