عاشت مصر فى السنوات الأولى من القرن التاسع عشر لحظات تحول شكلت مسار التاريخ المصرى الحديث، لقد كانت مصر فى تلك السنوات مسرحا لصراع بين ثلاث قوى تسعى كل منها إلى فرض سيطرتها على البلاد والانفراد بحكمها؛ الأتراك العثمانيون، وأمراء المماليك الجراكسة والإنجليز. لكن غاب عن هذه القوى المتصارعة أن هناك عنصرا جديدا ظهر على الساحة مجددا هو الشعب المصرى، بدأت قوته فى الظهور من جديد فى السنوات السابقة على مقدم الحملة الفرنسية من خلال حركات الاحتجاج المتكررة ضد طغيان المماليك وأعوانهم، وكانت أهم تلك الحركات ثورة يوليو 1795 التى قادها مشايخ الأزهر، ونجحت فى إرغام إبراهيم بك ومراد بك، قائدى المماليك على توقيع وثيقة التزما فيها بعدم فرض ضرائب جديدة على الناس، وخلال سنوات الحملة الفرنسية على مصر انخرط المصريون فى النضال من أجل تحرير بلادهم، فثارت القاهرة ثورتين كبيرتين، وحمل المصريون فى الدلتا والصعيد السلاح فى وجه قوات الحملة الفرنسية، واستمرت مقاومتهم لها إلى أن رحلت.
وخلال حركة المقاومة تبلورت قيادة شعبية جديدة من بعض مشايخ الأزهر وكبار التجار وشيوخ الطوائف الحرفية، وانضم إلى هذه القيادة السيد عمر مكرم نقيب الأشراف بمصر والذى كانت له مكانة كبيرة لدى المصريين.
منذ رحلت الحملة الفرنسية عن مصر فى سبتمبر من سنة 1801 لم يعد الاستقرار إلى البلاد مرة أخرى، ولم يتمكن العثمانيون من استعادة سطوتهم الكاملة على مصر، ففى أربع سنوات تولى باشاوية مصر من قبل السلطان العثمانى خمسة باشاوات انتهى حكمهم معزولين أو مقتولين، كان أولهم خسرو باشا وخامسهم خورشيد باشا. خلال تلك السنوات الأربع أخذت أحوال البلاد تسير من سيئ إلى أسوأ وازدادت معاناة المصريين بسبب مظالم المماليك والأتراك وتدخل القوى الأوروبية فى شئون البلاد، فارتفعت الأسعار واختفت السلع من الأسواق وزادت الضرائب، وغاب الأمن ففاض الكيل بالمصريين، خصوصا بعد أن اعتمد الباشا العثمانى الذى كان يحكم مصر باسم السلطان على فرقة الجنود الدلاة المعروفين بقسوتهم وشراستهم فى قمع حركات التمرد والاحتجاج بدلا من أن يسعى لحل مشاكل الناس. وفى يوم الأربعاء أول مايو سنة 1805 بدأت الأحداث تتصاعد عندما اعتدى الدلاة على أهالى مصر القديمة التى كانت معقلا من معاقل التمرد على الباشا العثمانى، وأخرجوهم من بيوتهم ونهبوا مساكنهم وقتلوا البعض منهم، فكانت هذه شرارة الثورة التى أطاحت بالباشا العثمانى، وفرضت إرادة المصريين على السلطان، فخرج سكان القاهرة وضواحيها إلى الشوارع فى تحدٍ واضح للجيش العثمانى، مطالبين بإخلاء المدينة من الجند الدلاة ومحاسبة قادتهم على ما ارتكبوه من مذابح، وأعطى زعماء الشعب مهلة للباشا العثمانى تنتهى يوم السبت 11 مايو لتنفيذ مطالبهم، لكنه لم يصدق أن الإنذار حقيقى واغتر بقوته العسكرية ولم يستجب لهم.
وفى اليوم التالى لانتهاء المهلة ركب المشايخ إلى بيت القاضى، واجتمع به الكثير من المتعممين والعامة والأطفال، حتى امتلأ المكان بالناس، وتعالت الهتافات «يا رب يا متجلى أهلك العثمنلى»، وطلب المجتمعون من القاضى أن يستدعى رجال الدولة لتقديم عرضحال لهم بطلبات الشعب لتقديمه للباشا، فأخذوه ووعدوهم بالرد فى اليوم التالى.
وحاول الباشا العثمانى المماطلة فأرسل إلى القاضى والعلماء يطلب حضورهم للقلعة للتشاور معهم فى أحوال البلاد، وأحس زعماء الشعب بسوء النية، وبدلا عن الصعود للقلعة يوم الاثنين، اتخذوا خطوة غير مسبوقة فى تاريخ مصر، فتوجهوا وحولهم جموع المتظاهرين إلى محمد على، وعرضوا عليه حكم مصر بشروطهم، فتمنع فى البداية لكنه قبل فى آخر الأمر، فنصبه السيد عمر مكرم والشيخ عبدالله الشرقاوى حاكما لمصر ضاربين عرض الحائط بالسلطان العثمانى وبنائبه فى القلعة وبقوته التى كانت تحتل مصر، وكان ذلك عصر يوم الاثنين 13 مايو 1805، وأعلن الخبر فى القاهرة وفى أنحاء البلاد فى الليلة نفسها.
إن ما حدث كان تحولا مهما فى التاريخ المصرى، تحولا توج مرحلة من النضال الشعبى امتدت لأكثر من عشر سنوات، حاول خلالها المصريون أن يستعيدوا أمر بلادهم بأيديهم، ففى ذلك اليوم نجح المصريون لأول مرة فى خلع الحاكم واختيار بديل له يتولى شئونهم، كما نجحوا فى وضع الشروط التى يولونه الحكم على أساسها، وقد رأى المصريون فى ذلك الحين أن محمد على هو الشخصية التى تصلح لتولى الأمر، بعد أن ظل طوال أربع سنوات يتقرب منهم ويتودد إليهم، لكن الأمور سارت فى مسار آخر، فتخلص محمد على من قادة الشعب الذين نصبوه حاكما بالقتل أو النفى أو شراء الذمة، وأسس نمطا جديدا من الاستبداد.