توفى داج همرشولد، ثانى سكرتير عام للأمم المتحدة قبل خمسين عاما، فى مثل نهاية هذا الأسبوع. وكان فى مهمة بالكونجو عندما تحطمت طائرته وهى فى طريقها للهبوط فى ندولا، شمال روديسيا حينها وزامبيا الآن. وتمكن همرشولد خلال السنوات الثمانى التى تولى فيها المنصب بالأممالمتحدة، من إدخال الحيوية على المنظمة العالمية، وترسيخ دور سكرتيرها العام كدور أساسى فى الشئون العالمية. ولم يأت بعد همرشولد من له مثل قيادته الحاسمة على المستوى الدولى. إذ طور دور السكرتير العام فى اللحظات التاريخية المتسمة بالخطر بشكل خاص، فصارت عبارة «دعها لداج» شعارا مثلا، حتى حينما كان يدير مخاطر تصاعد المدافعين المتحفزين عن السيادة الوطنية غير المحدودة. وأصبح تقييم أعمال الرجال الذين خلفوه (متى يحين أخيرا وقت ترشيح امرأة؟) يتم بالمقارنة بهمرشولد، ويشار له كنموذج لما يقدمون من جهود.
عندما وصل همرشولد إلى الأممالمتحدة فى أبريل من عام 1953، كان لدى غالبية أعضاء مجلس الأمن انطباع بأنهم صوتوا لمصلحة سويدى ضليع فى الخدمة المدنية لن يدع السفينة تصطدم بالصخر، أو لكونه حيويا بشكل خاص أو مستقل. وكانت السنوات الثمانى التالية مفاجأة تماما.
وبحلول عام 1953، شلت الحرب الباردة مجلس الأمن. وكانت النزاعات الإقليمية بمثابة شررات ملتهبة كامنة قد تشعل مواجهة نووية بين الشرق والغرب، وصار همرشولد وسيطا مقبولا؛ وتمثل نجاحه الأول فى التفاوض على إطلاق سراح الطيارين الأمريكيين الذين هبطوا فى جمهورية الصين الشعبية أثناء الحرب الكورية، وسجنوا باعتبارهم جواسيس.
وأصبحت بعض الدول القوية، بما فيها الولاياتالمتحدة، تنظر إلى همرشولد كزعيم مشهود له، حتى وإن لم تتفق معه فى بعض الأحيان. ولكن نيكيتا خروشوف زعيم الاتحاد السوفييتى، وشارل ديجول زعيم فرنسا، لم يرياه من هذا المنظور. ففى مشهد شهير فى الجمعية العامة، طالب خروشوف باستقالته. ورفض همرشولد واستقبل ذلك بحفاوة بالغة.
ومن بين جميع الأشخاص الذين عرفتهم، كان هامرشولد حتى الآن الأنجح فى تنظيم حياته العامة، واهتماماته الثقافية والروحية والجمالية واسعة النطاق فى نموذج متكامل ومكتف بذاته. وكانت الأدبيات المكتوبة بثلاث أو أربع لغات والموسيقى والفنون البصرية والطبيعة، أحب أصدقائه، وظهر فى مذكراته التى نشرت بعد وفاته «علامات» تدل على أنه كان يكوِّن نسخة خاصة به من التصوف. وقد قالت صديقته النحاتة باربارا هيبورث: «داج همرشولد لديه تصور نقى ودقيق حول المبادئ الجمالية، والشىء نفسه تماما بالنسبة للمبادئ الأخلاقية والمعنوية. وأظن أنها كانت بالنسبة له شيئا واحدا متطابقا». لكن قدما هامرشولد كانتا راسختين على الأرض. إذ قال للمستمعين إليه فى عام 1954: «لم تؤسس الأممالمتحدة لكى تعيدنا إلى الجنة، بل لتنقذنا من النار».
ولم يكن لدى همرشولد سوى قليل من الزخارف التقليدية التى تحيط بزعيم. وبالنسبة للسكرتارية، كانت سلطته مطلقة لأننا احترمنا المجهود الفكرى والمعنوى، والعدالة التى تتخلل قراراته، والأسلوب الهادئ الخالى من أى ادعاء الذى كانت تنقل لنا من خلاله. وهناك صورة له، وهو يستقبل أول وحدة من أول قوات للأمم المتحدة لحفظ السلام عند وصولها إلى أبوصوير على قناة السويس عام 1956. وكانت شخصيته المتواضعة المتفردة المسالمة مهيمنة على المشهد، بما لا يدع مجالا للشك حول هوية المسئول. وعلى ما اعتقد، كانت هناك أكثر من لمسة عبقرية فى أداء همرشولد الحماسى والخلاق. وقد جعل كل ذلك منه شخصا لا ينسى.
لم تعد هناك الآن حرب عالمية، ولا الاتحاد السوفيتى، ولا «توازن القوى المدمرة»، وذهب معهم، كما نأمل، التهديد المتواصل بالحرب النووية. ولكن الجمع المرتقب بين الأسلحة غير التقليدية والإرهاب، والتغيير المناخى، والتردى البيئى، والعجز فى الموارد الأساسية على مستوى العالم، والانهيار المحتمل للنظام الاقتصادى، يعبر عن مخاطر غير محدودة، إلا إذا قررت حكومات العالم التعامل معها بجدية، على نحو مشترك. ومن شأن مقدرة همرشولد على تركيز الانتباه الدولى على الأسئلة الجوهرية أن تجد فرصتها كاملة فى هذا الزمن شديد الاضطراب.
يصعب استعادة الإثارة والخطر والأمل الخاص بفترة همرشولد فى الأممالمتحدة، ويستحيل تكرارها مرة أخرى. إذ تصل الحكومات إلى اتفاق داخل المنظمة وخارجها إلى حد أكبر من ذى قبل. كما يستكشف مجلس الأمن أرضا جديدة فى ظل منظور «المسئولية عن الحماية». وهناك افتقاد واضح للقيادة الدولية والمستقلة التى كانت سمة مميزة لهمرشولد.
فما نوع الشخص الذى تحتاح إليه الحكومات كسكرتير عام للأمم المتحدة؟ مع كل التحيات التى انهمرت فى هذه الذكرى، لا يوجد ما يدل على أن أعضاء مجلس الأمن حاولوا فى يوم من الأيام العثور على همرشولد آخر. فهل يمكن أن يكون الأمر هو أن قيادة ديناميكية استمرت لمدة ثمانى سنوات منذ نصف قرن مضى، كانت كافية بالنسبة لهم؟
أوصى مجلس الأمن، ووافقت الجمعية العامة، على فترة ثانية مدتها خمسة أعوام للسكرتير العام بان كى مون. لكن لابد أن تبدأ فى القريب العاجل عملية إيجاد سلف له، باستخدام أسلوب بحث خلاق واسع النطاق. فى وقت تنذر فيه المشكلات العالمية بالسوء، يمكن أن يوفر نموذجا مثل داج همرشولد يكون مرشدا مهما فى البحث.