ربما قد يصيب الرئيس أوباما بعض أقسام النخبة السياسية والمثقفة فى مصر بإحباط، بعد الاستماع إلى خطابه الموجه للعالم الإسلامى من القاهرة، الذى ليس من المتوقع أن ترتفع فيه نغمة النقد للحكام المستبدين بأكثر من عبارات إنشائية عامة. لقد بدأ البعض بالفعل، من الأمريكيين فى واشنطن، ومن المصريين فى القاهرةوواشنطن يعبر عن قلقه من هذا التوجه، الذى اعتبره البعض هنا أو هناك تخليا عن القيم الأمريكية، وازدواجية فى التعامل مع قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، فى داخل أمريكا (بإغلاق جوانتانامو وإدانة التعذيب و...)، بينما يكتفى بفضيلة الصمت عن الأكثر بشاعة الذى يحدث فى الدول الحليفة فى العالمين العربى والإسلامى. بالتوازى مع هذا القلق، قام بعض الحكام العرب وإعلامييهم بتهنئة أنفسهم على الإنجاز الذى حققوه كما لو كانوا قد شاركوا فى انتخاب أوباما ووضع برنامج حملته الانتخابية أى على أن السجل الأسود فى تزوير الانتخابات العامة واستباحة أرواح وعقول وأجساد البشر، لن يجرى انتقاده علنا من قبل الإدارة الأمريكيةالجديدة! بالطبع ليس أوباما مصلحا أخلاقيا، فمسئولياته بالأساس هى العمل على تحقيق المصالح العليا لدولته، ولكن عدم تناول إدارة أوباما بالنقد العلنى لهذه القضايا لا يعنى بالضرورة أنه تخلى عنها. هذا الاستنتاج وغيره هو حصيلة حوارات جرت خلال زيارتين لى للولايات المتحدة، الأولى بعد أقل من عشرة أيام من تولى أوباما الحكم، والثانية كانت للمساهمة فى تقييم أداء هذه الإدارة من منظور حقوق الإنسان بعد مائة يوم. خلال هاتين الزيارتين أتيح لى الاجتماع مع مسئولين فى الخارجية والكونجرس والبيت الأبيض، ومراكز البحوث ومنظمات حقوق الإنسان. ويمكن إيجاز مستخلصات هذه الحوارات على النحو التالى: منذ فوز أوباما بمقعد الرئاسة، جرى «الإفراج الصحى» عن أيمن نور، الذى برهن بنشاطه الميدانى السياسى والإعلامى داخل مصر وخارجها على أنه يتمتع بلياقة صحية تفوق كل قيادات المعارضة والحكم مجتمعين! كما تم إلغاء الحكم القضائى بحبس سعدالدين إبراهيم لأسباب كانت توجب عدم السماح من الأصل بتحريك الدعوى القضائية! واضطر رئيس البرلمان أن «يأرشف» قراره بإقامة محاكمة برلمانية لسعدالدين إبراهيم، دون أن يقدم سببا لذلك. من حق البعض أن يفسر ذلك باستقلال القضاء والبرلمان، ولكن قد يقول البعض الآخر إنها سياسة الإدارة الأمريكيةالجديدة، القائمة على ما يسمى «بالدبلوماسية الفعالة»، وذلك باستخدام أدوات القوة الناعمة، للتدخل المحسوب من خلف الكواليس، فى قضايا مختارة. إن مصادر القوة الناعمة للإدارة الجديدة فيما يتعلق بالعالم العربى متعددة، منها: شعبية عالمية طاغية لرئيس أسود من عائلة مسلمة، بل إنه يمكن القول بمقتضى عدد من استطلاعات الرأى، أن أوباما يتمتع فى العالم العربى بقبول سياسى لا يتمتع به بعض ملوك ورؤساء الدول العربية «المنتخبين» وغير المنتخبين. إنه يتخذ مواقف نقيض مواقف سلفه الرئيس بوش، فهو ينسحب من العراق التى غزاها الأخير، ويغلق جوانتنامو التى فتحها بوش، ويدين ممارسات التعذيب ويعتزم المحاسبة عليها وينزع عنها المشروعية القانونية والسياسية والأمنية التى أضفتها عليها إدارة بوش. كما يبدو فى نظر الكثيرين جادا فى اعتزامه التوصل لحل «عادل» للمسألة الفلسطينية. إنه لا يتعامل مع المواجهة مع الإرهاب باعتبارها حربا كونية ثالثة، بل باعتبارها خطرا يجب التصدى له دون تهويل، ودون حصره بالمسلمين. لكل هذه الأسباب صار تقرب بعض الملوك والرؤساء العرب إليه، مصدرا للبحث عن تعزيز مشروعيتهم السياسية المتآكلة. دبلوماسية مصرية أيضا. الدبلوماسية الفعالة لا تمارسها واشنطن فحسب، بل القاهرة أيضا. التى أدركت أنها لا تستطيع أن تعتمد فقط على ما تقدمه وتعرضه من خدمات أمنية وإستراتيجية، وبدأت تشكل أذرع (لوبى) داخل الإدارة الأمريكية. هذا اللوبى الناشئ أثبت وفقا للمصادر الأمريكية ذاتها كفاءة غير متوقعة، وبراجماتية فى إدارة العلاقة حتى مع اللوبى الإسرائيلى القوى، انطلاقا من المصلحة الإستراتيجية المشتركة، المتمثلة فى أن إضعاف النظام المصرى الحالى لن يصب إلا فى صالح أعداء إسرائيل فى داخل مصر. وبفضل جهود هذا اللوبى الأمريكى المصرى تمكنت القاهرة من خفض دعم أمريكا لحقوق الإنسان من 50 إلى 20 مليون دولار (معظمها يذهب إلى الحكومة ومجلسها القومى لحقوق الإنسان) ومن انتزاع حق الفيتو على الدعم المادى لأى منظمة حقوقية. ويعزى أيضا لهذا اللوبى قدرته أيضا فى التأثير على القرار المصرى بما يصب فى النهاية لصالح الحكومة المصرية. فقد ألح اللوبى على ضرورة الإفراج عن أيمن نور، وإنهاء المشاكل مع سعدالدين إبراهيم، والتدقيق فى اختيار بعثات طرق الأبواب الحكومية إلى واشنطن؛ بحيث تتكون من أشخاص منفتحين سياسيا، بل وحتى معارضين من لون خاص. وهو ما حدث بالفعل بضم سكرتير عام حزب الوفد إليها. إدارة أوباما تتصرف على هذا النحو انطلاقا من حاجتها لدعم مصر وبعض النظم العربية لها فى العراق، ومع إيران وحزب الله وحماس. غير أنه لا يجب المبالغة فى هذا التحليل، الذى كان صحيحا تماما فى ظل إدارة بوش، نظرا للحاجة وقتها للحد من النفوذ الإيرانى المتزايد فى العراق، وجذب السنة العراقيين للعملية السياسية. ولكن الحكومات العربية تمنعت، برغم أن ذلك أضر بمصالحها هى أيضا على المدى الأبعد. ثم انقلبت الآية الآن، فالحكومات العربية هى التى تحذر الآن من خطر النفوذ الإقليمى الإيرانى، وتنزعج من تنازلات الدبلوماسية الناعمة لإدارة أوباما مع طهران! والحكومات العربية هى التى تخشى من انسحاب أمريكى متسارع فى العراق، يكون على حساب المستقبل السياسى للسنة، ولصالح مزيد من النفوذ الإيرانى وتمدده من العراق إلى فلسطين عبر لبنان. هذا التحول الدراماتيكى يعنى أن واشنطن ليست هى التى تلهث خلف الخدمات الأمنية والسياسية العربية، بعد أن صار التصدى لإيران مصلحة عليا لبعض النظم العربية. وبالتالى محدودية القيمة التبادلية لهذه الخدمات فى مقابل مطلب الصمت عن قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية. ديناميكيات أمريكية داخلية يلاحظ فى المقابل أن هذه الإدارة لها توجه إيجابى أصيل تجاه قضايا حقوق الإنسان داخل الولاياتالمتحدة، منذ الأيام الأولى للحملة الانتخابية لأوباما، الأمر الذى انعكس فى قراراته الفورية فى الأيام الأولى لتوليه الحكم بالتوجه نحو إغلاق جوانتانامو وتجريمه للتعذيب. هذا التوجه الحقوقى انعكس فى اختيار أوباما لعناصر رئيسية قادت حملته الانتخابية، ثم احتلت مكانها داخل مواقع الإدارة الجديدة. وهناك قائمة بترشيحات إضافية غير معلنة، لتولى مناصب حيوية، تضم عددا من الرموز البارزة فى الأوساط الحقوقية الأمريكية، وبعضهم له تجارب ميدانية داخل العالم العربى ومصر. يتوقف مستقبل العلاقة بين الطرفين على عاملين مترابطين: 1 قدرة إدارة أوباما على امتصاص الضغوط الأمريكية المتزايدة لمراكز الفكر ومنظمات حقوق الإنسان وكبريات وسائل الإعلام، والتى تلح على تبنى سياسة ديناميكية حقوقية وعلنية تجاه أبرز الأنظمة الحليفة لها فى العالم العربى. لقد كانت إدارة بوش قادرة على امتصاص هذه الضغوط فى سنواتها الثلاث الأخيرة بعد أن تراجعت عن سياستها الصدامية فى هذا المجال التى طبقتها خلال عامى 2004/2005 لأن هذه الضغوط كانت تأتى من «أعدائها» من الحقوقيين الأمريكيين الذين كالوا لها النقد فيما يتعلق بجوانتانامو وأبوغريب..... وغيرها. بالنسبة لأوباما، فإن هذه الضغوط تأتى من داخل مؤسسته. بالطبع، إن قدرة إدارة أوباما على الخروج من المأزق الأفغانى الباكستانى واحتواء النفوذ الإيرانى الصاعد، سيعاظم من تأثير هذه الضغوط الداخلية، والعكس صحيح أيضا. 2 قدرة الحكومة المصرية على إبقاء القمع المنهجى الممارس تجاه مواطنيها، تحت سقف منخفض، لا يشكل إحراجا كبيرا لإدارة أوباما، أو يساهم فى تعزيز تأثير الضغوط اليومية، التى تمارسها مؤسسات المجتمع المدنى الأمريكى. غير أن هذا فى واقع الأمر لا يتوقف على مهارة الحكومة المصرية وحدها، بل أيضا على مدى ديناميكية حركة مقاومة التسلطية. الأمر الذى قد يضطر الحكومة إلى انتهاج سياسة قمع مكشوف تحاول أن تتجنبه، وبالتالى رد فعل معاكس فى الاتجاه الآخر، لا تسعى إليه إدارة أوباما. إن ساحة التفاعلات بين الطرفين لا تقتصر بالنسبة لحقوق الإنسان على القاهرةوواشنطن، ولكنها تمتد إلى جنيف، حيث مقر مجلس الأممالمتحدة لحقوق الإنسان، الذى عادت واشنطن إلى عضويته مؤخرا، لتحمل لواء مجموعة الدول التى تتبنى قضايا حقوق الإنسان، مقابل مجموعة أخرى من الدول التسلطية لا تتبنى من قضايا حقوق الإنسان، سوى فلسطين. على رأس هذه المجموعة تقف اثنتان من أبرز حلفاء واشنطن، مصر وباكستان، إلى جانب دول مثل روسيا والصين وزيمبابوى، وغيرها تسعى إلى تقويض آليات حماية حقوق الإنسان.