كان مؤمنًا بأن مهمته تتلخص في الحرية، بل كان يعرف أنها المهمة الأشرف لكل إنسان مهما تعددت أدواته أو اختلفت أساليبه.. كما كان يعرف أن الطريق إلى الحرية محفوفة بالمخاطر، ولكنه أخذ على نفسه عهدًا أن يقطع هذه الطريق بمنتهى الجرأة والشجاعة مهما تكن الخسارات. إنه المفكر الكبير نصر حامد أبو زيد الذي تعرض للتكفير والنفي، وحكم القضاء بتفريقه عن زوجته لمجرد أنه حمل على عاتقه عبء تحرير العقل العربي والإسلامي من مخلفات الجهل والتعصب.. ولذلك تكتب "الشروق" عن أبو زيد في ذكرى وفاته، في 5 يوليو 2010، في محاولة منها أن تذكر قراءها بقيمة رموز مصر والوطن العربي.. التفكير في زمن التكفير حدث ذلك عندما تقدم أبو زيد بأبحاثه للحصول على درجة أستاذ، وقامت الجامعة بتشكيل لجنة لفحص هذه الأبحاث، فأصدر الدكتور الراحل عبد الصبور شاهين، الذي كان ضمن اللجنة، قرارا بتكفير نصر أبو زيد، وضرورة تفريقه عن زوجته، فاضطر أبو زيد إلى أن يترك مصر وجامعاتها إلى هولندا منذ 1995. يقول نصر في مذكراته: "طبعا كنت على وعي بالأزمات التي أحدثتها بعض الكتب الجسورة، مثل كتاب علي عبد الرازق "الإسلام وأصول الحكم"، وكتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي"، بل وعاصرت أزمة "خالد محمد خالد" في كتابه "من هنا نبدأ"، كما عاصرت أزمة كتاب "لويس عوض" "في فقه اللغة العربية". كلّ هذا غير توجّهاتي، فقرّرت أن أكون ناقدا أدبيا.. وما لا يعرفه الناس، أنّ مجلس قسم اللغة العربية هو الذي أعادني إلى الاتّجاه الأوّل: أعني دراسة القرآن من مدخل الأدب، حيث قرّر مجلس القسم أنّني يجب أن ألبّي حاجة القسم إلى متخصّص في الدراسات الإسلامية، وإلا عليَّ أن أبحث لنفسي عن عمل آخر، غير أن أكون معيدا. شرحت لمجلس القسم مخاوفي من الدراسات الإسلامية، فلقيت نوعين من ردّ الفعل: تطمينات بأنّ ما حدث في الماضي كان سببه خلافات شخصية بين الأساتذة. طبعا هذا كلام لا يقنع أحدا، فطرحت التساؤل: ما الذي يضمن عدم تكرار هذه الخلافات في المستقبل؟ وهنا لقيت ردّ الفعل الساخر: أتظنّ أنك ستأتي بما لم يأت به الأوائل؟ كان ردّي: أليس هذا هو ما يجب أن أفعل، أليس هذا معني البحث العلميّ!.. كان نصر يعرف حقيقة المهمة التي تنتظره، مهمة البحث العلمي، في بلد ليس فيه من يقدّر هذه المهمة ولا يقوى عليها إلا القليل.. ولذلك حينما أتى بالجديد في كتبه تعرض للتكفير من زمرة المثقفين الذين دجنهم النظام السابق، وتكالبوا عليه حتى يغادر البلاد دون أن يقلق نومهم ويلفت نظر الشعب المصري إلى قيمة الحرية والعقل. النشأة وبداية الرحلة الشاقة ولد نصر أبو زيد في العاشر من يوليو عام 1943 بإحدى قرى مدينة طنطا بمحافظة الغربية.. وكان أبوه يعده لمواصلة التعليم الأزهري، ولذلك حفظ نصر القرآن في كُتَّاب القرية، ولكن تبيّن للأب أنّ المسار طويل والرحلة شاقة بينما العمر قصير، فتحوّل نصر إلى التعليم المدني. ثم ازدادت وطأة المرض على الأب، والطفل الصغير على أبواب امتحان الإعدادية، فقرّر أن يلتحق بالتعليم الفنّي.. لهذا اكتفى في البداية بالحصول على دبلوم المدارس الثانوية الصناعية قسم اللاسلكي عام 1960م. ويبدو أن مسؤولية الابن الأكبر جعلت منه مفكرًا كبيرًا يحمل على عاتقه هم شعبه المصري وبقية الشعوب العربية ليأخذ بأيديها لتتحرر من نير الجهل.. فتصبح الأرض العربية أمه بالمعنى الأكبر ويصبح العرب أشقاءه؛ يسهر ليفكر كيف يعين الأشقاء على تجاوز محنة الوقوع في أسر الظلم والطغيان والقهر.. فبعد الحصول على الدبلوم والعمل فنيا لاسلكيا. يقول نصر: كانت القراءة متعتي الوحيدة، ونافذة التواصل مع العالم لكسر وحدة "اليُتم". ثم يستطرد: كتبت الشعر وحاولت كتابة القصة، لكنّ نهم القراءة ظلّ هو الحاكم. عاصر أبو زيد ثورة 1952، وكانت تمثّل له حلما بالنهوض، لكنّ ملابسات الصّدام الذي حدث بين قادة الثورة والقوي الوطنية المختلفة بسبب مسألة "الديمقراطية"، ألقت بظلالها على وعي أبو زيد، وأصابته -كما يقول- ب"الحزن السياسي"، وظل حزينًا سياسيًّا إلى أن أدرك هزيمة 67 فتعمق لديه حس الاغتراب، على حد تعبير أبو زيد نفسه.. المسيرة العلمية والعملية عمل نصر حامد أبو زيد بعدد من الوظائف، حيث بدأ عمله فنيا لاسلكيا بالهيئة المصرية العامة للاتصالات السلكية واللاسلكية من عام 1961 إلى 1972. وبعد حصوله على الليسانس من قسم اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب جامعة القاهرة 1972م بتقدير ممتاز، عين أبو زيد معيدا بقسم اللغة العربية عام 1972. ثم حصل على ماجستير من نفس القسم والكلية في الدراسات الإسلامية عام 1976م، بتقدير ممتاز، فعين مدرسا مساعدا بالكلية عام 1976. وحصل على منحة من مؤسسة فورد للدراسة في الجامعة الأمريكيةبالقاهرة من عام 1976 إلى عام 1977. ثم حصل على الدكتوراه من نفس القسم والكلية في الدراسات الإسلامية عام 1979م بتقدير مرتبة الشرف الأولى، ليعين مدرسا بكلية الآداب، عام 1982. ثم أستاذا مساعد بكلية الآداب، قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة القاهرة بالخرطوم خلال الفترة من 1983 إلى 1987. وبعدها أستاذا مساعدا بكلية الآداب، جامعة القاهرة 1987. وفي هذه الفترة عمل أستاذا زائرا بجامعة أوساكا للغات الأجنبية باليابان من عام 1985 إلى 1989. وأستاذا زائرا بجامعة ليدن بهولندا بدءا من أكتوبر 1995م. وغيرها من الدرجات العلمية والكراسي التي شغلها أبو زيد ليكمل مسيرته الشاقة في التفكير والتعليم من أجل صناعة نشء جديد قادر على خوض مغامرة الحرية كي يرد للعقل العربي قيمته.. إسهامات نصر أبو زيد الفكرية مما سبق يتضح أن أبو زيد اهتم بالعقل على حساب النقل.. وبالوعي على حساب الوعظ.. وبالإبداع على حساب الاتباع.. ووقف إلى جانب التخيير لا التسيير.. ووثق في قدرة العقل على الوصول إلى المعاني الخفية والمضامين البعيدة.. ورفض أن يحتكر الدين وتأويله زمرة خبيثة من المفكرين والدعاة.. ولذلك فليس غريبًا أن تحمل رسالته للماجستير عنوان "الاتجاه العقلي في التفسير (دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة)، وصدرت في كتاب عن المركز الثقافي العربي، بيروت والدار البيضاء، في عدّة طبعات، و(يلاحظ أن أيًّا من دور النشر المصرية لم تتحمس لنشر الكتاب).. ولقد جمع نصر في هذا الكتاب بين ولعه بالفلسفة والأدب من جهة، وبين احتياج قسم اللغة العربية لمتخصّص في الدراسات الإسلامية من جانب آخر. يقول: حاولت معالجة موضوع البحث بجدّية وأناة، بالإفادة من كلّ الأساتذة إلى جانب المشرف، وعدم الانغلاق في مسمّي "التخصّص". كلّ ذلك قادني إلي مسألة المنهج. وكانت رسالته للدكتوراه، في كلية الآداب جامعة القاهرة قسم اللغة العربية، بعنوان فلسفة التأويل (دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي).. بعد ذلك تعددت إسهامات نصر أبو زيد الفكرية، حيث أصدر كتاب مفهوم النص "دراسة في علوم القرآن" وبعده كتاب إشكاليات القراءة وآليات التأويل.. ثم تعددت كتبه: "نقد الخطاب الديني" و"النص السلطة والحقيقة" و"الخطاب والتأويل" و"التكفير في زمن التفكير" و"هكذا تكلم ابن عربي" و"الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية. ويخصص أبو زيد كتابا لمناقشة قضايا المرأة باعتبارها من أهم القضايا التي تساهم في تحرير العقل العربي.. وعنوان هذا الكتاب هو "دوائر الخوف" قراءة في خطاب المرأة.. ومن الطبيعي أن تثير كتابات المفكر الكبير نصر حامد أبو زيد مشكلات في الوسط الثقافي والفكري.. حيث إن مياه الفكر المصري بشكل خاص والعربي بشكل عام صارت راكدة بشكل لا يقبل الجدل.. وآراء أبو زيد كانت بمثابة الأحجار الثقيلة التي تحرك ذلك الماء الراكد وتدفع المواطن للتفكير.. لذلك اتُّهم نصر بالإلحاد والارتداد عن الدين الإسلامي في منتصف التسعينيات.. وطبق عليه مبدأ الحسبة الذي قضت المحكمة على أساسه بالتفريق بين نصر وزوجته من مبدأ أن الزوجة المسلمة لا يحق لها أن تتزوج كافرًا.. فغادر نصر حامد أبو زيد وزوجته الدكتورة ابتهال يونس، الأستاذة في الأدب الفرنسي، القاهرة منفيين إلى هولندا، ليقيما هناك، وعمل أبو زيد أستاذا للدراسات الإسلامية بجامعة لايدن. وبعد إصابة أبو زيد بفيروس فشل الأطباء في تحديد طريقة علاجه عاد إلى مصر قبل أسبوعين من وفاته، حيث دخل في غيبوبة استمرت عدة أيام حتى فارق الحياة يوم 5 يوليو 2010 في مستشفى زايد التخصصي، وتم دفنه في مقابر أسرته بمنطقة قحافة بمدينة طنطا.