ربما تتعدد وسائل الدعاية لمنهج ما، أو تختلف طرائق الهيمنة على مجموعة ما من البشر، أو ربما تسيطر على أحدهم وسائل الإرهاب الفكري لنشر معتقداته ومبادئه، لكن تبقى وسيلة "الفزَاعة" أقلها نبلا وأضعفها حُجة. الفزَاعة كما ذكر أهل اللغة لها معنيان: إما بمعنى الكثير الفزع أو الذي يُفزع، والمعنيان ينسحبان على فزاعات الآونة الأخيرة وينطبقان عليها . لجأ بعض ولاة الأمور في كثير من بلادنا إلى استخدام فزاعة الإسلاميين في وسائل إعلامهم المرئية والمسموعة وعلى صفحات جرائدهم، عن طريق إضعاف شوكة هؤلاء الإسلاميين، أو تشويه صورتهم بذكر أخبار تنفّر الناس منهم وتثير كراهيتهم، أو بإظهار جمودهم وجهلهم وتخلفهم ورجعيتهم، أو بإلصاق التهم بهم، إلى غير ذلك من الوسائل. اعتقادًا منهم أن ذلك يثبت أركان حكمهم ويوطد دعائم دولتهم، كما أنه يضمن رعاية القوى الكبرى ودعمها إياهم . فزَاعة لطالما أتت على كثير من الأخضر واليابس لدى هذه الأمم، فكم أنفق هؤلاء الحكام أموالا على تلكم الوسائل، وبذلوا الكثير من جهدهم وأوقاتهم فيها، وبدلا من أن تقل أعداد الإسلاميين نراهم يتزايدون ويتزايدون، ولكنها زيادة عليها غبش وفيها عطن وملؤها الغثائية والغبن. ذلك أن الممنوع مرغوب فمتى حذرت ومنعت وسفَهت أحدًا لا بد وأن يتساءل الناس عنه ويبحثوا عن حقيقته، وفي ساحة الفراغ العقلي والخواء العقدي والغياب العلمي، نمت كثير من الأفكار المنحرفة عن الإسلام باسم الإسلام، وتزايد أتباعها وتفرقت مذاهبها، وكل حزب بما لديهم فرحون . كان ينبغي على ولاة الأمر العناية بتعليم المسلمين صحيح الدين ونشر السنة بين الناس، وتعليم الصغار قبل الكبار أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ومذهب الصحابة الكرام والقرون المفضلة، فبها يتميز الحق عن الباطل وبها ينأى الشباب عن الوقوع بأنفسهم في براثن البدع العقدية والعملية، ويتحررون من قيود الحزبيات المقيتة، والتبعية المذمومة والتقليد الأعمى لبشر مثلهم يخطئون أكثر مما يصيبون ويفسدون أكثر مما يصلحون. عناية تنقذهم من العصبية للأشخاص والولاء والبراء تجاه أفكارهم والموالاة والمعاداة عليها. فزَاعة لم تأت بخير أبدًا لا للحاكم ولا للمحكومين، اللهم إلا خفوت أصوات الأحزاب المسلحة وضعف شوكتها واستئصال شأفتها . واليوم وبعدما ذاق الإسلاميون مرارة الفزّاعة الأولى واكتووا بنارها، وبعد أن كانوا يرون أنها بخست حقوقهم ولم تنصفهم أمام الناس، وأنها وسيلة من لا وسيلة له، ها هم اليوم يستخدمونها ضد ما يُسمى بالعلمانيين. فهم يشوهون صورتهم ويسيئون إلى أشخاصهم ويذكرونهم بالسوء وقبائح الأمور وأرذلها مما قد يكون فيهم أو قد لا يكون. وفي حقيقة الأمر تختلف العلمانية من بلد لآخر وتتفاوت صورها ودرجة قوتها وانحرافها، فما بين الإلحاد إلى إبعاد الدين عن السياسة مع الرضا بالدين، ثمة درجات وطبقات لا ينبغي إغفالها عند معالجة ما يسمى بالعلمانية. وغالب الظن أن هؤلاء الذين يسمون بالعلمانيين ويعيشون بين ظهرانينا هم أقلهم درجة وأدناهم مرتبة إذا ما نظرنا إليهم بالمقارنة بما هو كائن في أرجاء العالم . إن هذا العلماني الذي يعيش بيننا وإن اتفقنا على قبح مذهبه وانحراف فكره، إلا أن طريقة تلك الأحزاب التي تسمى بالإسلامية في مواجهتم لا تزيد هؤلاء إلا قوة وبأسًا، ذلك أن انحرافات كثير منهم وخاصة من تشرَب فلسفات الغرب وعقائده واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار للقاصي قبل الداني وللجاهل قبل المتعلم، ولغير المتدين قبل المتدين. ماذا تنتظر من أي مسلم عندما يسمع أن أحدهم يكره سنن الإسلام الظاهرة، أو أن أحدهم يسفَه رموز الإسلام العالية، أو يبغض مظاهر الإسلام في الحياة العامة، أو يفصل الدين عن الحياة كلها، أو يتكلم في حق الله جل في علاه بما لا يليق ! وهم مع ذلك يستغلون تهافت هؤلاء الإسلاميين على الرد عليهم في صنع أبطالهم وتلميع مفكريهم. وما كان لهم أن يشتهروا ولا أن يعرفوا من الأساس لو لا تسليط الضوء عليهم والسعي في كل الأماكن وخلال كل المنتديات إلى فضحهم وبيان عوراهم. ومما نأسف له أن كثيرًا من الأحزاب المسماة بالإسلامية لم تجد طريقًا أقصر ولا وسيلة أسرع إلى جمع الناس حولهم إلا استغلال عاطفتهم تجاه الدين، وغيرتهم من أن يمس بسوء. وعند هذه النقطة تلاقت رغبتا العلمانيين والإسلامين، والناس فيما بينهم كفريسة تتصارعها فكوك السباع. كثير من علمانيي منطقتنا تتصارع في عقولهم تقاليد ومعتقدات أوطانهم و تقاليد ومعتقدات الغرب، وكم منا يستطيع من خلال هذا الصراع أن يعود بهم إلى صحيح معتقدهم، ومن أبى فقد قال الله تعالى في حق من هم أقبح منهم: "ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء". ولو أردت أن تبحث في أصول ضلال هذا العلماني، أو في أسباب غيَه وفساد فكره، لن تجد أمامك إلا أصلين رئيسين: الأصل الأول: تشرَبه لفلسفات الغرب ومعتقداتهم المخالفة للإسلام، وقد ذكرنا من قبل صورًا لذلك. والأصل الثاني: تشربه لفكر أحد المفكرين العقلانيين الذين يسمون بالإسلامين، والاستدلال بأقواله وكتبه على انحرافه وضلاله. والأصل الثاني أشد خطرًا وأكثر عددًا، فكم منهم إذا قيل له: الإسلام يحرم كذا أو يمنع كذا، قال لك: لكن المفكر الإسلامي فلان أباحه وأحله، إذا قيل له: السنة وأحاديث النبي الكريم تقول كذا وكذا يقول لك : لكن المفكر الإسلامي فلان يقول بأن أحاديث الآحاد لا تقبل وتكفينا المتواترة، وما علم هو ولا مفكره ذاك أن الأحاديث المتواترة لا تزيد عن المئة إلا قليلا، وأن جل الأحاديث النبوية آحاد، وعليها قامت أكثر شعائر الدين. إذا قيل له يجب على المرأة كذا وكذا من الأحكام الشرعية، قال لك: لكن المفكر الإسلامي فلان أباح لها ذلك وأقره، وقد لا يستدل بهذا المفكر لتعظيمه واحترامه له وإنما للانتصار لقوله وحسب، وقس على ذلك . رحم الله سلفنا الصالح حيث أكدوا وبينوا أن البدع وأهلها أشد خطرا على الإسلام وأهله من العدو الخارجي، ذلك أنهم يهدمون من حيث لا يعلمون، وضررهم على الناس خافٍ، ومساوؤهم في تفريق الكلمة وذهاب ريح المسلمين ظاهرة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: قال أبو الفضل الهمداني رحمه الله تعالى: مبتدعة الإسلام و الكذابون و الواضعون للحديث أشد من الملحدين، قصدوا إفساد الدين من خارج، و هؤلاء قصدوا إفساده من داخل، فهم كأهل بلد سعوا في فساد أحواله، والملحدون كالمحاصرين من خارج، فالدخلاء يفتحون الحصن، فهم شر على الإسلام من غير الملابسين له. [الصارم المسلول 2 / 329 .] وعليه فللقضاء على طائفة لا بأس بها من العلمانيين لا بد من تنقية وتصفية ما ينشر ويكتب ويؤلف ويلقى على مسامع الناس باسم الإسلام، والتوجيه وبذل النصح في هذا الباب، والأخذ على أيدي القائمين على ذلك بالنصح تارة وبالتحذير تارة إذا ذاع ضلاله وغدا كلامه حديث الناس في مجامعهم ودينًا يدينون الله به ويلقونه عليه. وأما الطائفة المتلبسة بالأصل الأول وحسب فبيان تلبيسهم وضلالهم واجب بلا شك وإن كان لا يُحتاج معه إلى كثير بيان، ولا لعظيم جهد . وإن يكن بعد هذا الطرح من فزَاعة تستحق الخوف والفزع حقًا وصدقًا، فإنما هي الوقوف بين يدي الله عز وجل "يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم"، "يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون".