نعيش فى هذه المرحلة «اليوم التالى» للخامس من يونيو 1967. مر يوم الهزيمة ثقيلا.. بطيئا. استغرق أكثر من أربعين عاما عشنا خلالها فعليا فى الظل الكئيب لهذا اليوم. حاولنا فى 6 أكتوبر 1973 أن نعبره.. أن نتجاوزه إلى فجر يوم جديد. بالكاد نجحنا. ظل الفجر يراوغنا ويبتعد أكثر وأكثر، وليل الخامس من يونيو يطول ويمتد ويتمطى بلا نهاية. فى 25 يناير الماضى فعلناها. فقط فى هذا اليوم عبرنا 5 يونيو، وأشرق علينا الفجر. الخامس من يونيو ليس يوما واحدا، إنه تاريخ كامل. إنه لحظة من عمر الوطن والحضارة توقف فيها الزمن عن الحركة. أصابه شلل كامل. 5 يونيو حالة سياسية ونفسية وحضارية، ربما كان أحمد بهاءالدين هو أبرع من عبروا عنها عندما رصد أن الهزيمة حضارية، وكذلك «قسطنطين زريق» الذى دفعته النكسة إلى التفتيش عن «معنى النكبة مجددا». ما الذى تعنيه حالة 5 يونيو؟ إنها المباغتة بالهزيمة على غير توقع. السقوط قبل الوصول إلى خط النهاية بأمتار. الانكسار الكامل بالضبط فى لحظة النشوة. إنها معرفة الحقيقة كلها دفعة واحدة. هكذا.. بلا مقدمات. الخامس من يونيو هو الحلم عندما يستحيل كابوسا، وبالتالى ينتهى بنا الأمر إلى شطب الأحلام من قاموس مفرداتنا. الأحلام تصير مرادفا للارتجال والعبث بالمصائر. الأحلام هى «الكلام الكبير» الذى لا يسمن ولا يغنى، بل يذل ويفقر ويهين. الخامس من يونيو هى كل ذلك. هى الجرح الذى لم يندمل فى نفوسنا جميعا. هى سر عائلى الجميع يعلمه، والجميع مع ذلك ما زال يتعامل معه باعتباره سرا. هى «وديعة» من الألم والقهر سلمها جيل إلى جيل غير منقوصة. ●●●● حتى 25 يناير الماضى كنا نعيش فى مصر، وفى المنطقة، فى إطار عالم ذهنى وثقافى واستراتيجى تمت صياغته فى الخامس من يونيو. بعد نكسة 1967 سقط المشروع القومى الناصرى فى الداخل والخارج، ومنذ هذا التاريخ لم يملا الفراغ مشروع جديد. فى الداخل: ما قبل 1967 هو عالم الوعد بلا حدود. المشاريع الاجتماعية والتصنيع والتوسع فى التعليم. الدولة ليست فقط من يقود كل هذا، وإنما هى تشرف وتنفذ. الدولة هى هذا الكيان المثالى القادر على فعل المعجزات، فتشرئب إليه الأبصار فى انبهار. ولما لا؟ ألم تقد الدولة مشروع التصنيع؟ ألم تؤمم القناة وتبنى السد؟ ألم تخلق مئات الآلاف من الوظائف لاستيعاب جيوش المتعلمين من خريجى الجامعات، بحيث أعطت أملا فى نظام اجتماعى/ اقتصادى يضمن الحراك الاجتماعى؟ والدولة فى عالم ما قبل 1967 هى دولة مثالية بكل ما تحمله الكلمة من معنى. لا يأتيها الباطل من فوقها أو تحتها. وحتى إن أخطأت فهنيئا ومغفورا لها ذنوبها. الأخطاء الصغيرة تتضاءل أمام الصورة الإجمالية المثالية. دولة ما بعد 1967، هى دولة جريحة ومهزومة. لا تقود مشروعا ولكنها تستمر مع ذلك فى التوسع، وكأن التوسع المستمر صار جزءا من تركيبتها وكينونتها. هى دولة لا ينظر لها أحد باحترام، ولكنها ما زالت تحوز فى الحد الأدنى على الاحتكار المنظم لاستخدام العنف. نعم، هى دولة الحد الأدنى فى كل شىء. الناس لا تنتظر منها الكثير، ولكنها تتعلق بها كملاذ أخير. الخدمات تسوء ولكن الهياكل التى تقدمها ما زالت قائمة. السيطرة على الأطراف تنفرط، وهيبة الدولة تتعرض لامتحانات صعبة، ولكنها ما زالت قادرة على مواجهة من يحملون السلاح فى مواجهتها. دولة ما بعد 1967 دولة عجوز. مترهلة وبطيئة الحركة، وقدرتها على المبادرة معدومة. إنها دولة تعيش يوما بيوم. وهى، على عكس دولة ما قبل 1967، انتهازية وأنانية ولا تنظر سوى لمصلحتها، وبالتالى هى محتقرة من الجميع، ولكنها تبقى فقط كضرورة للحياة. شرا لابد منه. بالاختصار: عالم ما قبل 1967 هو عالم دولة شمولية تحتكر كل شىء، ولكنها مثالية ومقبولة فى نظر الناس. وعالم ما بعد 1967 هو عالم دولة شمولية فقدت مبرر وجودها فى نظر الجمهور، الذى يحافظ عليها فقط لشعور الغالبية بأن بدائلها أسوأ منها. ما قبل 67 هو الدولة الحلم، وما بعد 67 هى نفس الدولة ولكن بعد الإفاقة على الواقع. فى المنطقة: عالم ما قبل 1967 هو عالم أقطاب عربية تتنازع السيطرة على المنطقة (مصر/ السعودية/ العراق). هو عالم الوعد بأن القضاء على إسرائيل ممكن، بل إنه قريب. وفى أقل القليل، فإن العرب قادرون بقيادة مصر على تحجيم إسرائيل وحصارها داخل حدودها. هو عالم تلعب فيه الأيديولوجيا وأدواتها (الزعامة الكاريزمية/ إذاعة صوت العرب..إلخ) دورا هائلا فى تشكيل وعى الجمهور على امتداد المنطقة. ●●●● أما العالم الذى ولد فى فجر الخامس من يونيو 1967، فهو عالم انتقلت فيه مراكز القيادة والتأثير بالتدريج إلى أطراف إقليمية يجمع بينها أنها ليست عربية: تركيا وإسرائيل وإيران. قواعد اللعبة تغيرت: إسرائيل من حقها الوصول إلى أى مكان فى أى وقت لضمان أمنها كما تقوم هى بتعريفه. العرب فى حالة سلام رسمى (إما بمعاهدة كما فى الحالة المصرية، أو بدونها كما فى الحالة السورية). الشعوب العربية تعيش على هذا الجرح. تلوكه وتعيد اجتراره. تعرف فى قرارة أعماقها أنه فرع لأصل وعرض لمرض، ولكنها لا تجد سواه منفذا للتعبير عن الألم المكبوت. المنطقة ما بعد 1967 لا تتبنى أيديولوجيا رسمية، ولكن الدين يتصاعد، بكل تجلياته السياسية والاجتماعية والعسكرية، كأيديولوجية بديلة عن الفشل العلمانى فى الإدارة بما أوصل للهزيمة المهينة، والأسوأ: الفشل العلمانى فى إعطاء الناس معنى لحياتهم. الدين إجاباته جاهزة وبسيطة ومقبولة من الأغلبية. النتيجة السياسية الأهم ل1967 هى اقتناع النخب العربية بعدم القدرة على مجابهة المشروع الصهيونى أو إزالة إسرائيل، واتفاق هذه النخب فى الوقت ذاته على خطورة مصارحة الجمهور بذلك. إنه عالم تمثل «الشيزوفرينيا» سمته الرئيسية. شيزوفرينيا النظم والنخب الثقافية على حد سواء. فى 25 يناير بدأت الدعائم التى قامت عليها منظومة 1967 فى التفكك. الجمهور ولأول مرة أدرك الرابطة الواضحة بين العجز عن مواجهة إسرائيل، وبين الديكتاتورية والانهيار الشامل فى الداخل. ربما جاءت لحظة الحقيقة فى يوم 15 مايو الماضى، عندما كان النظام السورى يقتل المتظاهرين من أجل الحرية، فى نفس الوقت الذى كانت فيه إسرائيل تقتل من حاولوا عبور خط الحدود فى مجدل شمس. سقطت الأقنعة. كلام «رامى مخلوف» رجل الأعمال المقرب من النظام السورى عن استقرار إسرائيل المرتبط باستقرار سوريا كان كاشفا وفاضحا. سقطت الأقنعة كما لم تسقط من قبل، ومعها سقط عالم كامل قام على هذه «الشيزوفرينيا» القاتلة. فى الداخل: انهارت دعائم دولة 1967 القائمة على لا شىء. فى المنطقة: لأول مرة، تظهر بشائر تفكيك المنظومة الإقليمية القائمة على الهزيمة العربية. إعادة تملك الأوطان العربية هى التى جعلت هذا ممكنا. إعادة تملك الأوطان تفتح آفاقا للتحرير. الاحتلال الداخلى هو الذى فتح النافذة التى تسلل منها الاستعمار الصهيونى، والديمقراطية الحقيقية فى الداخل هى القادرة وحدها على إغلاق هذه الثغرة. ●●●● نعيش اليوم أيام 6 يونيو. ما كان أطول هذا الليل، وما أجمل تلك اللحظات التى ينبلج فيها خيط ضوء أبيض رقيق، يتسلل بهدوء، ولكنه يحمل وعدا.