«أسمى الثورة المصرية حتى الآن انتفاضة، فهى لم تكتمل بعد، ولا أحد يدرى إن كانت ستكتمل أم لا» تسرب القلق إلى الروائى صنع الله إبراهيم وهو يحدثنى عن ثورة الشباب؛ التى أشعلت فيه حلما قديما كان فيما يبدو فقد الأمل من تحققه؛ لكنه لم ينسه أبدا. ربما داهمه مع ازدياد الأمور سوءا قبيل الثورة على طريقة «ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج»، ففتش فى أوراقه ليقدم لنا أحدث رواياته (الجليد) التى تدور أحداثها فى موسكو؛ حيث السكن الجامعى يضم طلبة من كل صوب وحدب فى عام 1973. يروى: «لم يكن لدىّ رغبة فى الكتابة عن مصر فى أى مرحلة من مراحلها، كنت قد مللت، فقررت العودة إلى تجربة قديمة». التاريخ والمكان موحيان لكن صنع الله لم يبتغ الكتابة عن تاريخ مصر الحربى وانتصاراتها من وجهة النظر الشائعة أو تمثيلية النصر كما أكد لى، وقال: «الصورة من هناك كانت مختلفة تماما، قيل إن كسينجر أراد إنقاذ أمريكا من أزمة اقتصادية محكمة مثل التى عاشتها فى عام 2009، فطلب من السادات أن يقوم بضربة لتحريك الأمور فى الشرق، بالتالى وقف البترول عن أوروبا، لتتكون ثروات هائلة عند ملوك النفط فى الخليج وتضخ فى الاقتصاد الأمريكى المنهار، لم يكن لدىّ وثيقة بهذا الكلام لكن الأيام قالت إنه لم يبتعد كثيرا عن الحقيقة». يستطرد: «السوفييت دفعوا ثمنا باهظا لدعمهم لمصر ومحاباتهم لها، لكننا وكما ذكر واحد من أبطال الرواية أعطيناهم خازوقا» ويروى: «كانت مصر فى حاجة إلى القمح وموسكو أيضا، وكانت موسكو قد اشترت سفنا فى طريقها إلى هناك، ولما طلبت مصر القمح حوّلت السفن طريقها، وهذا لم يحدث فى تاريخ العلاقات بين بلدين، المواطن السوفييتى دفع ثمن حبه لمصر، أما أمريكا فتحاول استغلال مصر للسيطرة على منابع البترول». كل هذا التاريخ الحافل أيضا تركه صنع الله جانبا وقرر الكتابة عن الحياة الجنسية فى الاتحاد السوفييتى فقط، سألته لماذا؟ فقال «الجنس جانب كاشف فى حياة الإنسان والمجتمعات»، لكن كثيرا من النقاد استقبلوا تفرّغ الرواية لسرد تفاصيل العلاقات الجنسية فى مجتمع الطلاب، «انكفاء مبالغ فيه على الجنس»، أما صنع الله فيجد «كل ما نعيشه جنس، بداية من تصفيف شعرك فى المرآة وحتى العلاقات، وأكبر الأزمات فى المجتمع المصرى هى أنه لا يمارس الجنس بشكل صحيح، نحن نحتاج إلى ثورة جنسية، حتى يعود المواطن المصرى إلى كونه سويا». ربما اختلف استقبال (الجليد) لو لم تطبع فى يوم 24 يناير 2011؛ أى قبل الثورة بليلة واحدة، فالرواية لا تتماشى مع الجو الحماسى الذى صار يملأ الشارع الآن، رغم احتكاكها بعدة قضايا سياسية مهمة مطروحة الآن على الساحة المصرية، أبرزها الإعلان عن العمل الشيوعى العلنى، إذ يروى صنع الله الانشقاقات الحادة التى ظهرت حول الفكر الشيوعى فى ثنايا الرواية، وكيف أن تطبيق هذه اليوتوبيا الماركسية فشلت فيه أنظمة كاملة جندت كل طاقاتها للوصول لقدر كاف من (العدالة الاجتماعية). ويتمسّك بوجود جذور للفكرة الشيوعية فى فكر الثورة؛ فهذا المنتج الفكرى الضخم أُثر فى الناس ولو بشكل غير واع، «الناس فى الشوارع كانوا يرفعون لافتات العدالة الاجتماعية، من أين أتوا بهذه الفكرة؟ هذه هى خلاصة ما قدمه ماركس وحاولت النظم الشيوعية على اختلاف مذاهبها الوصول إليه». يستطرد: «الأزمة أن العمل الشيوعى فى مصر تعرض لهجوم وتشويه منذ بدايته فى 1924، ومازالت هناك فتوى تحرّم الشيوعية، والأسوأ أن البعض مازال يظن أن الشيوعية هى أن تمارس الجنس مع أمك وأختك، نحن فقط لا نسمى الأفكار الماركسية باسمها مخافة أن يعزف عنها الناس». لا ينسى صنع الله أن يذكّر بأن أنظمة كاملة وأبرزها «النظم الملكية كانت تخاف الشيوعية، وهى التى موّلت أبحاث لتحريم الشيوعية ككتاب عبدالحليم محمود عن الفكر الشيوعى»، كل هذه المحاولات من وجهة نظر صنع الله إبراهيم أدت إلى انتكاسة حقيقية فى الفكر الشيوعى المصرى. لم يكن الخطر الأكبر على الشيوعية هو سجون الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، فهو من وجهة نظر صنع الله كان «متقدما عن الشيوعيين المصريين بخطوات بمشروعه الاشتراكى، فهو أول من حاول تمصير الفكرة الشيوعية، لكنه كان ديكتاتورا». يروى صنع الله أن عبدالناصر كان يريد الاستفادة من الفكرة الشيوعية فأرسل البعثات إلى موسكو، «لكنه (يقولها ساخرا) كان يطلب من إدارة البعثة عدم تدريس المصريين المقررات المتعلقة بتاريخ الفكر الماركسى». أسأله: هل هو سعيد بعودة العمل العلنى للمنظمة الشيوعية المصرية، فيقول: «هذه المنظمة لا تعبر عن التيار الشيوعى المصرى بأكمله، بل تمثل أصحابها فقط، فالماركسية فكرة يمكن لكل فرد أن يطبقها على طريقته»، ولا ينسى صنع الله أن يذكّر بأن حزب التجمع كان يعد يساريا بينما اكتشف الجميع أن رئيسه رفعت السعيد كما كشفت بعض تسريبات أمن الدولة أنه كان واحدا من الأعمدة التى وقف عليها مشروع التوريث وأن «من أعلنوا عودة الحزب الشيوعى للممارسة العلنية كانوا على علاقة وثيقة برفعت السعيد ومجموعته». هنا أسأله عن الانقسامات فى صفوف العمل الشيوعى المصرى فيؤكد أن ذلك جزء من المؤامرة، ف«أجهزة الأمن ظلت تزرع الجواسيس والدسائس فى التنظيمات الشيوعية بهدف افتعال الأزمات طوال الوقت»، ثم يعود ويعترف «صحيح أنه من آفات التيارات الشيوعية أنها لم تتعلم كيف توحد صفوفها، كانت تفتقر إلى شخصية قوية تسيطر على الحركة، كان هناك شهدى عطية لكنه اغتيل فى السجن للأسف». ماذا تحتاج الثورة الآن؟ فى جملة مقتضبة يرد: «تحتاج إلى زعيم»، فأقول له إن الزمن تخطى فكرة الزعامة: «على الأقل مجموعات تقود الجماهير وتتحدث باسمها» وبعد قليل من الشرود: «غيّرت التكنولوجيا الكثير من وسائل الممارسة السياسية، وربما يجعلنا ذلك نحتاج وقت أطول لتنظيم صفوفنا، ليستعيد المواطن المصرى ثقافة العمل الحزبى والانتماء لتيار». تثير رواية (الجليد) تساؤلا هاما حول الصورة النمطية للمجتمع الشيوعيّ حيث يظن الكثير منا أن هذا المجتمع ليس إلا (مجتمع منطلق فى ممارسات جنسية لا تنتهى) كما هو شائع، لكن صنع الله يؤكد أن هذا المجتمع الذى نحسبه متطورا، هو متخلف فى ثقافته الجنسية، ولم يستطع قبول أنماط أخرى من الممارسات الجنسية، كما سنكتشف فى آخر الرواية أن «هانز» الذى قدمه الكاتب من بداية الرواية كنموذج لزير النساء، هو مثليّ جنسيا، وأن مجموعة من الطلبة السوفييت سيضربونه حتى الموت فى المشهد الأخير من الرواية لأن القانون يحرم العلاقات المثليّة. سريعا يزول الانبهار من عينى طالب البعثات المصرى (وهنا أقصد صنع الله إبراهيم نفسه فهو درس السنيما بموسكو) بعد هذا الحادث ويكتشف فى هذا المجتمع جانبا جديدا من النساء القرويات يتحدثن عن أهمية العذرية لدى المرأة، وعن حرمة جسد النساء فى أوج المد الشيوعى كما يروى لىّ. لا تخلو الرواية كعادة صنع الله من مساحات هائلة من التماس بين سيرته الذاتية وبين المتخيّل، فيقول: «لا شك بنيت هذه الأحداث على ملاحظات كتبتها فى موسكو»، سوف يتأكد لدىّ قارئ الرواية هذا الشعور مع سير الأحداث فى تراتب زمنى مستقيم أشبه باليوميات، بلا منحنى صاعد للأحداث، فذروة الحدث تأتى فى المشهد الأخير من الرواية حيث مفاجأة اكتشاف مثليّة البطل الثانى فى الرواية، وربما مغزى الرواية كلها المكتوب على ظهر الغلاف فى كلمات بدت غريبة كوصف لعمل كتبه الروائى الكبير صنع الله إبراهيم: «دراسة غير مسبوقة للسلوك الجنسى فى المجتمع السوفييتى السابق».