لم يتغير شىء فى حياة إبراهيم متولى، مندوب التسويق بأحد فنادق الفاخرة بشرم الشيخ، طوال أيام الثورة. فقط انكمشت قليلا الحصة التى ينالها على كل رأس يستطيع التقاطه من خليج نعمة للإقامة فى الفندق الذى يعمل به. طوال ثمانية عشر يوما قضاها ملايين المصريين، إما فى رعب منضمين إلى ما عرف باللجان الشعبية أو فى ميدان التحرير فى انحياز منهم لأمل شعبى، لم تحرك شرم الشيخ ساكنا. من يزور شرم الشيخ فى هذه اللحظة التاريخية التى يخضع فيها الرئيس السابق مبارك إلى تحقيق، لم يكن أى من أبناء هذا الشعب يتوقع حدوثه، يصطدم بمدى العزلة التى رزحت تحتها المدينة طوال الأعوام الماضية. فى مدخل المدينة، على الطريق من المطار، تقف صورة الرئيس السابق المحتجز الآن بمستشفى شرم الدولى لتلقى العلاج والتحقيق معا، فى هدوء تام، دون أية محاولات تمزيق أو تنفيس الغضب كما حدث فى بعض شوارع مصر. وتغيب أيضا رسومات الجرافيتى وشعارات الغضب التى صاحبت الثورة من جميع جدران وأسوار المدينة، سواء مع مبارك أو ضده، ومع غياب السياح بفضل حالة عدم الاستقرار السياسى التى تشهدها البلاد تصبح شرم الشيخ مدينة مفرغة. يؤكد متولى أنهم أى العمال القادمون من كل حدب و صوب بحثا عن العمل لم يشعروا بأى شىء فى هذه المدينة إلا بعد اقتراب وصول الرئيس بأوائل شهر فبراير، عندما بدأت دوريات الأمن فى تأمين الموكب الرئاسى ومحل إقامة الرئيس السابق وأسرته قبل توالى الأحداث بسرعة شديدة: صدور قرار التحفظ على أموالهم ومنعهم من السفر، ثم خضوع مبارك للتحقيق أمام الكسب غير المشروع، ثم القبض على أبنائه جمال وعلاء وإيداعهم سجن طرة. عاد متولى خلال الأزمة إلى عائلته فى الإسكندرية مدة أسبوعين خلال الأزمة، بعد أن اتصلت والدته به مذعورة من الانفلات الأمنى وانتشار شائعات هجوم «اللصوص» و«المساجين» و«الهجانة» على المنازل ليلا، لكنه سرعان ما عاد الى شرم بضعة أيام قبل التنحى عندما شعر أن المياه قد عادت إلى مجاريها. «لم أكن أدرك أن الأمور قد وصلت إلى هذا الحد إلا بعدما وصلت إلى الإسكندرية، وانضممت إلى اللجنة الشعبية بشارعنا بسيدى بشر، ورأيت المظاهرات والقنابل المسيلة للدموع وسحابات الدخان تغطى المدينة»، ويؤكد متولى كذلك: «قبل هذا الوقت كنا نظنها من خلال مشاهدتنا الأخبار مجرد موجة مظاهرات كالتى شهدتها البلاد، لأن الحياة فى شرم كانت هادئة للغاية، لم نكن نتصور كل هذه الأحداث». السخونة وحالة الاحتقان السياسى التى تشهدها جميع المدن والمحافظات المصرية فى بر مصر وبحرها، لم تعرف منها شرم شيئا، فالسياسة لا تجد لها مكانا ضمن أولويات العمال وأهل المدينة هناك. ربما اعتاد أهلها الانشغال بأكل العيش بديلا عن الانشغال بزوارها المهمين. إذ لم تشهد مدينة شرم الشيخ أى محاولات تسييس حتى بعد ثورة 25 يناير، فبالرغم من أن المدينة شهدت أكبر مؤتمرات السلام العالمية كانت آخرها القمة الدولية الطارئة بشرم الشيخ يناير 2009 بدعوة من مبارك لبحث الأوضاع فى غزة، إلا أنها لم تعرف اللجان الشعبية التى تكونت تلقائيا فى جميع شوارع مصر لحماية السكان لتتحول فيما بعد إلى نوات لقيام وحدات سياسية أكثر نضجا ووعيا، كما لم تسجل أى محاولات تحزب أو تكتل سياسى فى شرم الشيخ، ولم تسع الأحزاب هى الأخرى إليها كما فعلت فى محافظات بحرى وقبلى. فقط بعد انتهاء العمل يقف متولى مع زملائه أمام أحد البازارات بخليج نعمة السياحى الشهير بوسط المدينة، ويتبادلون الأخبار التى حصلوا عليها طوال اليوم من هنا وهناك. يناقشونها بخفة الى جانب أحاديث أخرى قصيرة متنوعة. يأتى خبر نقل حسنى مبارك إلى المستشفى العسكرى على الشاشة داخل صيدلية مجاورة لبازار «الباشا» اهتم صاحبها بسماع الأخبار، على عكس بقية المقاهى والمحال التى تفوح منها أصوات صاخبة لأغان شعبية بطول المشاية. ثم يأتى خبر وصول جمال وعلاء ابنى الرئيس السابق إلى سجن طرة، فينقسموا هذه المرة بين من يرى ضرورة القصاص من العائلة، ومن يريد تركهم يرحلون إلى خارج البلاد فى هدوء، فى حماس يشبه الحماس لموضوعات أخرى يتناولونها تتعلق بالعمل والسياحة والأسعار وأشياء أخرى. لا لوم و لا حرج يخالف الغياب الأمنى الكثيف فى الشوارع البعيدة عن مقر إقامة الرئيس السابق، والذى تفيد الأخبار أنه سينقل خلال أيام إلى المركز الطبى الدولى بالقرب من القاهرة، تخالف توقعات المرء بتحرشات أمنية وتفتيش ذاتى فى كل شارع فى المدينة، حالة الطوارئ التى اعتادتها المدينة حين تستقبل المؤتمرات العالمية أو زوار مهمين أو حين كان يذهب الرئيس السابق إلى الاستجمام بها لم تعد واضحة كما فى الماضى حين كانت الطرق تؤمن بشدة لا تتضاهى. اليوم يغيب الأمن من شوارع شرم اللهم إلا بضع نقاط تفتيش تمر بها بسلام دون أن ينظر إليك أحد رجال الأمن النائمين داخل سيارات تظللها مظلة يدوية. وهو ما يفسره أحمد عبدالهادى سائق تاكسى يعمل بشرم الشيخ منذ خمس سنوات بأنه بعد أن فقد مبارك سلطاته وقوته لم يعد جهاز الأمن يخشى الاتهام بالتقصير. «قبل الثورة كان أى مؤتمر تستقبله شرم الشيخ نقمة علينا وعلى السياح، نقف فى نقاط التفتيش بالساعات، ونكون معرضين لأن يقبض علينا للتحرى بين الفينة والأخرى»، هكذا يؤكد عبد الهادى (28 عاما) مضيفا: «الآن كما ترين لم يعد هناك نفس الإرهاب إلا بالقرب من قصره بأرض الجولف، وحاليا حول المستشفى العسكرى». قبل نقله إلى المستشفى العسكرى كانت جميع المداخل المؤدية إلى فندق «ماريتايم جولى فيل جولف» حيث تقبع فللا الرئيس تقف عليها حراسة مشددة، وعند سؤال أى من الحراس الواقفين لدى نقاط التفتيش عن حقيقة وجود الرئيس وأسرته بالداخل، تكون الإجابة بابتسامة واثقة ودون النبس ببنت شفة، فتخمن أنت أنه بالداخل ولكن غير مسموح بالتصريح بأى شىء. والتكثيف الأمنى حولها بعكس بقية الشوارع يجعل من السهل التخمين بوجوده فى هذه المنطقة، يسأل الحراس الواقفون عن اسمك وهويتك وسبب وجودك هنا، فإذا عرف أنك صحفى أو متطفل تريد معرفة حقيقة الأمر يعيدك من حيث أتيت. بالتوازى تتراص نحو عشرين سيارة أمن مركزى وعشرات الجنود حول بوابات مستشفى شرم الشيخ الدولى الذى يقيم به الرئيس السابق. وعلى الناحية الأخرى تجمع عشرات الشباب، بينهم من أراد أن يشهد اللحظة التاريخية إذ تصوروا أنهم سيرون فيها مبارك فيها مغلول اليدين، والبعض جاء للتظاهر أو لمنع التظاهر والمطالبة بعودة الهدوء والسياحة إلى شرم الشيخ، إذ أفاد تقرير صادر عن مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء تراجع نسبة إشغال الفنادق فى مصر بنسبة 64.7% عن معدلاتها قبل الثورة. عشرون عامًا من العزلة لم تكن شرم الشيخ طوال نحو عشرين عاما مضت فقط مدينة النخبة والسياحة، وإنما كانت رمزا للعزلة الكبيرة التى عاشها النظام بعيدا عن المجاميع، دون أى محاولات مجدية لإقامة جسور تفاعل بين الطرفين. كانت كلمة «شرم» تجسيدا لهذه العزلة. فعند حدوث أى كارثة أو عند الشكوى من مشكلات البطالة والجريمة والفقر تجد المواطن يعقب شكواه بعبارة التنفيس الشهيرة «احنا قاعدين هنا فى الحر والزحمة وهما فى شرم الشيخ بيستجموا على حسابنا»! بحسبة منطقية بسيطة يدرك المرء أن معظم أفراد المجتمع المصرى لم يروا شرم الشيخ ولو لمرة واحدة فى حياتهم، لتظل «الجنة ونعيمها» لمعظم السكان. كانت دراسة أعدها مجلس أمناء هيئة الاستثمار فى مصر فى 2010 قد أفادت بأن متوسط دخل الفرد فى البلاد يبلغ 98 جنيها للفرد شهريا، أى يرزحون تحت خط الفقر البالغ 164 جنيها للفرد و656 جنيها كدخل للأسرة شهريا، فيما أوضحت أن الدرجة الوظيفية السادسة أدنى الدرجات الوظيفية لا تتعدى قيمة الأجر فيها من الدخل الأساسى ال 394 جنيها فى الشهر. هؤلاء الموظفون أو غيرهم من أصحاب الحظوظ القليلة لا يستطيع قضاء ليلة واحدة فى فنادق فاخرة تبلغ متوسط تكلفة إقامة أربعة أفراد لليلة واحدة فى فندق بسيط 600 جنيه مصرى، فيكتفى هؤلاء وغيرهم بصب كل ما يتمناه من رفاهية ومساواة وعدالة فى كلمة شرم الشيخ. لا تزال يافطة (أهلا بك فى مدينة السلام) تستقبلك فى مدخل المدينة، كما تستقبلك لوحة من الفسيفساء تضم قادة العالم يتوسطهم مبارك على بوابات قرية «الجولى فيل» التى اعتادت منذ التسعينيات ومع صعود أسطورة شرم الشيخ مدينة السياحة والسلام استقبال أهم رؤساء العالم وصناع القرار به لمناقشة القضايا العالمية التى تخص الشرق الأوسط، ذلك وسط تجاهل شديد لمطالب الكثير من النشطاء وبعض أبناء الوطن المتعاطفين مع القضية الفلسطينية. الآن وبعد أن تصاعد بعض الأصوات المطالبة بإلغاء معاهدة كامب ديفيد للسلام بسقوط النظام، وعادت الاحتجاجات المطالبة برحيل السفير الإسرائيلى وإغلاق السفارة، لم يعد أحد يعرف ما مستقبل هذه المدينة. هل ستظل مدينة السلام؟ أو سيسحب هذا اللقب الذى منحتها إياه منظمة الأممالمتحدة للتربية والثقافة والعلوم (يونيسكو) فى 2002؟ تخيم حالة من الاضطراب والقلق على العمال والموظفين فى شرم الشيخ، مع تواتر موجات التشاؤم والتفاؤل. السياحة بتروح وتيجى متولى البالغ من العمر 32 عاما لا يخفى قلقه من المستقبل إلا أن أملا وتفاؤلا يبقيانه مبتسما: «أنا واثق أن الله سيتمها علينا بخير وسيكون المستقبل أفضل، أما السياحة وحالة الكساد التى نعيشها فهى طبيعية فى بلد سياحى وقد اعتدنا عليها من أول تفجيرات شرم فى 2005 وحتى هجمات القرش فى 2010، فى حالة صعود وهبوط دائمين، الأهم أن تكون الأوضاع أفضل للمصريين جميعا». أما حسين السيد ال«هوم كيبر» (عامل النظافة) بأحد الفنادق الفاخرة بالمدينة فيحمل رؤية أكثر تشاؤما. «أهل التحرير والقاهرة وبقية المدن لا يشعرون بالمعاناة التى نعرفها نحن هنا»، يردد حسين أيضا: «مبارك صحيح لم يكن الحاكم المثالى، لكنه على الأقل فتح فرص عمل لآلاف من العاملين فى شرم الشيخ، والسياحة لن تعود أبدا كما كانت من قبل». مع كل هذا الخليط من التفاؤل والتشاؤم وغياب الرؤية بين 35.000 عامل فى المدينة، هل تنتهى أسطورة شرم الشيخ؟ هل يأتى رئيس يمنح كل مواطن حق قضاء أسبوع فى الشتاء بشرم ليتمتع بالبحر والسماء؟ أم أن الشعب سينسى المدينة مع رحيل مبارك؟ لا يمتلك العاملون بشرم الشيخ إجابة واضحة ومحددة على ذلك. فقبل اندلاع الثورة المصرية ببضعة أيام، أعلنت حالة الطوارئ بشرم الشيخ لاستقبال قادة العالم العربى والبنك الدولى استعدادا لمؤتمر القمة الاقتصادية العربية 2011، وفى نفس المكان الهادئ الآن، تحديدا فى قاعة المؤتمرات بجولى فيل، كان السؤال المسيطر على الإعلاميين والموظفين ومنسقى المؤتمر وكذا العاملين بالمدينة: «هل يمكن أن يتكرر ما حدث فى تونس فى مصر؟» السؤال الذى أجاب عنه وزير الخارجية السابق أحمد أبوالغيط والأمين السابق لجامعة الدول العربية عمرو موسى بابتسامة واثقة مرددين عبارتهما الشهيرة «مصر ليست تونس»، إجابة كان يتوقعها الجميع ويعرفها فى الوقت الذى كان يشعر فيه بعض الحضور المؤتمر حالتى الحتمية والجمود اللتين تعيشهما مصر لا تسمحان بأى مجال للتنبؤ بحراك سياسى محتمل. أيا كانت السيناريوهات المحتملة، فالأكيد أن مساحة الاحتمالات وعدم التوقع قد اتسعت مقابل انحسار مساحة الحتمية واللامبالاة حتى بالنسبة لشرم الشيخ.