مثلما حدث قبيل ثورة 25 يناير، حينما تعالت الصيحات تردد «أن ما حدث فى تونس لا يمكن أن يحدث هنا»، وتوالت بعدها فى ليبيا والأردن واليمن وسوريا نفس الصيحات مؤكدة أن «الأمر هنا يختلف تماما»، تعلو اليوم صيحات أخرى تشكك فى قدرات الشعوب وفى اختيارها الحر للثورة. فما تكاد تتحدث إلى مجموعة من الناس أو إلى سائق التاكسى ميزان حرارة الشارع المصرى كما يقول خالد الخميسى وهو نفس السائق الذى كان أول من سارع بوضع ملصقات 25 يناير على سيارته، إلا ويحدثك عن تعجبه من إطلاق كل هذه الثورات فى توقيتات متقاربة ومتتالية بعد سكوت الشعوب وتحملها لسنوات أكثرها 42 عاما وأقلها سبع سنوات، فى إشارة إلى ضلوع أيدٍ خفية وراء إشعال جملة هذه الثورات العربية. من المستفيد من هذا التضليل ومن المسئول عن هذا «العبث» فى عقول البسطاء والتشكيك فى قدرة الشعب على إسقاط النظام العنيد إن لم تكن الثورة المضادة؟ تلك الثورة المضادة التى يمكن أن تنفذ بأكثر الوسائل نعومة أو حتى بغطاء ديمقراطى. كيف يمكن أن تكون أمريكا أو إيران أو إسرائيل هى الأيدى الخفية المشار إليها فى وقت تابعنا جميعا ردود أفعالهم المتخبطة فى بعض الأحيان وثقتهم العمياء فى استحالة إنجاح التغيير فى أحيان أخرى؟ من هنا تأتى الإجابة الوافية على لسان كاتبين غربيين هما آلان وودز وفريد ويستون وهما اللذان تابعا عن كثب أحداث الثورتين التونسية والمصرية وحللاهما من منظور النضال الثورى على الموقع الالكترونى marxist.com، حيث تظهر بوضوح من خلال المقالات المجمعة التى ترجمت مؤخرا إلى العربية وصدرت ضمن مطبوعات «الكتابة الأخرى» الإيمان الكامل والإشادة الكبيرة بقدرة الجماهير على التغيير والتأكيد على تخبط الموقف الأمريكى وكذلك الموقف الإسرائيلى. «من المهم جدا أن نؤكد أن هذه هى المرو الأولى التى يتم فيها إسقاط دكتاتور عربى من قبل الجماهير نفسها بدون تدخل خارجى». وفى 27 يناير تحت عنوان «الثورة المصرية»: أيا كانت نتيجة احتجاجات اليوم، هناك شىء واضح: الثورة المصرية قد بدأت بالفعل. وهؤلاء المشككون والمفكرون المتكبرون الذين يعزفون باستمرار على نغمة «مستوى الوعى المنخفض» للجماهير، قد توصلوا الآن إلى الجواب. وهؤلاء الخبراء الغربيون الذين يتحدثون بازدراء على أن المصريين «غير مبالين» و«سلبيين» و«غير مبالين بالسياسة» يجب أن يبتلعوا الآن كلماتهم. إن الجماهير سواء فى مصر، إيران، بريطانيا، الولاياتالمتحدةالأمريكية تتعلم من التجربة فقط، وفى الثورة يتعلمون أسرع بكثير. لقد تعلم العمال المصريون والشباب فى بضعة أيام من النضال أكثر مما تعلموه من وجودهم «الطبيعى». يشير آلان وودز الانجليزى مدير تحرير الموقع الماركسى، بعد مرور خمسة أيام من اندلاع الثورة، إلى أن الحكومات الغربية قد أخذت على حين غرة، وهى التى كانت تنفى وجود أى احتمال لانقلاب فى مصر منذ أسبوع واحد فقط، واصفا قادة العالم الغربى فى واشنطن أنهم يقفون «فاغرى الأفواه». مؤكدا أن «أوباما وهيلارى كلينتون يجدان صعوبة فى مواكبة الوضع. تصريحاتهما العامة تظهر أنهما لم يستوعبا بعد الحقائق على أرض الواقع. وهما يعربان عن تعاطفهما مع المتظاهرين للحفاظ على الحوار الودى مع الحكومة التى تطلق عليهم النار والغاز المسيل للدموع. هذه الرغبة فى ركوب حصانين فى الوقت نفسه قد لا تكون مفهومة، ولكن سيكون من الصعب القيام بهذا الأمر خاصة عندما يذهب الحصانان فى اتجاهين معاكسين». ويصف وودز مواقف أوباما بأنه متخصص فى تبنى كل الاتجاهات فى آن واحد، حيث ينصح مصر بتطبيق الديمقراطية وتوفير العمل لمواطنيها وتوفير مستوى معيشة لائق، ويتعاونون فى الوقت نفسه مع الديكتاتور الطاغية، «وعندما تكون الجماهير على وشك الإطاحة به، فإنهم يبدأون فجأة التغنى بالديمقراطية». إذ يعبر المحلل البريطانى أن «الاصلاحات» الاقتصادية الى طالب بها أوباما فى 1991 وشارك فيها، هى التى دفعت مصر إلى نوع من الليبرالية التى أدت إلى ثراء فاحش لقلة وإلى الفقر والبطالة بالنسبة للغالبية العظمى وهو ما أدى إلى تفجر الوضع فى مصر، مما يجعل نصائح أوباما بتوفير الديمقراطية والحياة الكريمة مفجرة للسخرية من وجهة نظره. ولا يوفر وودز سخريته اللاذعة من الموقف الأمريكى إبان الثورة التونسية حيث يتهكم من دعوة أوباما التى وجهها للمواطنين التونسيين ب«تجنب العنف» وهم الذى تلقوا الاعتقال والتعذيب وتحدوا بشجاعة رصاص وهراوات الشرطة وهم الذى وصفهم أوباما نفسه سابقا، حين أدان العنف ضد المواطنين، بأنهم يعبرون سلميا عن رأيهم فى تونس. ويتضح من تحليل وودز لتداعيات الأحداث دوليا أن قلق واشنطن وإسرائيل بدافع من مصلحتهما الذاتية لا يمكن أن يكون محركا لأى شىء، واصفا الدوائر الحاكمة الإسرائيلية بأنها الأكثر قلقا. «لقد كان مبارك أداة مفيدة للسياسة الخارجية الإسرائيلية (..) فقد ساعد فى الحفاظ على وهم عملية السلام المزورة التى أبقت الجماهير الفلسطينية فى موضع الاختيار بينما حافظ الاسرائيليون على مواقفهم الموحدة. وهو الذى ساند عباس «المعتدل» وغيره من قادة منظمة التجرير الفلسطينية، الذين خانوا تطلعات الشعب الفلسطينى، وقال إنه يؤيد ما يسمى الحرب على الإرهاب». وأهم ما يؤكد عليه الكتاب وسط زخم الكتابات الحالية التى تتناول الثورة المصرية، هو إظهاره لعودة النغمة اليسارية المعارضة بين الحشود والتى يتعالى صوتها فى الشارع وبين شباب لم يكن لديه أدنى اهتمام بالسياسة. ففى فصل بعنوان «عودة القوى الماركسية العربية للحياة»، يؤكد وودز دحض فكرة أنه لم يعد هناك وجود للاشتراكية والماركسية بين الجماهير فى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التى تم نشرها لعقود، وأن المعارضة تقودها الأصولية الإسلامية. وفى فصل آخر يبرز الدور الحاسم لحركة الاضرابات فى نجاح الثورة المصرية، وهو الدور الذى حسم المعادلة الثورية قبيل تنحى الرئيس السابق، فى الوقت الذى ينكر العديدون قوة الطبقة العاملة أو يتهمونها بالانكفاء على مصالح فئوية. إذ يذكر فريد ويستون فى مقاله الوحيد المنشور فى الكتاب «دخل العمال فى جميع أنحاء مصر إلى النضال بأكثر من عشرين إضرابا فى قطاع السكك الحديدية وكذلك صناعة الغزل والنسيج، وبين الممرضين والأطباء، وفى كل من المصانع العمومية أو المملوكة من طرف القطاع الخاص. وصلت الأرقام إلى عشرات الآلاف وظلت تنمو فى كل وقت». تحية لجهود الشاعر هشام قطامش الذى يحرص على إصدار المجلة غير الدورية «الكتابة الأخرى» والمطبوعات الملحقة بها والتى تعلى جميعها ومنذ إطلاقها فى التسعينيات من الثقافة غير الرسمية.