ربما تراجع الاهتمام بالحياة الثقافية وسط ما يشهده العالم من طوفان الثورات فى الأيام الماضية، لكن هذه الحياة الفكرية التى هى سبب مباشر فيما آلت له الأمور من تدهور يجب ألا تغيب عن أبصارنا، فملفات الفساد الثقافى وإن بدت هزيلة إلى جوار المليارات المنهوبة التى كشفتها الأحداث الأخيرة ساهمت فى إفساد قاعدة عريضة من المجتمع المصرى، بداية بالنخبة السياسية، مرورا بالمثقفين (وهم ضمير الأمة) وحتى الطبقات المتوسطة والدنيا من المجتمع. وهنا نحاول تسليط الضوء على عدد من الملفات العاجلة التى يجب أن يبدأ التحقيق الفورى فيها من قبل الجهات المختصة وفقا لرؤية عدد من المثقفين المصريين، وأولها «هوس البنيان» كما سماها الروائى والكاتب الصحفى عزت القمحاوى، إذ إن وزارة الثقافة طوال العشرين عاما الماضية انخرطت فى بناء مقار جديدة للثقافة، ولا يرى عزت «هذا التفانى بعيدا عما نعرفه جميعا من أن العمولات فى مجال المقاولات لا يمكن حصره». يردف القمحاوى قائلا: «المتاحف المتخصصة التى لا يذهب إليها أحد، ومنها المتحف الكبير والذى هو مضاد بالكامل لفكرة المدينة، وكون الإرث الحضارى جزءا مهما لا ينفصل من مفرداتها، رغم أن السلطات الثقافية رصدت له ما يفوق ميزانياتها، لكنه ينمّ عن رؤيتها للمتحف كمخزن للآثار لا يزوره أحد، فى حين أن البعض اقترح أن يضم مبنى الحزب الوطنى كامتداد للمتحف. وهنا نذكّر أن المتحف المصرى حماه شباب الثورة بدروع بشرية خلال أحداث النهب ولم يكن ذلك ليحدث لو تم نقل الآثار إلى المتحف المصرى الكبير القابع فى الصحراء. ويتابع القمحاوى قائلا: «لا يمكن أن نعزل جرائم سرقة الآثار الغامضة عن فساد وزارة الثقافة القائمة عليها، وقد وردت أسماء عدد من نواب بالحزب الوطنى الحاكم بإحدى القضايا الشهيرة قبل سنوات، فضلا عن شائعات تحوم حول السيدة الأولى سابقا ويجب التحقق منها فورا» السكوت عن سرقة الآثار ليس الجريمة الوحيدة فى حق تاريخ مصر كما يؤكد عزت القمحاوى «فمشروع أبراج القلعة الآثم، والذى لم تستطع قوة فى مصر الوقوف ضده بما فيه من اعتداء مباشر على الآثار، ويجب أن يتوقف فورا». كل هذا يعنى «أن الوزير السابق الذى تم اتهام عدد من مساعديه فى قضايا فساد شهدها الرأى العام ومع ذلك لم يتم عزله أو توجيه اللوم إليه فى أى من هذه القضايا، فوق القانون ومدعوما كما تقول الشائعات من أسرة مبارك». يشدد الناقد دكتور علاء عبدالهادى على المسئولية المباشرة لفاروق حسنى وقيادات وزارته، ويقول: «هؤلاء وما زالوا موجودين فى سدة المسئولية، رغم أن سرقات الآثار المستمرة من ثلاثة عقود حتى الآن، وعلى رأسها قضية الآثار الكبرى، وآخرها سرقة مخازن الآثار التى اكتشفها سليم حسن من عدة أيام، فضلاً عن نهب دار الكتب والوثائق القومية على مدى العقدين الأخيرين، كلها موضوعات تحتاج إلى فتح تحقيق مع هذه الإدارات المتعاقبة». «ثقافة الاستعراض» أيضا كانت أبرز ما أشار له الشاعر عبد المنعم رمضان قائلا: ليس من أولويات الثقافة إقامة المهرجانات الضخمة والانفاق عليها بأكثر ما يكون البذخ، ويكفينا أن نراجع كشوف المدعوين لهذه المهرجانات لنكتشف أنها الأسماء ذاتها تدعى منذ عشرين عاما، فقط لأنهم من أصدقاء القائمين على هذه المهرجانات والمؤتمرات أو أن الوزير يكتب بجريدة أجنبية فيدعو محررها. وتابع: هذا السخاء خلق شبكة من الفاسدين فى الوطن العربى مترابطة، وستكشفها الثورات فى الوطن العربى جميعا، وهو جزء من رشوة المثقفين للصمت حيال ممارسات الحكومات العربية القمعية. ويستخلص رمضان من هذا أن «الثقافة المصرية طوال عشرين عاما انتهجت منهجا حوّل الثقافة من كونها فعلا عميقا إلى فعل استعراضى». هذه السياسة بدأت بانهيار النظم التقدمية واليسار العربى والذى قاده المثقفون مع نهاية الثمانينيات الكلام هنا على لسان رمضان لكن هؤلاء ظلوا يبحثون عن أب وفى التوقيت ذاته ظهرت بعض الشخصيات التى تبنت سياسة الافساد وساعدت الدولة فى السيطرة على هؤلاء الأيتام، فالدولة السخية بذلت من العطايا لهؤلاء المعارضين بحيث يستحى أحدهم توجيه نقد حقيقى لهذه المؤسسات. ويبرهن على ذلك قائلا: ليس أدل على ذلك من أن سجون عبد الناصر والسادات اكتظت بالمثقفين بينما لم يدخل أحدهم السجن فى عهد مبارك، ألا يدعونا ذلك للتساؤل عن مكان هؤلاء المعارضين فى ظل كل هذا الكم من الفساد؟ يجيب رمضان عن سؤاله «استطاع النظام بأبوته أن يسجنهم فى قفص ذهبى، ما يجب أن نتعلمه مما حدث أن النظام ليس أبا لأحد، وأن الثقافة ينتجها الناس بفكرهم وليس مؤسسات الدولة». وعلى الجانب الآخر من البذخ فى الأنشطة الاستعراضية يشير دكتور علاء عبدالهادى إلى «تردى أحوال الكتاب والمبدعين المادية والثقافية»، كقضية أولى تستدعى المساءلة، وقال: «كان هدف الوزير السابق وبطانته من البداية وضع المثقفين فى الحظيرة على حد تعبيره متوجهًا بذلك إلى تدجين المثقفين لا إلى بناء الثقافة. وكان من نتائج هذه السياسات فشل المؤسسات الثقافية الرسمية القائمة فى إفادة المحتاجين الحقيقيين للمعرفة بكل مستوياتها، فضلاً عن عجزها عن الاستفادةِ من العقل الثقافى العام وتوظيفِه فى التنمية الثقافية الحقة، وفى حماية مكتسباتنا المادية والتاريخية، وكأن شعار «مهرجان لكل مواطن» هو السبيل الوحيد للتنوير»!. لكن هل يمكن أن تنتج السياسات الثقافية فكرا جديدا بعيدا عن ذاك الذى أراده نجل الرئيس المخلوع دون خلع الوجوه القديمة والتى التزمت الصمت إن لم تشارك حيال الفساد؟ اعتبر رمضان الاطاحة بالوجوه القديمة من أولويات المرحلة المقبلة، ف«مقررو اللجان الثقافية الذين مارسوا قمعا ثقافيا على الشباب لابد أن يتخلوا عن مناصبهم ليأتى مكانهم شباب يعبر عن اللحظة الآنية بكل معطياتها مع كل احترامنا لما قدمه بعضهم من عطاء». وذهب دكتور علاء عبدالهادى إلى أهمية محاسبة المسئولين قائلا: «المسئولية المهمة فى سياقنا الآن أن تحاسب الماضى، وتكشف فساده الثقافى، وأن نضع أعيننا على المستقبل من خلال تفادى أخطاء الماضى، والقصاص من الفاسدين ف(الذى فات لم يمت)، وشعار المسئولية التقصيرية هى أهم ما يجب أن يفتح الآن، لأنها تطل مباشرة على المستقبل من خلال لوحة تحذير لكل مسئول (أن احترس سيعاقبك الشعب عن مسئوليتك بوصفك متبوعا عن أعمال أتباعك)، أما أهم ما يجب حسمه صريعا على المستوى الثقافى الآن فهو التخلص من ذيول وزير الثقافة السابق، وقياداته». الكاتب علاء الديب أكد أن الوزارة عملت على مبدأ دهن الجدران بالجير طوال أعوام فلو كانت الوزارة أساسا ذات ضرورة لكانت عملت على تغيير المفاهيم، واستطرد: «أما أن تتحمل الميزانية العامة عبء جهاز ادارى متضخم ومصاريف جبارة على قصور ثقافة لا يستفيد منها أحد فلابد أن نراجع أنفسنا تجاه ما حدث». لجأ الكاتب أحمد أبو خنيجر الذى أكد أنه لا يملك مستندا ليقدمه للنائب العام لجأ إلى المقارنة بين أرقام الإنفاق المعلنة من قبل وزارة الثقافة فى جرائد رسمية وبين ما تم على أرض الواقع للتدليل على الفساد فى وزارة الثقافة، وقال: «يجب أن يقوم الجهاز المركزى للمحاسبات بمراجعة هذه الأرقام، فلا يمكن أن يتوازى المبلغ الذى أعلن أنه أنفق على قصر ثقافة أسوان مثلا وبين ما هو موجود على أرض الواقع، وهى واقعة ضمن مئات الوقائع». فيما يرى الناقد دكتور محمد بدوى أن الفساد الثقافى لا يمكن حصره فى أموال سرقت، فهو بدأ بالكتاب والمثقفين الذين عملوا مع الوزارة لعقود فى تلميع النظام السابق، أما الفساد المالى فلكى نصل فيه إلى قولٍ فصل علينا أن نراجع كشوف الرواتب والمكافآت للقريبين من الوزير، فأهم أبواب الفساد فى رأى بدوى هو «محاولة البعض لعب دور الحارس الأيديولوجى للنظام القائم، فهؤلاء من يصنعون الديكتاتور، ويصفقون له»، وآن الأوان «أن ينهض المثقفون الحقيقيون وليكن لديهم بعض الكرامة فى الدفاع عن الثورة فى وجه هؤلاء المتحولين». وتابع: «من كتبوا عن التنوير فى عهد مبارك، أى تنوير يقصدون؟، يحاربون ضد الدولة الدينية ويدافعون عن مدنية الدولة، أى مدنية والحاكم عسكرى ديكتاتور يحكمنا بقانون الطوارئ منذ 30 عاما».