لم تهدأ روح «النكتة» الساخرة منذ الأيام الأولى للثورة حتى اليوم، وكان من بينها أن طلبة المدارس كانوا يناشدون الرئيس مبارك بسرعة التنحى «إنجز عشان منهج التاريخ هيطول أوى»!، وباتت عبارة «مصر قبل يوم 25 يناير غير مصر بعد 25 يناير» «كليشيه» يردده الجميع حتى معارضو الثورة على الفضائيات، وعند الكثيرين فإن «التاريخ بدأ من يوم 25 يناير». ومن المؤكد أن مهمة «تأريخ» ثورة 25 يناير، بخصوصيتها وتأثيرها السياسى والشعبى وحتى العالمى، ستكون مهمة بالغة الحساسية والدقة أمام المؤرخين خاصة إذا أخذنا فى الحسبان «إرث» المعوقات واللغط الذى كان يساور عمل هذه الفئة المتخصصة، على رأسها حجب الوثائق، وهى الأزمة التى ارتبطت بوثائق نكسة 67 وحرب أكتوبر 73، لذا فإن «ثورة 25 يناير تمثل تحديا حقيقيا أمام المؤرخين» حسب تعبير الدكتور محمد عفيفى رئيس قسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة القاهرة واعتبر أن التحدى الأول يتمثل فى أن هذه الثورة تعتبر ثورة شعبية لا قائد لها، وقال إن هذه الثورة يجب أن تسقط المقولة التقليدية بأنه «لا يمكن كتابة التاريخ لأنه لا توجد وثائق»، لاسيما وأن الاعتماد فيها على الوثائق التقليدية والمصادر الرسمية مجرد جزء من المصادر وليس كلها، «هناك مصادر أخرى أصيلة غير تقليدية لتاريخ الثورة مثل تسجيلات الفيديو المنشورة عبر موقع اليوتيوب، والشهادات عبر الفيس بوك وتويتر، فالمؤرخ الآن مطلوب منه ألا يكون تقليديا ففكرة الوثيقة تغيرت ولم تعد تقليدية»، حسبما قال عفيفى ل«الشروق» مشددا على أنه لا يجوز إهمال الوثائق المصورة، ولا التغطيات الإعلامية عبر الفضائيات والاستفادة من «التاريخ الشفهى» عبر تجميع شهادات حية من المشاركين فى ميدان التحرير وكذلك المحافظات مثل الإسكندرية والسويس، بالإضافة إلى رصد تحولات الصحافة القومية وعمل «تحليل خطاب» لها، وكذلك رسائل القوات المسلحة للشعب سواء البيانات أو عبر الرسائل القصيرة. أسئلة للتاريخ وحسبما قال الدكتور شريف يونس أستاذ التاريخ بجامعة حلوان فإن تجنب اللغط فى الكتابة عن هذه الثورة سيكون مهمة صعبة فهو «حدث ضخم وأطرافه كثيرة» كما أن جزءا كبيرا من الأحداث لا يزال فى حكم التكهنات، مثل اليوم الذى ظهر فيه المشير طنطاوى أمام مبنى الإذاعة والتليفزيون مصافحا المتظاهرين، وبعدها كانت طائرات F16 تحلق على ارتفاع منخفض فى ميدان التحرير، فكثير من النقاط غير واضحة لأن أحد أطرافها هو النظام والموقف الرسمى الذى لا شفافية فيه، وقال: «أظن أن بعضها سيتكشف بالتدريج ومنها ما سيظل سؤالا للتاريخ». واعتبر الدكتور أحمد زكريا الشلق أستاذ التاريخ بجامعة عين شمس أن جانبا كبيرا من المصادر التى سيعتمد عليها المؤرخ متاحة ومن الصعب إخفاؤها خاصة ما يتعلق بالوسائل الالكترونية الحديثة ومنشورات الدولة الرسمية وبيانات الجيش واجتماعات لجنة الحكماء وروايات الشهود و«عيون الفضائيات والفيس بوك». حرق وتهريب الوثائق ولكن متى نبدأ فى كتابة هذا التاريخ؟ سؤال توجهت به إلى الدكتورة لطيفة سالم أستاذة التاريخ الحديث والمعاصر التى أجابت بأن تأريخ الثورة لا يمكن أن يبدأ الآن، وأن هذا الوقت هو الأنسب لمرحلة الرصد سواء من خلال شهود العيان من الثوار أو حتى الجيش والشرطة، وتحليل الصحافة، ورصد تصريحات المسئولين، وموقف الأحزاب، «الوثائق لا تزال غير مكتملة»، حسب أستاذة التاريخ، وتحدثت عن أن دراسة الثورة يجب أن يسبقها دراسة لإرهاصاتها ومقدماتها، واعتبرت أن من أهم التحديات أمام المؤرخين أيضا ما حدث من تعمد إحراق والتخلص من الوثائق والمستندات الرسمية الذى حدث فى عدد كبير من القطاعات الرسمية من بينها المقر الرئيسى للحزب الوطنى الديمقراطى، والمجلس القومى للمرأة، والمجلس الأعلى للصحافة، وجريدة «الأهرام»، ولفتت «هذا ليس جديدا، فمن تداعيات الثورة أن النظام يتخلص من كل ما يدينه»، ومع ذلك أكدت أنه رغم ذلك التعتيم فإن مصادر تأريخ هذه الثورة أكثر وضوحا وإتاحة من وثائق أحداث أخرى مثل حرب أكتوبر على سبيل المثال، إذا أضفنا إلى جانب الإنترنت رصد السفارات الأجنبية، وهو ما ذهب إليه أيضا الدكتور محمد عفيفى الذى أضاف إلى مصادر المعلومات تقارير السفارات وتحقيقات النيابة إلى جانب التاريخ الشفوى مع مسئولين كانوا فى دوائر اتخاذ القرار مثل أنس الفقى وحسام بدراوى، ولفت بقوله «أستغرب من غباء الأنظمة التى تخبئ المعلومات، فلا أحد يحتكر الحقيقة، فهذه عقلية قديمة»، واعتبر أن الفكرة التقليدية التى تفصل بين التاريخ والحدث قد سقطت، وأن التاريخ ليس علم الماضى ولكنه علم الحاضر والمستقبل وهو ما يطلق عليه current history، الذى يدرس كيف يكتب المؤرخ التاريخ الجارى، وكذلك future historyالذى يرسم سيناريوهات المستقبل، وقال إنه لا توجد فواصل حادة بين التاريخ والسياسة والاجتماع، فيما اختلف الدكتور أحمد زكريا الشلق مع مسألة كتابة التاريخ الجارى للثورة، وقال: «لا تاريخ يكتب بشكل علمى وموضوعى إلا بعد مرور الحدث»، واعتبر أن current history يمكن استخدامه كمادة للمؤرخين، أما التاريخ العلمى يكون بعد ما لا تكون هناك أسرار لا تزال رهن البحث، وإن قال إن الوسائل الحديثة للمعلومات ربما تختصر المدة التى تربط بين الحدث وكتابة التاريخ. الثورة ومافيا الدولة وفى السياق ذاته جاء حديث الدكتور شريف يونس «التاريخ لا يكتب فى وقت الحدث، هذا وقت الكتابة الصحفية، وكتابة موضوعات ربما تساعد فى فهم المستقبل، أما الكتابة التاريخية فتحتاج إلى توثيق»، وأضاف أنه لا تزال هناك تفاصيل غير واضحة، وأن دور المؤرخ هو تقصى الدقة، واستجلاء الحقائق خاصة أن هذه الثورة على حد تعبيره» قضت على مافيا الدولة وقطعت عليها الطريق، فقد كان هناك مشروع لتكوين دولة «مافياوية» وجزء كبير من الحقائق مرتبط بهذا المشروع، وقال إن من بين ذلك تحالفات جمال مبارك مع عدد من رجال الأعمال، ووضع الشرطة الذى كشفته الثورة بما فى ذلك تركيبتهم وجهازهم السرى، ولفت إلى العديد من علامات الاستفهام التى تحتاج لوقت للإجابة عنها بما فى ذلك تشكيل اللجنة الدستورية الجديدة وموقف الجيش المحايد من أحداث يوم الأربعاء الذى شهد ما عرف ب«موقعة الجمل» وملابساتها، ودلل على أن الكثير من أسرار التاريخ تنكشف مع الوقت كما حدث مع أزمة المشير عبدالحكيم عامر، وكثير من الكواليس السياسية لعهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر التى كشفتها بعض الشهادات كما جاء فى مذكرات السياسى البارز عبداللطيف البغدادى.