لعل من أبرز مميزات تلك الثورة المباركة في مصر أنها استطاعت -أو في طريقها- أن تحرر العقل المصري من أفكار ومعتقدات سلبية متخلفة، وتحرره من أوهام وأكاذيب نسجتها الأنظمة الحاكمة على مدار عقود، وكذلك أيقظت وعي الشعب ونبهته إلى أعداء الداخل الحقيقيين الذين يرتعون في خيرات البلد ولكن ولاءهم متجه للنظام الفاسد المستبد. 1 أولى تلك الأفكار البالية التي اتضح تخلُّص شباب الثورة منها -وإن كان هناك من الجمهور السلبي المتفرج من لا يزال يحتفظ بها- هي علاقة الحاكم بالشعب؛ فبينما يتعامل الحاكم على أنه السيد والشعب هم العبيد، هناك من الجمهور من يتعامل مع الرئيس على أنه الأب والرمز مهما كان فساده وانحرافه وطغيانه وإجرامه؛ فوجدنا أمثال هؤلاء يتحدثون عن الطاغية مبارك بعدما أصر على البقاء والتشبث بالسلطة حتى آخر رمق- وجدناهم يقولون: هل يمكن أن تقول لأبيك: ارحل وتطرده؟! والسؤال بهذا الشكل يعيدنا إلى أجواء القبلية المتخلفة التي تخلصت منها المدنية الحديثة مع نشأة الدول منذ مئات السنين، هذه الأجواء التي لشيخ القبيلة فيها كل الحقوق بينما ليس على القبيلة إلا السمع والطاعة، وهذه النظرة لعلاقة الحاكم بالشعب نموذج للجهل والاستبداد الذي يعم كثيرًا من المجتمعات العربية.. وبينما كانت هذه نظرة البعض فإن الشباب الثائر النقي المتفتح تخلص منها، وأصبح ينظر إلى الحاكم كما تقتضي النظرة الإسلامية المتحضرة التي تعرف جيدًا العلاقة بين الحاكم والمحكوم؛ فالحاكم ما هو إلا موظف عند الشعب اختاره الشعب بإرادته لينوب عنه في تصريف شؤونه مقابل أجر، ومقابل أن يطيعه الشعب ما دام يسعى بالفعل إلى مصلحته (أي مصلحة الشعب) لا مصلحة الحاكم الشخصية؛ فإذا فسد ذلك الحاكم فإن على الشعب أن يعزل ذلك الموظف الفاسد، بل ويحاكمه على ما أفسد، هذا فضلاً عن أن يكون ذلك الحاكم قد جاء عن غير رضا الشعب؛ مما يجعل على الشعب واجب عزله فورًا وتولية من يراه صالحًا.. إن الشباب الذي سيحكم البلاد بإذن الله للعقود القادمة أصبح يعرف شكل العلاقة الصحيح بين الحاكم والمحكوم؛ لذا فإننا لا شك سنرى في النظام الجديد إن شاء الله محاكمات للفاسدين من رئيس الجمهورية وأسرته وأصهاره والوزراء والمسؤولين والمحافظين ورجال الشرطة الذين استحلوا الأموال والأعراض والكرامة، وأخذوا كل شيء في الوقت الذي لم يؤدوا فيه ولو شيئًا واحدًا من واجباتهم المنوطة بهم. وحينها سيعلم كل مسؤول جديد معنى كلمة المسؤولية وأنها ليست مغنمًا لينهب ويسرق، وإنما هي مغرم فهو مسؤول أمام الله تعالى في الآخرة، ومسؤول أمام الشعب في الدنيا ومحاسب على مسؤوليته. 2 من هذه الأفكار البالية التي تعودنا عليها وجاءت الثورة الشبابية المباركة لتظهر زيفها المعنى الحقيقي للتعاطف والرحمة؛ فليست الرحمة والعطف لمن أباد الشعوب واستحل دماء أبنائها، أو نهب مقدراتها وخيراتها لنفسه وأبنائه والفاسدين من حوله.. إن هذه الرحمة وذلك العفو لهو عين الفساد في الحقيقة، وأفضل وسيلة يستغلها المجرمون ليتمادوا في فسادهم وغيهم معتمدين على الذاكرة الضعيفة لذلك الشعب الساذج، آمنين من الحساب فضلاً عن العقاب؛ يقول الله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } [النساء: 17، 18]. إن التوبة الحقيقية التي يقبله الله تعالى هي لمن عمل السوء بجهالة أما ذلك المتعمد الفاسق فلكي يتوب وتُقبل توبته لابد من أن يتراجع عما يفعله، ويرد المظالم لأهلها أما أن يكتفي بأن يقول إنه لن يعيد ترشيح نفسه؛ ليخرج الشعب بعدها متعاطفًا معه ناسيًا كل الإجرام وكل الفساد وكل الطغيان وكل النهب وكل الديكتاتورية وكل المعتقلين ظلمًا وكل الجرحى وكل الدماء وكل الشهداء فهذه خيانة ممن يغفر لهذا الرجل، ويتعاطف معه؛ فلابد أن يرحل الطاغية ويُحاكم ويُعاقب، ولو قُتِل ألف مرة، وهذا ما وعاه الثوار، وتحرروا من الأفكار السلبية البالية؛ فأصروا على رحيل الطاغية، ومحاكمته هو وأسرته وأركان حكمه.. 3 ومن أهم ما تحرر منه العقل المصري في أيام الثورة تصديق ألاعيب النظام؛ فالنظام المتهاوي المستبد أتقن لعبة تخويف الشعب؛ فهناك لعبة الفتنة الطائفية؛ التي جعل بها الأقباط يعيشون في ذعر وفزع وخوف من المسلمين الذين يترصدون لهم، ويريدون التخلص منهم، بينما جعل المسلمين ينظرون بكل ريبة إلى الأقباط الذين يجمعون السلاح في الكنائس لينقضوا على المسلمين، وازداد الاحتقان، وحملت القلوب العداوة والبغضاء أو الشك والريبة على أقل تقدير؛ فلما قامت الثورة، وتفرغت الشرطة لقتل الشعب، ونهب الأموال والمحال وفتح السجون بقيت الشوارع بغير حراسة وتأمين ومع ذلك لم تحدث حادثة طائفية واحدة، وبقيت الكنائس في أمان فعرف المسيحيون قبل المسلمين أن النظام الفاسد هو الذي كان يشعل تلك الفتن متعمدًا؛، وقد ذكر هذه الحقيقة لي شاب مسيحي من متظاهري ميدان التحرير؛ إذ قال لي: إننا –يعني المسيحيين- علمنا أن النظام هو الذي كان يصنع الفتنة الطائفية ليمنع مثل هذا التجمع العظيم أن يحدث.. 4 وكذلك تحرر العقل المصري من الوهم الذي زرعه فيه النظام بأن الحكومة والنظام الحاكم هما مصدر الاستقرار؛ فقد وقف الشباب والرجال والشيوخ بل والأطفال لحماية شوارعهم ومناطقهم من النظام ورجال شرطته المجرمين الذين هاجموا الأحياء يقتلون ويسرقون ويروعون الآمنين، وقُبِض عليهم متلبسين في أماكن كثيرة. واكتشف الشعب أنه ليس سيئًا كما صور له النظام. ليس كل الشعب ولا غالبيته من المجرمين، بل هم أناس صالحون أفسدهم النظام وإعلامه، ومن لم يستطيعوا إفساده جعلوه سلبيًّا.. ليس الشعب مجموعة من السارقين والقاتلين والمدمنين.. إنه الوهم الكاذب الذي صوره لنا النظام.. لقد اكتشف الشعب أفضل ما فيه من فضائل؛ حتى من كانوا حتى الأمس مدمنين، وعاطلين وبلطجية تحولوا إلى عوامل أمان عندما انقلب النظام وشرطته على الشعب.. وقف الجيران متآزرين بعدما كانت قياسات الرأي تشير إلى تدني وضعف بل وسوء علاقات الجيرة في المجتمع المصري. تعاونوا مع بعضهم في توفير الاحتياجات الأساسية، وفي توفير الأمان بكل السبل.. لقد أدرك الشعب أنه يملك قوى عظيمة لكن النظام هو الذي كبتها من أجل أن يضمن سلامته؛ فنظام فاسد سارق لا يريد أن يعرف الشعب قدراته حتى لا يثور على الظلم والطغيان. إن كان النظام قد بث فينا اليأس سنين طوالاً فقد عرفنا الآن معنى الأمل، والحمد لله. 5 لقد تحرر العقل المصري من أكاذيب وأحاديث إفك كثيرة منها دعاوى النظام الكاذبة عندما وقفت أميركا وأوربا ضده بعد الثورة، وقد انتهى دوره بالنسبة إليهم فسمعنا النظام وأبواقه يحدثوننا عن رفضهم للتدخل الخارجي في شؤوننا وأخذوا يجعجعون بدعاوى الوطنية. يقولون ذلك وكأننا لم نعلم أن أميركا وإسرائيل هما اللتان كانتا تسيِّران نظام الحكم في مصر، وأن مبارك ....ونظامه كانا مخلب القط للقوى المعادية لمصر، وأنه ما من قرار كان يُتخذ في مصر إلا كان لمصلحة النظام أو الفاسد أو لمصلحة لإسرائيل أو أميركا أو مصلحة مشتركة للعناصر الثلاثة، وما صفقة الغاز منا ببعيد، وما اتفاقية الكويز منا ببعيد، وما تصدير الأسمنت لإسرائيل لبناء الجدار العازل منا ببعيد، وما حصار غزة وقتل شعبها منا ببعيد، وما المساعدات الأميركية منا ببعيد، وما تزوير الانتخابات منا ببعيد، وما إبعاد (المشير أبو غزالة) منا ببعيد، ، وما إضعاف دور مصر أفريقيًّا وعربيًّا وإسلاميًّا منا ببعيد، وما التواطؤ مع انفصال جنوب السودان منا ببعيد، لقد كانت هذه وغيرها قرارات ومشاريع ضد مصلحة الشعب المصري بشكل مباشر، وسببت الكثير من الخراب، واستنفاد ثروات مصر، ولكنها كانت لمصلحة إسرائيل وأميركا والنظام. ففيم الحديث إذن عن رفض التدخل الخارجي؟!! أفعندما اختلف اللصوص ظهرت الحقائق؟! أم أن النظام يتوق للعب دور الشريف الحر؟! إنه دور لا يليق عليه في الحقيقة؛ فهو نظام أدمن الخيانة وتخريب البلد وتدميرها. ولكن العقل المصري تحرر، وأيقن أن النظام كاذب، وأنه عميل لكل هؤلاء، ولكنه عميل محروق تخلى عنه سادته الذين أطلقوه على الشعب المصري فأخذ ينبح عليهم في محاولة أخيرة ليحافظوا عليه، ولو وافقوا فسنجد المديح ينهال من الرئيس المعزول وأركان حكمه على أميركا ودورها المحوري كحليف وصديق للنظام؛ فهذه هي عادتهم.. 6 آخر ما أتناوله من مظاهر تحرير العقل المصري –وهي كثيرة في الحقيقة- انكشاف الطابور الخامس الطويل من المنافقين الذين تربوا في أحضان النظام، وغرفوا من أموال الشعب بدون وجه حق، وكانوا أبواقًا للنظام دائمًا؛ فهذا صف طويل من الإعلاميين في الصحف القومية كلها، والقنوات الحكومية، ، بل والقنوات المصرية الخاصة التي يرأسها رجال أعمال أَثْرَوا من جرَّاء تعاونهم مع النظام؛ فقنوات التوك شو ومذيعوها الذين كانوا يتظاهرون كذبًا بأنهم نبض الشارع المصري عملوا بكل طاقته خلال الثورة على دعم النظام الفاسد، وتمادوا إلى تشويه الثورة والشعب القائم بها، وتباروا في الكذب والتعمية والاتهامات الباطلة والتزييف والتلفيق. وعندما بدأ النظام يركع وجه إليهم التعليمات بتغيير الموجة؛ فتحولت دفة ذلك الإعلام الفاسد 180 درجة ليصبح الثوار هم خيرة شباب مصر، وتلك ثورة شعبية طاهرة وشريفة، ولكنهم يخشون منر كوب قوى أخرى لموجة الثورة على آخر ذلك الكلام الباطل، ويمكنكم متابعة الأهرام والأخبار والجمهورية وقنوات النيل والتليفزيون المصري ودريم والمحور والحياة؛ لنرى بجاحة الكذب والتدليس والنفاق التي لا تتأتى إلا من ...ز فقدوا الدين والحياء والأخلاق والانتماء للوطن.. لقد أثبت الفنانون (ممثلون ومغنون) أنهم في غالبيتهم أعداء للشعب؛ فهم في وقت قوة النظام يفسدون الشعب، ويدمرون شبابه، ويشوهون صورته، وفي حالة الثورة يساندون النظام الطاغي، إلا قليلاً منهم له مبادئ –حتى لو اختلفنا معهم فيما يقدمونه، أو في أفكارهم السياسية-، أما الغالبية العظمى فقد سقطت، أو هي استمرت في السقوط حتى طالبت إحداهن بحرق المتظاهرين أو ضربهم بالقنابل النووية!! وأنا على يقين بأنه عند تمام نجاح الثورة إن شاء الله سنجد أن دور الفن والمخلصين من الفنانين سيكون بنَّاءً في المجتمع، وسيتخلص من سلبياته، وسيصبح أداة لتقويم الشباب والأطفال. وعندما تسأل: أين لاعبو الكرة الذي كانت الجماهير تصفق لهم، وتمنحهم الأموال الغزيرة من جيوبهم؟ لا تجد أحدًا؛ فهؤلاء أعضاء المنتخب الوطني يريدون الحفاظ على الأموال التي يأخذونها، منها أموال الأوسمة التي حصلوا عليها ثلاث مرات، بل وقف مدربهم الذي طالما صفقت له الجماهير- وقف مع الطاغية، وسار في مظاهراته.. لابد من وقفة مع هؤلاء الذين علم الشباب أنهم لا يمثلونه، ولا يشاركونه حلمه، بل إن حلمه ضد أحلامهم فيما يبدو، ولا نستثني إلا أسماء قليلة من اللاعبين الحاليين، والقدامى.. وأخيرًا إنها ملحمة حقيقية صنها الشباب المخلص لوطنه، ومن رونقها انكشف الفاسدون، وفي ضوئها ظهرت الحقائق وتحرر العقل المصري من كل الأوهام والأكاذيب والتلفيقات التي جثمت على صدره طوال عقود طويلة فأرهقته واستنزفت قواه، ولكن جاءت الثورة لتُظهر الحق وتزهق الباطل؛ إن الباطل كان زهوقًا..