عندما تسير فى قرية مرمدة بنى سلامة اليوم، فإنك لن تشعر بما كانت عليه هذه القرية الحضارية الرائدة منذ أكثر من سبعة آلاف سنة. فقد كانت مرمدة ذات تقدم مذهل شمل عددا كبيرا من مناحى الحياة المبكرة. وبقيام حضارة مرمدة الحجرية الحديثة (أو «النيوليثية») بزغت فكرة الاستقرار لدى المصرى القديم وتحول من جامع للطعام إلى منتج له ومن حياة الجمع والالتقاط إلى حياة الزراعة والاستقرار. ويعتبر العصر الحجرى الحديث (أو «النيوليثى») عصر معرفة الإنسان المصرى لحرفة الزراعة ونشأة حياة الاستقرار وتربية واستئناس الحيوان وحرف أخرى عديدة مرتبطة وقائمة على الزراعة والاستقرار. وكذلك لن يدور بخلد أحد تصور وجود حياة حافلة بها عدد كبير من الأنشطة الزراعية فى دلتا النيل آنذاك. وأيضا لن يجد أحد شيئا من آثار هذه القرية ظاهرا للعيان مما قد يشير إلى قيام حضارة مهمة من حضارات مصر فى هذا المكان البعيد. وكانت هذه القرية خطوة لازمة فى تطور مصر وبداية دخولها إلى فضاءات العصر التاريخى والاقتراب من ثقافة التدوين وآفاق الكتابة. فما قصة هذه القرية باختصار؟ وما تاريخها الحضارى المتميز دون إسهاب؟ تقع قرية مرمدة بنى سلامة فى جنوب غرب الدلتا المصرية وتبعد حوالى خمسين كيلو مترا إلى الشمال الغربى من مدينة القاهرة. وبلغت مساحتها ما يزيد عن ستين فدانا، ولم تحفر القرية أثريا ككل. وكان من أبرز سمات أهل مرمدة الجماعية أن شعروا بالحاجة الملحة إلى وجود قوة يلتفون حولها توجه شئونهم وتسير أمور حياتهم وتحميهم من غارات القرى المجاورة، فتخيروا أحد رجالهم الأقوياء وجعلوه «الزعيم» عليهم. وكان الزعيم ذا رأى صائب حين أشار عليهم بأنه لابد من تخطيط قريتهم على هيئة شارع طويل يبلغ نحو ثمانين مترا وأن يشيدوا بيوتهم على جانبيه بحيث يصعب على أحد مهاجمتها كما يمكنهم جميعا أن يدافعوا عن القرية إذا هوجمت. وكانت بيوت أهل مرمدة الصغيرة (حوالى من متر إلى مترين عرضا ومن متر ونصف المتر إلى ثلاثة أمتار طولا) ذات هيئة بيضاوية ومبنية من الطين والبوص وأفرع الأشجار. وكان أهل مرمدة يستيقظون عادة فى الصباح الباكر قبل شروق الشمس، كل يذهب إلى ممارسة حرفته التى أتقنها واختارها وسيلة لكسب قوته وقوت أسرته الصغيرة؛ فصياد السمك يذهب إلى المجارى المائية والمستنقعات القريبة ليصطاد الأسماك المرمدية المميزة؛ وصياد الطيور والحيوانات يخرج إلى الأحراش والوديان والغابات لينصب فخاخه وشراكه حتى يصيد أكبر عدد من الطيور المائية والحيوانات الأليفة التى تصلح للتربية فى منازل القرية أو للذبح والطعام؛ والفلاح ينطلق مسرعا إلى حقله يجر وراءه حيواناته التى رباها فى منزله كى ترعى فى الحقول وتساعده فى عملية الزراعة بداية من غرس الحبوب وحتى تذرية الحبوب عندما يحين وقت حصادها. واقترح الزعيم عليهم أيضا أن يخزنوا غلالهم فى حفر بين منازلهم وأن يكون لكل منزل مخزنه الخاص به حتى يسهل على أصحابه استخدامه ومراقبته والدفاع عنه. وتقليدا لما سبق، فضل المرمديون دفن موتاهم بين مساكنهم حتى يشاركوا الأحياء طعامهم وشرابهم الدنيوى. ووُجد من آثار مرمدة ما يدل على بداية تطور الفن المصرى القديم فى ذلك الزمن البعيد. فأخرجت لنا الحفائر من مرمدة قطعا صغيرة من الطمى المحروق شكل بعضها على هيئة جذع أنثى ترتدى قلادة وقدم بشرية ونموذج لقارب ربما يشبه قاربا أصليا كان مصنوعا من حزم البردى. ولعل من أبرز تلك النماذج الفنية رفيعة المستوى، ذلك الرأس الذى يعتقد أنه لمعبود أو أنه ربما كان لزعيم القرية الذى تحدثنا عنه سابقا، وهو عبارة عن رأس بيضاوى، من طمى أحمر محروق، وقد يكون أقدم تمثال جاء من مصر وربما من أفريقيا قاطبة. وكذلك مارس أهل مرمدة صناعة الفخار والأدوات الحجرية ورءوس القتال الحجرية الكمثرية الشكل وغيرها.