متحدث الحكومة: المرحلة العاجلة من تطوير جزيرة الوراق تشمل تنفيذ 50 برجا سكنيا    أسعار البصل الأحمر اليوم الثلاثاء 7 مايو 2024 في سوق العبور    مسئول فلسطيني: حالة نزوح كبيرة للمدنيين بعد سيطرة الاحتلال على معبر رفح    بتسديدة صاروخية.. عمر كمال يفتتح أهدافه بقميص الأهلي    "جلب السيطرة والقيادة والقوة لنا".. سام مرسي يحصد جائزة أفضل لاعب في إبسويتش    عاجل| أول تعليق لشقيق ضحية عصام صاصا: "أخويا اتمسح به الأسفلت"    إليسا تحتفل بطرح ألبومها الجديد بعد عدد من التأجيلات: الألبوم يخص كل معجب أنتظره بصبر    البورصات الخليجية تغلق على تراجع شبه جماعي مع تصاعد التوتر بالشرق الأوسط    وفد النادي الدولي للإعلام الرياضي يزور معهد الصحافة والعلوم الإخبارية في تونس    رئيس جامعة المنوفية يهنئ الأقباط بعيد القيامة المجيد    إصابة 4 أشخاص في حادث سقوط سيارة داخل ترعة في قنا    رئيس وزراء فرنسا يعرب مجددًا عن "قلق" بلاده إزاء الهجوم الإسرائيلي على رفح    جامعة القاهرة تعلن انطلاق فعاليات مهرجان المسرح الجامعي للعروض الطويلة    خالد الجندي يوضح مفهوم الحكمة من القرآن الكريم (فيديو)    محافظ أسوان: تقديم الرعاية العلاجية ل 1140 مواطنا بنصر النوبة    وزير الدفاع يلتقى قائد القيادة المركزية الأمريكية    خطة الزمالك لتأمين شبابه من «كباري» الأهلي (خاص)    مواعيد منافسات دور ال32 لدوري مراكز الشباب    «مهرجان التذوق».. مسابقة للطهي بين شيفات «الحلو والحادق» في الإسكندرية    كيف يمكنك ترشيد استهلاك المياه في المنزل؟.. 8 نصائح ضرورية احرص عليها    نائب رئيس جامعة الأزهر السابق: تعليم وتعلم اللغات أمر شرعي    «الأعلى للطرق الصوفية» يدين هجمات الاحتلال الإسرائيلي على رفح الفلسطينية    محافظ قنا يفتتح عددا من الوحدات الطبية بقرى الرواتب والحسينات وبخانس بأبوتشت    وضع حجر أساس شاطئ النادي البحري لهيئة النيابة الإدارية ببيانكي غرب الإسكندرية    انطلاق فعاليات المؤتمر الدولي الخامس لتحلية المياه بشرم الشيخ    وزير الصحة يؤكد أهمية نشر فكر الجودة وصقل مهارات العاملين بالمجال    وائل كفوري ونوال الزغبي يحييان حفلًا غنائيًا بأمريكا في هذا الموعد (تفاصيل)    سب والدته.. المشدد 10 سنوات للمتهم بقتل شقيقه في القليوبية    الرئاسة الفلسطينية تحمل واشنطن تبعات الاجتياح الإسرائيلي لرفح    بدء تطبيق نظام رقمنة أعمال شهادات الإيداع الدولية «GDR»    9 أيام إجازة متواصلة.. موعد عيد الأضحى 2024    وزير الدفاع البريطاني يطلع البرلمان على الهجوم السيبراني على قاعدة بيانات أفراد القوات المسلحة    للأمهات.. أخطاء تجنبي فعلها إذا تعرض طفلك لحروق الجلد    انطلاق الأعمال التحضيرية للدورة ال32 من اللجنة العليا المشتركة المصرية الأردنية    ضبط متهم بالاستيلاء على بيانات بطاقات الدفع الإلكتروني الخاصة بأهالي المنيا    الأمم المتحدة: العمليات العسكرية المكثفة ستجلب مزيدا من الموت واليأس ل 700 ألف امرأة وفتاة في رفح    حفل met gala 2024..نجمة في موقف محرج بسبب فستان الساعة الرملية (فيديو)    9 عروض مسرحية مجانية لقصور الثقافة بالغربية والبحيرة    المشاكل بيونايتد كبيرة.. تن هاج يعلق على مستوى فريقه بعد الهزيمة القاسية بالدوري    3 ظواهر جوية تضرب البلاد.. الأرصاد تكشف حالة الطقس على المحافظات    نصائح مهمة لطلاب ثانوي قبل دخول الامتحان.. «التابلت مش هيفصل أبدا»    الضرائب: تخفيض الحد الأدنى لقيمة الفاتورة الإلكترونية ل25 ألف جنيه بدءًا من أغسطس المقبل    75 رغبة لطلاب الثانوية العامة.. هل يتغير عدد الرغبات بتنسيق الجامعات 2024؟    بحضور مجلس النقابة.. محمود بدر يعلن تخوفه من أي تعديلات بقانون الصحفيين    بكتيريا وتسمم ونزلة معوية حادة.. «الصحة» تحذر من أضرار الفسيخ والرنجة وتوجه رسالة مهمة للمواطنين (تفاصيل)    عادات وتقاليد.. أهل الطفلة جانيت يكشفون سر طباعة صورتها على تيشرتات (فيديو)    الجدول الزمني لانتخابات مجالس إدارات وعموميات الصحف القومية    اقوى رد من محمود الهواري على منكرين وجود الله    إيرادات «السرب» تتجاوز 16 مليون جنيه خلال 6 أيام في دور العرض    المتحف القومي للحضارة يحتفل بعيد شم النسيم ضمن مبادرة «طبلية مصر»    تفاصيل نارية.. تدخل الكبار لحل أزمة أفشة ومارسيل كولر    كيفية صلاة الصبح لمن فاته الفجر وحكم أدائها بعد شروق الشمس    عبد الجليل: استمرارية الانتصارات مهمة للزمالك في الموسم الحالي    زعيم المعارضة الإسرائيلي: على نتنياهو إنجاز صفقة التبادل.. وسأضمن له منع انهيار حكومته    أجمل دعاء تبدأ به يومك .. واظب عليه قبل مغادرة المنزل    هجوم ناري من الزمالك ضد التحكيم بسبب مباراة سموحة    اللواء سيد الجابري: مصر مستمرة في تقديم كل أوجه الدعم الممكنة للفلسطينيين    رغم إنشاء مدينة السيسي والاحتفالات باتحاد القبائل… تجديد حبس أهالي سيناء المطالبين بحق العودة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواية (النبطى) ليوسف زيدان.. هكذا تكلمت مارية
نشر في الشروق الجديد يوم 07 - 01 - 2011

فى رواية «النبطى» الصادرة حديثا عن «دار الشروق» يحملنا يوسف زيدان فى رحلة جديدة إلى التاريخ، مؤكدا أن هذا هو اختياره الروائى وهو اختيار صعب من ناحية، لكنه من ناحية أخرى مرآة لخبرة زيدان الطويلة مع النصوص التراثية المصرية والعربية. فهو وبحنكة محترف قادر على التنقل الدرامى بين ألغام منطقته الأثيرة تلك، دون أن يطال أى منها حذاءه اللامع.
يصدر يوسف زيدان روايته بمقولة تحرم أن يكتب الإنسان ما وصل إليه شفاهة، ثم يؤكد فى الصفحة التالية أن كل ما سنقرؤه مكتوبا هنا، ليس إلا رواية شفهية وصلته عن الخالة «مارية» القبطية التى تزوجت نبطيا فى بدايات القرن السابع الميلادى. وبالتالى، فلن يكون هو، وإنما بطلته هى المسئولة عن كل ما يرد بعد تلك الصفحة.
هذه حيلة روائية تخفف على الكاتب عبء المقارنة بين نصه والنصوص التاريخية، وتبعث القارئ على التخيل المفرط قبل أن يمضى فى تتبع النميمة، ليطلع على ذلك السر الذى يكشف له لأول مرة. ويبدو أن هذا لا ينطبق على «رواية مارية» بقدر ما ينطبق على تصور زيدان للفن الروائى. فالحدث الروائى عنده هو حدث تاريخى غالبا ما يكون مسكوتا عنه، يغلفه بحكاية تعطى للتاريخ معنى إنسانيا يختلف عما نقرؤه عادة.
الأمر الآخر الذى يؤكد عليه قبل القراءة أن نهايات تلك الرواية قد وقعت قبل بدايتها بقرون. وعندما نقرأ الرواية نجدها تنتهى بعودة البطلة المصرية من أرض الأنباط إلى أرضها الأم «مسلمة هذه المرة، فربما كان يريد أن يقول هنا إن فتح الإسلام لمصر، أو بلفظ آخر: سيطرة العرب على المنطقة كلها، هو أمر يرتب التاريخ له من قبله بقرون.
هذا هو الدرس التاريخى الذى يهيمن على خلفية الرواية التى تنقسم إلى ثلاثة مقاطع يطلق المؤلف على كل منها اسم الحيوة. والحيوة اسم مرة يندر استخدامه فى اللغة العربية الحديثة، بينما يستعيده زيدان هنا، مؤكدا أن كل مرحلة عاشتها بطلته، تكفى بذاتها كحياة كاملة. ويشير بذلك منذ اللحظة الأولى إلى اختياره اللغوى المائل إلى وضع لفظ معاصر فى قالب قديم. وهى حيلة أسلوبية شديدة الجاذبية.
فى الحيوة الأولى تطلعنا مارية على أيامها الأخيرة فى بيت أمها فى إحدى قرى الدلتا المصرية، مستعيدة مع السطور حكايات نشأتها وصباها، ومشيرة إلى الخلفية التاريخية لتلك الحيوة كمستمعة أو شاهدة بريئة على حوار مثقفين يدور أمامها.
تحكى مارية عن توابع المجامع المسكونية على دلتا مصر فى القرن السابع الميلادى، وتجسُّد ذلك فى العلاقات بين قريتين متجاورتين أو داخل كل قرية على حدة، وتتناول تأثير التنازع بين فلول الفرس وسيوف الروم على حكم مصر. ربما يبدو مدهشا هنا أن تحكى مارية عن تلك الأحداث الجسام، وهى الفقيرة بنت خادمة جابى الضرائب، والتى منعتها أمها حتى من الذهاب إلى الكنيسة حتى تنتظر الزوج، ففقدت أي فرصة للتعلم. غير أن زيدان بتركيبه لشخصية مارية من ناحية وتذويبه لجفاف التاريخى من ناحية أخرى استطاع التغلب على تلك العقبة السردية الكئود. لقد نجح غير مرة، مستخدما الذكاء الفطرى الذى وضعه فى شخصية «مارية»، فى أن يحكى أعقد الأمور الكنسية على لسانها، كما أعطى لها من إمكانات التطور عبر الرحلة التى مرت بها فى حيواتها الثلاث ما يسمح لها بالنقاش الدينى الفلسفى، وتأثير الإسلام على المنطقة فى بدايات الفتح، بل وفى قرض الشعر بأحد معانيه.
يأتى الخاطب إذن لمارية لينطلق حكيها لحكايتها. الخاطب تاجر من الأنباط، وهم قوم يسكنون الخط الفاصل بين قلب الجزيرة العربية جنوبا والشام شمالا، ويمتد من شمال العراق شرقا إلى شبه جزيرة سيناء غربا. والأنباط عرب، يتعالى عليهم العرب. ويرون هم أنهم أصل العروبة، وأول من كتب لغتها، بل إنهم فخورون بتشييدهم لمعابد شاركهم فيها من الفراعنة أبناؤهم المتأخرون. التاجر النبطى فشل فى زيجتين من عربيتين لأنه كما سنعرف من الأحداث غير قادر على الإنجاب. كما أن فى عينيه حَوَلا لا يجعل منه أنسب خاطبى مارية كأنثى ترى نفسها فى أوج الشباب والجمال، وهى الظاهرة التى تتكرر ربما إلى اليوم فى خط الدلتا الشرقى بالأساس. على أي حال ترضى مارية، كما رضيت من بعدها الكثيرات، لأن سلامة هو الخاطب الوحيد الذى دق باب بيتهم الفقير ذى الجدار الواحد!
تخرج مارية مع زوجها من حيوتها الأولى مخلفة وراءها جزع أهلها من هجوم الفرس بأفيالهم خارجين من مصر، وهجوم جنود هرقل ببأسهم داخلين إليها. وتنتقل إلى حيوتها الثانية فى صحراء سيناء وبين جبالها وبحرها وكنائسها ومعابدها، فنبدأ عبر اندهاش مارية بذلك وما سيأتى وراءه بطول الرواية فى تتبع مقارنة تفصيلية بين الأراضى والصحراوات والأماكن التاريخية، الطبيعى منها أوالذى شيدته الحضارات القديمة. قارنت مارية بين البشر والشجر والوبر بكل ما يعنيه ذلك، طيور كل منطقة، نباتاتها قلت أو كثرت، الألوان السائدة فيها، طبيعة حزن أهلها صوتا وصورة، طبيعة فرحهم صوتا وصورة، مأكلهم ومشربهم.. وغير ذلك الكثير الذى يفصح عن ولع بذلك الصنف من الرواية أتقن زيدان بناءه واللعب فى أهم مكوناته.. وهو فى تلك المقارنة لا ينتصر لطرف على طرف، بقدر ما يكشف عن عادات متأصلة فى كل جانب منها ما زال بعضها باقيا إلى الآن رغم تغير الثقافات.
أول من تتعرف عليهم مارية من أهلها الجدد ورفاق رحلتها، التى هى حيوتها الثانية، إخوة زوجها: الكبير يدعى الهودى، وهى صفة يطلقها العرب على من يؤمن بالديانة اليهودية دون أن تكون له أم يهودية، وابنه الصغير عميرو عين مارية ولصّها الذى يقدم لها ولنا على طبق من فضة كل ما تحتاجه من معلومات خلال رحلتها. لكن الأهم من الاثنين كان «النبطى» ذلك الرجل اللغز الذى بلغت به القوة فى الرواية أنها حملت اسمه دون أن يكون بطلها. النبطى ليس مسيحيا كأخيه سلامة أو يهوديا كأخيه الأكبر، إنه وبالفم الملىء نبى. «النبطى» كان ينتظر وحيا من السماء، وهو ما بدا معتادا فى الجزيرة فى ذلك الحين. كان العرب قد بلغوا من القوة واكتناز الثروة ما يؤشر بموعد قدوم النبى الذى سيقدم الوجه الثقافى الروحى لسيطرتهم على المنطقة. ومن ثم حلم العديد من شباب الجزيرة وقبائلها بنيل ذلك الشرف، حتى جاء النبى محمد ليضع القول الفصل.
كان النبطى إذن «نبيا» بالمعنى الروائى، يجمع بالإضافة إلى البلاغة التسامح المحض، واليقين الذى لا يواتى إلا من عرف حقيقة لم يطلع عليها سواه. وقد تكونت قناعته الحنفية من إيمان يجمع بين عقيدة وثنيى الجزيرة ممن كانوا يعبدون اللات ومنهم أمه، وخليط من فهم خاص للديانتين الإبراهيميتين القديمتين. وهو ما عزز من هيام مارية به. وهو أيضا ما أعطاه بعدا أسطوريا، اكتمل باعتزاله أهله، وبقائه فى نهاية الرواية وحده فى أرض أجداده، بينما تركها الجميع فى موكب استطلاعى يسبق المسلمين الفاتحين إلى مصر، ويتكون أساسا من بعض اليهود الذين طردهم النبى من المدينة، والأنباط ومنهم سلومة زوج مارية الذين يربون الخيل التى يركبها فرسان المسلمين.
النبطى بالفعل شخصية روائية محيرة، هو يشبه بشكل ما «هيبا» فى رواية «عزازيل» برومانسيته وتفلسفه وكراهيته للعنف وحبه للطبيعة وسؤاله الدائم وهدوئه العميق، لكنه يختلف عنه فى أنه منصرف عن الأنثى، أو على الأقل لا تستطيع مارية أن ترينا منه ذلك الجانب. وظنى أن زيدان بنى هذه الشخصية ليعكس عليها أمرين يمثلان تعريفه لفن الرواية التاريخية، فالنبطى من ناحية شاهد على تاريخ العرب وفصاحتهم، وديانتهم، وهو دليل النقاش التاريخى العربى الدائر حول النبوة فى ذلك العصر، والذى يقدم نوعا من التحليل الخاص بالظاهرة الإسلامية فى مجملها نراه عند زيدان فى أكثر من موضع من هذه الرواية. و«النبطى» نفسه من ناحية أخرى هو مآل طموحات الأنوثة لدى مارية، تحلم به، وتفكر فيه.. تنتظر عودته، فيعود إليها بأكثر ما كانت تفتقده، وأعنى الطيب والمرآة، فيظل منذ الحين معقد أملها فى بحثها عن هويتها الثقافية والعاطفية والجنسية، دون أن تصرح له من قريب أو بعيد.
إن أكثر الظواهر إدهاشا لمارية فى حيوتها الثانية، أى الطريق من الدلتا إلى مستقرها فى شمال الجزيرة، هى الفروق بين أهلها وبين هؤلاء العرب، سواء أهل زوجها أو الذين تمر بهم أو يمرون بها. سنعرف عبر الرحلة أن مارية مرت بذلك الطريق وقت غليان رحلاته، فهى التقت فى طريقها، كشاهدة على الأحداث وليس مشاركا فيها بطبيعة الحال، بحاطب بن أبى بلتعة وعمرو بن العاص، وكان حاطب ساعتها من صحابة النبى ويحمل مارية القبطية هدية المقوقس إليه، كما أن عمروا كان يجهز نفسه ولم يكن أسلم بعد للعودة فى ذلك الطريق مرة أخرى على رأس جيش المسلمين. هى إذن تمر طول الوقت بأحداث جسام، وترصدها لنا، وقد اختار لها المؤلف زاوية الرؤية الأمثل، بوضعها على ذلك الطريق فى ذلك الوقت بالتحديد، ووصولها إلى تلك البقعة النبطية التى أصبحت موئل جزء كبير من اليهود مطاريد المدينة فى تلك المرحلة بالضبط.
وهنا يبدو الفارق الجوهرى بين روايتى زيدان «عزازيل» و«النبطى»، فى عزازيل كان «هيبا» صائغا للأحداث، ومحركا لجزء منها، لن ننسى أن نسطورا كان يريد أن يوسطه بينه وبين بطرك الإسكندرية فى حينه، ولن ننسى حواره مع «هيباتيا» عالمة الإسكندرية الجميلة المغدورة. بل ربما يكون هو نفسه هيبا الرهاوى الذى تذكره المصادر! أما «مارية» فهى محض فتاة فقيرة تمر على الأحداث أو تعبر بها الأحداث فتحكيها، وفقط لأنها تريد أن تحكى حكايتها الشخصية. هى تتكلم عن حاطب الصحابى الذى يسب زوجها بعيبه الأبرز أنه «أبخر» أى تفوح من فمه رائحة مقززة طول الوقت، فى إشارة إلى تحريم الإسلام للخمر، وربما قبل تحريمه للتنابذ بالألقاب. ولكنها ليست واعية بتلك الخلفية بحال، وربما لم تكن تعنيها فى حينه بقدر ما تعنى الكاتب صانع الحدث والشخصية معا. فيما كان «هيبا» عالما بالسر وراء كل شىء، وبدا كأنه يقدم فى بعض الأحيان بحثا لاهوتيا ضفره حينها الكاتب فى شخصيته باحتراف. لقد أتاح ذلك لمارية ومن ورائها كاتبها الذى أصبحت مهمته أكثر صعوبة أن ينتصر لما هو روائى على ما هو تاريخى، وبدا الأبرز فى الرواية قلق مارية تجاه نفسها، وتجاه تطورها، وتجاه أنوثتها.
تمضى مارية إذن إلى الحيوة الثالثة، وفيها تصل إلى دار زوجها، وتفاجأ بأن أهله لا يسكنون ديارا مثل تلك التى اعتادتها فى حيوتها الأولى فى مصر، بل يسكنون الخيام. فتهرب للسكنى بعيدا فى مكان يوحى بأنه معبد قديم منحوت فى الجبل على الطريقة التى اعتادتها فى معابد الفراعنة. فتحب ذلك وتطمئن هناك بعد قلق. تتعرف مارية على أهل الزوج، وتبدأ رحلة كراهيتها له، رغم أنه لا يحل بالمقام إلا ضيفا بحكم تجارته، فتتعلق أولا بأمه «أم البنين» المرأة التى يؤمن كل من أبنائها بدين يختلف عن دينها وعن دين الآخر. وهو نفسه الأمر الغريب على مارية التى ترى زوجها مسيحيا، وأحد إخوته هودى، والثانى نبى حنفى، وأمه وثنية تعبد اللات، وأخته فيما يبدو غير ذات دين أصلا، والأغرب أن أى صراع حقيقى لم ينشأ بين أى منهم بسبب اعتقاده. وهو خليط يكشف عن العمق التاريخى الذى تقع الظاهرة الإسلامية فى مقدمته، ويقدم بابا خلفيا لذلك التاريخ نقرأ منه عادات أهل ذلك الزمان، وكيف أثر الإسلام بالمحو والتثبيت فى كل منها، فى طريقه إلى توحيد العرب كمقدمة لفرض سيطرتهم على إمبراطورية بكاملها.
بمرور الوقت، يتغير الجميع، يتزوج الصغير، ويحضر الغائب، ويجتمع الأهل أو يتفرقون. هكذا فى كل أسرة عبر الزمان والمكان. وهكذا حدث فى أسرة «سلومة» وكل من ورائها. سيحتدم الصراع فى المنطقة، ويحتدم فى قلب مارية التى لا تصبح أما أبدا، فتظل طوال الوقت متورطة فى سؤال أنوثتها، وموزعة بين كراهيتها لزوجها، وحبها الصامت لأخيه، إلى أن تفاجأ بليلى، فتقع فى حبها، وتحب فيها النبطى، فتشعر بالطمأنينة. فى لمحة تبدو شديدة الغرابة على الجو التاريخى التى تدور فيه الرواية، وكأن زيدان يرصد عدم اكتراثها بذلك التاريخ، أو يعكس عليها صورة لذلك التاريخ الباحث عن هوية غابت عنه قبل أن ترتد إليه. وعندما ارتدت إليه هويته، كان قد تغير بما يكفيه ألا يتعرف إلى نفسه.
سيدخل «سلومة» الإسلام، ويستغل كون مارية مصرية ويقدم نفسه كعارف بحال أهل مصر، يمكن للمسلمين الاعتماد عليه، فيأتيه عمرو بن العاص للزيارة، فيلتقى الزوجان بالزوجين، وتظل مارية هكذا، يعبر التاريخ عليها دون أن تعيره أى انتباه إلا أنها تحكيه. يصبح الزوج رجلا صالحا ويكف عن شرب الخمر، فتختفى رائحته الكريهة، ويغرق زوجته بهدايا من ذهب يبدو أنه يلملمه من تحت سنابك الخيول التى يؤجرها للمسلمين الفاتحين.. وذلك قبل أن يفاجئها بأنها عائدة إلى موطنها مسلمة هذه المرة، وقبل أن يصحب ذلك بمفاجأة أكثر إدهاشا لها وهى رغبته فى الزواج من أخرى كما يحل له الإسلام أن يفعل. وهكذا حتى يظل جدل الأنوثة والتاريخ مقترنا لآخر سطر من رواية النبطى.
لقد أحكم يوسف زيدان بناء روايته، بمحتواها التاريخى المثير، وتطورها الدرامى الذى يجعل منها بامتياز رواية عمر (Coming of age)، ووضع كل ذلك فى قالب لغوى اختصته به خبرته بين النصوص التى عمل على تحقيقها، فكتب روايته بلغة تفيض بالكناية، وتحتفى بالصوت دون أن تتورط فى الإصاتة إلا نادرا. ولم يبد فيها من نتوء إلا موقع راويتها من الحدث، وهى التى لا نعرف أحيانا إن كانت تحكى من قلب الحدث، أم أن حكيها كله تال على انتهائه، وهو أم متروك للنقاش مع مؤلف الرواية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.