وحدها السينما الجميلة هى التى تستطيع أن تجعلك تعود فى أى وقت.. تعود إلى نفسك.. إلى مواصلة رحلتك فى الحياة التى ربما شتتت رياح أيامها مسارات العمر شبابه وخريفه أو حتى ربيعه الذى أثقلت هموم الدنيا من نبت زهوره. وحدها السينما الجميلة هى ما تستطيع أن تجعلك تبكى لتنفض دموع الوهن والضعف والسكينة والاستسلام.. وحدها هى المحرك لمشاعر التطهر، لأحاسيس الغفران، لنمو يقينى بذات تملؤها ثقة وسعادة وحرية وقدرة على الاختيار. كانت تلك السينما الجميلة على موعد معى فى مهرجان دبى السينمائى الدولى السابع الذى اتخذ من بين شعاراته «الجسر الثقافى» من خلال عرض أفلام تصور أنه يمكنها أن تذيب الفوارق بين البشر مهما تعددت ألوانهم وجنسياتهم وصراعاتهم وأن أقول إنها أفلام «الجسر الإنسانى» وهى التى تتخطى كل الحواجز لتعبر عن مشاعرك وتوجعك وتبهجك، فاجأتنى هذه الأفلام بأننى بطل لمعظم قصصها ومحور لحكاياتها.. صورة طبق الأصل من شخوصها على الشاشة. مهما اختلفت الرؤية من عمل إلى آخر، لكن الصورة على اتساعها عكست موقعى كإنسان وبادلتها همس وشجون ووعد بالاستفاقة وتحرير عقلى من الشعور بالشتات، وهى الرسالة الأولى التى بثها الفيلم اليابانى «الغابة النرويجية» الذى يعد بحق تحفة سينمائية غاية فى الواقعية، غاية فى الشاعرية، غاية فى الخيال.. حيث استطاع المخرج هونج تران المولود فى مدينة أشباح قتلى وجرحى الحرب بفيتنام أن يلملم كل متناقضات المشاعر داخل الفرد ويقدمها لك على بساط واحد يطير بك حيث تفضل أن تكون.. فنحن أمام طالب يدعى تورو واتانابى 19 عاما يعيش فى العاصمة طوكيو، حيث ينمو بينهما الحب عقب موت صديقهما الحميم على نحو مأساوى، حيث شنق نفسه، وهو ما ترك تأثيرا كبيرا على واتانابى، لم تفارقه ذكرى المشهد الأليم، كان واتانابى يعلم بارتباط صديقه الراحل عاطفيا بناوكو، وفى لحظة حب قوية بين ناوكو وواتانابى عندما سلمت له نفسها وسألها: لماذا لم تكن هذه اللحظة مع صديقنا الراحل؟ كان السؤال قاسيا وانهمر الاثنان فى البكاء فهى تشعر أنها كما لو فقدت جزءا من ذاتها إلى الأبد وهو يشعر أن صديقه مات لرفضها حبه، وبعد عدة مشاهد يستعرض فيها المخرج فى محاولة للتعبير عن نفسها ربما يتأثر بطل قصتنا بإحداها.. هناك المطر والثلوج، هناك تيارات هوائية، هناك نار تشتعل، هناك موجة ثائرة، موجة هادئة. سار بطلنا بين طبيعة الحياة، ليجد القدر يدفع أمامه «ميدروى» فتاة مرحة منطلقة لديها ثقة كبيرة فى نفسها اسمها وهو ما تفتقر له ناوكو فيحبها هى الأخرى ويجد نفسه فى مفترق طرق بين لحظة ماضية وأخرى حاضرة.. وبلقطات ولغة سينمائية شفافة تفوح برائحة العزف الموسيقى ونبض الكاميرا التى تمزج الأرض بالسماء والخريف بالربيع والشتاء بالصيف يواصل بطلنا السير فى شارع الحياة لكنه قد اختار وقرر مصيره بأى فتاة سيرتبط وهى قطعا الثانية من منحته حيوية وثقة وخلصته من شبح الماضى.. حرية الاختيار هى القيمة الكبرى هنا وقد جاء مشهد الغابة النرويجية على عظمته وكأنك أنت الذى تعيش وتحب وتردد وتحدد مصيرك. مخرج الفيلم كان مفاجأة كبرى لى رغم أننى سمعت عن نبوغه السينمائى ربما لحرماننا من مشاهدة السينما اليابانية عبر شاشات دور العرض وربما توليفة طبيعة نشأته وثقافته هما وراء تلك التوليفة السينمائية المدهشة فالولادة فى فيتنام، والجنسية فرنسية وفاز فيلمه الأول بجائزتين من مهرجان كان وفيلمه الآخر «آتى مع المطر» حقق نجاحا كبيرا، وبمناسبة هذا العنوان يبدو أن «المطر» هو ما يحمل كلمة السر.. السر لدى السينمائيين فى هذه الحقبة ليساعد إنسان العصر فى التطهر من روث الزمن القاسى، حيث ألقى المخرج السورى الكائن السينمائى الدافئ عبداللطيف عبدالحميد فى وجو هنا رائعته السينمائية الجديدة «مطر أيلول» وجعلك تشاهد العمل وبداخلك شعور بالجفاف فى انتظار هطول هذا المطر، ربما يتخلص خريف العمر من لحظات تيبسه. وكعادة المخرج السورى يمزج دائما بين تأثيرات سياسة الظلم والجشع والخوف والهلع وبين مشاعر الإنسان حتى فى أوج لحظات الحب. ربما هناك تساولات كثيرة فى ذهنه بحكم تأثره بفترة الخمسينيات والستينيات والسبعينيات وما شهدته المنطقة العربية. فالمشهد الأول كان لدمشق فى أربعينيات القرن الماضى لدى محمد عبدالكريم عازف البذق الذى يذهب فى السادسة صباح كل يوم ليعزف مقطوعة موسيقية بالزراعة ثم نرى بعدها من يقول هنا الإذاعة السورية ونحن نشاهد شابا يستمع إلى المقطوعة ثم ننتقل فى لحظة خاطفة إلى الحاضر لنرى الشاب نفسه أصبح أبا لأربعة شباب وصاحب متجر لبيع الفاكهة.. أصبح مسئولا عن تربية أولاده بعد رحيل زوجته ويعيش الأب قصة حب رائعة مع الخادمة الموجودة بالبيت، لكنه لم يستطع أن يصرح بها.. يتلاقيان فى السيارة عبر منطقة شاسعة يسودها جفاف، وكلما هانت اللحظة للتعبير عن المشاعر والاعتراف بالحب تظهر له مجموعة من البشر ذوو الرداء الأسود يمسك رئيسهم «طارق» دفتر حسابات وكأنه يحصى عليك لحظات حياتك وغير ذلك من الانخراط فى الحب، يريد ان تبقى أيامك كلها قلق وتوتر وخوف حتى من المجهول، وهو يوحى هنا عبر مشاهد خريفية الطبيعة ربما بالفساد وسطوة القوة فى مواجهة لحظات حرة المشاعر، حيث يرسم المخرج صورة درامية للعائلة التى تعيش فى سلام مع نفسها ويهوى جميع أفرادها الموسيقى، بل ويعزفون ويغنون لعبدالحليم وأم كلثوم وليلى مراد وكأنها حنين إلى الماضى رغم قسوته وتوتره وعدم استقراره، الماضى لدى عبداللطيف أجمل من الحاضر، فالماضى كانت ملامحه واضحة، بينما القادم لا ، غامض.. وتلك هى الحياة فى العاصمة السورية التى ناداها عبر الإذاعة (هنا دمشق).. حياة عبر عنها عبر مشاهد سوريالية ومؤثرات بصرية تخطت الإطار التقليدى لسينما عبداللطيف عبدالحميد، وعندما يشعر الجميع بالضجر، يهطل مطر أيلول ليبعث الأمل من جديد فى أوراق خريف العمر لبطلنا الذى قدم دوره باقتدار أيمن زيدان والخادمة والحبيبة سمر سامى، وكم شكل الثنائى أداء رفيعا، مطر أيلول منحنا حلا لانطلاق مشاعرنا وهو حل القدر فى مواجهة تضييق البشر من أرباب البيت الخناق حول رعاياهم، ليمنحنى فى النهاية الشعور بالوجود عندما يغرقنا المطر.. ذلك المطر المنعش للحياة أصبح نادرا.. خرجت من قاعة العرض وأنا أتمنى أن يهطل على مطر أيلول حتى ولو معظم شهور العام، قبل أن تذبل وردة الأيام تماما وتخنقنا حرارة الضجر من كل شىء. وبين الشتات والاستقرار واصلت صورة السينما السورية التعبير عن نفسها على شاشة مهرجان دبى السينمائى التى أفسحت مجالا خصبا لتيارات سينمائية عربية متجددة وقد يكون الفضل فى ذلك إلى السينمائى المخضرم الذكى مسعود أمر الله مدير المهرجان، صورة السينما السورية الأخرى جاءت عبر فيلم «دمشق مع حبى» ويبدو أن الحنين لدمشق مازال قائما ربما تمثل الأرض لدى السوريين كل الحياة حتى وان اختلفت الحكاية فى فيلمنا الجديد، فنحن هنا نرى قصة فتاة يهودية نشأت فى سوريا، حيث درست وشعرت بكيانها على هذه الأرض، نراها وهى على وشك الهجرة من دمشق للحاق بباقى أفراد أسرتها فى دراما، وفى المطار يكشف لها والدها سرا قديما عن حبيبها الذى ذهب ليحارب فى لبنان واعتقدت أنه توفى فى الحرب، الشعور بالحياة نبض من جديد لتقوم بإلغاء رحلتها وتعود لتبحث عن ذلك الحبيب فى صورة سينمائية رائعة هى عبارة عن تفتيش فى الماضى.. هنا رحلة البحث طويلة تجوب بين بشر وشوارع واحلام وأوهام مشاعر تموت وأخرى تولد.. هنا نكتشف وجها آخر للمدينة التى عاشتها ولم تعشها، ومن خلال لقاءاتها ببشر ينتمون لثقافات مختلفة تعيش اكتشاف نفسها على حقيقتها لأول مرة دون وضع أى اضافات أو نكهات، الفتاة التى ظل يناديها الكثيرون ب«اليهودية» تتمسك بأمل بقاء حبها حيا وبالفعل تعثر عليه وهو جليس على كرسى متحرك لتتسع الشاشة مع تنفسها شهيق الحياة بنهم، وأمام مشاعر متناقضة من الخيارات الصعبة.. هل تذهب لأههلها فى روما لتعيش حياة لم تعتدها، أم تبقى فى أرض الطفولة والشباب والحب.. لحظة استدعت فيها كل الذكريات الحلوة، كل الأماكن التى ارتبطت بها لنرى فى عينيها كل حنين الدنيا للبقاء.. وتمسكنا معها بالمكان الذى نرى بذور الولادة والنضج والشوك والورد.. نرى معنى الحياة فلماذا نهجرها، فلنعشها وتعيشنا. أحيانا أشعر بأن طفولتى كانت مشتتة بلا خيار واختيار، فكل شىء فرضه الزمن عليك.. كانت فترة تلقى أفكار وسلوك ومتاهات وأقدار مثل التى عاشها «ماجد» بطل الفيلم المغربى الذى يحمل نفس الاسم، ولكن الفرق بين طفولة ماجد وطفولتى، اننى عشت ومازلت بين دفء والدى بينما ماجد ظهر بدونهما، وظل يبحث عن صورة لهما طوال الوقت حتى يشعر بهما ويعرف ملامحهما الحقيقية بدلا من الصورة التى رسمها فى خياله. وعندما يعثر ماجد على الصورة تضيع منه، وكأن القدر المحتوم هو مصيره، فليعش كما هو، كما رسمت له الأيام خطاها، فى جدوى العثور على صورة للأب طالما الأصل غير موجود.. لكن قيمة فيلمنا ان المخرج نسيم عباس صال وجال من خلال رحلة الطفل ماجد بين أرجاء القرية بشتات ابنائها، والسلبية التى طغت على معظم سكانها وتعلم الطفل عبر الرحلة الخير والشر، الإيمان وعدم الإيمان، الصح والخطأ، الحب والكراهية، فماجد ابن العشر سنوات ولد فى قرية المحمدية يلمع الأحذية ويبيع السجائر مع زميله المشرد، فى حين يحلم أخوه الأكبر السفر للخارج، وينطلق الطفل فى رحلة حياتية محفوفة بالمخاطر إلى الدارالبيضاء بحث عن صورة لوالديه وبين أركان الرحلة المحبوكة دراميا عبر سيناريو لا يعرف الملل وصورة ناضجة بالمفاجآت وأداء تمثيلى يبشر بمستقبل واعد للطفل نتأكد انه مهما كان مهمًا ان تكون بخيالنا صورة جميلة للماضى، فإن الصورة الأكثر جمالا هى الواقع مهما آلمتنا النظرات. في مهرجان دبي السينمائي: صدام حسين يكشف كيف أصبح ديكتاتورًا!