أما نجيب محفوظ الأب والأستاذ والمعلم، فهو شديد التواضع، والبساطة، والرقة، والجمال. إذ لا يشعر قط أنه أعلى من غيره، ولا يضع نفسه فى موضع المعلم أو الأستاذ بالنسبة للآخر، فهو لا يتعامل مع أحد بصفته أقل منه، أو أصغر منه، أو أدنى منه، أو أشياء مثل هذه النواقص البشرية. وهنا أذكر شيئا نتعلمه من دراسة الفلسفة، باعتبارها محبة الحكمة، فالإنسان الحكيم حقا، لا يمكن أن يدعى الحكمة، إذ إن هذا الادعاء ذاته يناقض الحكمة. وكذلك ترى المعنى نفسه حين تتأمل فى حياة كبار المتصوفة، وحين تتذوق كلمات العارفين بالله حقا، إذ لا يمكن أن يتحدث ولى من أولياء الله الراسخين فى العلم، ويقول للناس إنه ولى من الأولياء. فهذه الدعوى ذاتها تتناقض مع رفعة مرتبة الولاية، ولذلك ترى أصحاب الكرامات من أولياء الله الصالحين، يتجاوزونها، ولا يتوقفون عندها أبدا، ويقولون: الكرامة حقا هى أن تُرزق جمال الاستقامة. ولا يمكن أن أنسى كلمات الأستاذ، حين طلب منه الصديق يوسف القعيد أن يتفضل ويكتب، أو يملى، مقدمة لمجموعتى القصصية الأولى: «عين العقل»، فقد بدأ كلمته التى أملاها على يوسف القعيد هكذا: «أرى أن ما قرأت لأخى زكى سالم...» من يصدق هذا؟! المؤلف الكبير العبقرى، الحاصل على جائزة نوبل فى الأدب، يتحدث عن كاتب شاب، وهو يقدم أولى مجموعاته القصصية، فيقول عنه ببساطة أخى، أى يرفعنى هكذا فجأة إلى مستواه، يا الله، إلى هذا الحد كان تواضعه، وسماحته، ورقيه الإنسانى الذى لا مزيد عليه. وثمة حوار مهم دار بيننا، جرى تقريبا فى عام 1980، بعدما أنهيت دراستى فى كلية التجارة، وأردت أن أحقق حلمى القديم، وهو حلم دراسة الفلسفة دراسة أكاديمية منظمة، فقلت للأستاذ ذلك، فإذا به يقول لى: إذا أردت أن تدرس فى كلية الآداب، فمن الأفضل أن تدرس «أدب عربى، أو أدب إنجليزى»، فأنت تكتب القصص، ومن ثم ستكون دراسة الأدب أفضل لك كثيرا من دراسة الفلسفة. أصابتنى لحظة من الذهول، وإذا بى أقول له: كيف؟ أننى أحلم منذ سنوات أن أدرس الفلسفة مثلك. فإذا به يقول: أنا أخطأت بدراسة الفلسفة. الأستاذ يعترف لى فجأة أنه أخطأ حين اختار قسم الفلسفة للدراسة! كيف أخطأت يا أستاذنا؟ قال إنه كان فى زمن أساتذة كبار من المفكرين، طه حسين، وعباس العقاد، وسلامة موسى، ومن ثم فقد تمنى أن يصبح مفكرا مثلهم، وبالتالى فالطريق الأقرب لذلك هو دراسة الفلسفة لا الأدب! قلت له: أتظن أن دراستك للأدب بدلا من الفلسفة، كانت ستكون أفضل لما قدمته من إبداع عظيم. فقال: لا أستطيع أن أجزم بذلك الآن، لكن من يهتم بالأدب يدرسه. فقلت: الأدب يسمح لنا أن نقرأه بطريقة حرة، وكذلك كتب النقد الأدبى، أما الفلسفة فهى بحاجة إلى دراسة أكاديمية منظمة. وهنا لابد أن أسجل نقطة من نقاط الخلاف القليلة، بينى وبين أستاذى العظيم نجيب محفوظ، حول أهمية الفلسفة للأدب. فأنا أراها شديدة الأهمية، إذ تتغلغل فى ثنايا الأدب العظيم، فتعطى قوة فكرية للعمل الأدبى، ومن ثم عمقا وخلودا. فالأديب العظيم فيما أرى لابد أن يكون صاحب رؤية متكاملة للحياة، وفلسفة متسقة، يتم التعبير عنها بطريقة أدبية، من خلال شعره أو قصصه أو رواياته، وكذلك كان نجيب محفوظ. لكن للأمانة لم يكن يتفق معى نجيب محفوظ فى ذلك، إذ يرى أن الفلسفة يمكن أن تدخل كعنصر ضمن عناصر أخرى كثيرة، تجتمع معا لتشكيل العمل الأدبى الجيد، فكنت أقول: حتى لو كان الأمر كذلك فعنصر الفلسفة هذا، يعد عنصرا مقدما على غيره من العناصر، فكان يصر على رفض هذه الأولوية التى أعطيها للفلسفة، إذ إن الفلسفة، أو الفكر بوجه عام يمثل عنصرا مثل أى عنصر آخر يتشكل منه العمل الأدبى.