فى ظل ضعف الإمكانات وندرة المجموعات البحثية، يسعى بعض العلماء للهجرة بحثا عن ظروف أفضل، فى حين يقرر آخرون العودة للوطن أملا فى إحداث تطور ما.. مبادرات متفرقة ويظل التغيير بطيئًا. مهاجرون أعينهم على الوطن قبل سنوات اتجهت هبة ونيس للدراسة فى جامعة أدنبرة باسكتلندا حتى حصلت على شهادة الماجستير فى الصحة العامة عام 2006، وبعد عودتها إلى مصر واستقرارها لعدة أعوام انتقلت مرة أخرى إلى خارج مصر، حيث تعمل الآن فى مدينة جنيف بسويسرا. فى المرتين كانت هناك أسباب وجيهة للسفر، ودائما ما كان الطموح والكفاءة أهم عوامل الانتقال خارج مصر، توضح هبة قائلة: «أنا صيدلانية تخرجت فى جامعة عين شمس، وحين أردت أن أتخصص فى دراسة الصحة العامة فوجئت بأن ذلك غير متاح لخريجى الصيدلة على عكس الجامعات فى الخارج، لذا لم يكن هناك مفر من السفر». اختارت هبة موضوع بحثها عن وضع الصحة العامة والدواء فى مصر بعد تطبيق اتفاقية «التربس»، وهى اتفاقية مختصة بحماية حقوق الملكية الفكرية، وأثارت جدلا حين توقع البعض أنها قد تؤثر فى منع إنتاج بدائل رخيصة للأدوية، وهو ما دفعها إلى دراسة تأثير ذلك على مصر. وحين عادت إلى مصر اتجهت للعمل لعدة سنوات فى برنامج الأممالمتحدة الإنمائى بالبرنامج الإقليمى للإيدز فى الدول العربية، لكن تخصصها الأصلى وجهها إلى جنيف حيث تعمل حاليا فى شبكة العالم الثالث وهى منظمة غير حكومية، ومن خلال وجودها هناك أصبحت أكثر قربا من تخصصها فى مجال الصحة. تعلق قائلة: «ليس معنى أن يكون تخصصك جديدا أو مهما أن تجد نفسك مضطرا إلى الهجرة إلى الغرب، كل تخصص جديد يمكن الاستفادة منه إذا ما كانت هناك نية للتطوير، وقتها ستشعر بأنك تصنع فارقا بالعلم الذى قضيت سنوات فى دراسته، لكن للأسف هناك شىء فى مصر يعرقل هذا تماما، خاصة مع ازدياد روح الأنانية والفردية على حساب تحقيق المنفعة العامة.. أقول هذا رغم أنى عملت مع شخصيات فى مصر أدين لها بالفضل الكبير فى حياتى». عدد ليس بالقليل من الكفاءات المصرية اتجه إلى الخارج بحثا عن التقدير وإمكانية الاستفادة من تخصصاتهم، وهو ما أسفر عن وجود أكثر من 450 ألف مصرى فى الولاياتالمتحدةالأمريكية ودول الاتحاد الأوروبى وكندا وأستراليا من «الكفاءات العلمية» حسب توصيف دراسة أصدرتها أكاديمية البحث العلمى قدرت خسائر مصر من نزيف العقول بما يجاوز 45 مليار دولار. بعض من يخوض تجربة السفر إلى الخارج بحثا عن العلم أو تطوير كفاءته يعود مرة أخرى إلى مصر مثلما اختارت هبة أن تعود باحثة عن فرصة لممارسة تخصصها البحثى، إلا أن المهاجر العائد أكثر جرأة على البحث عن هجرة جديدة، إذ يذكر تقرير «الهجرة العصرية للمصريين» الصادر عن وزارة القوى العاملة والهجرة أنه تزداد نية الهجرة لدى المهاجرين العائدين وخاصة بين النساء العائدات. ويشير التقرير إلى أن جميع المؤشرات تؤكد أن من خاضوا تجربة الهجرة الدولية هم الأكثر عرضة لخوض التجربة مرة أخرى أكثر من غيرهم. تقول هبة ونيس: «الكثير من أصدقائى خططوا للهجرة منذ سنوات لأنهم لا يرون مستقبلا فى مصر ويريدون لأولادهم بلدا أفضل، أنا ضد الهروب والسفر لغرض تغيير البلد وكأن كل المشاكل ستحل فى أى مكان آخر، لأننا هنا أيضا نواجه مشاكل ثقافية وعنصرية وغيرها». بعد تجربة السفر والإقامة فى بلدين أوروبيين هما اسكتلندا وسويسرا، رصدت هبة ما كانت تفتقده فى مصر، وتوضح ذلك: «ما ألاحظه هنا، خاصة بحكم نظرتى كشخص يعمل فى مجال التنمية أن البلاد الغربية تعمل على الاستثمار فى الموارد البشرية والتعليم لأنه أساس المستقبل، كذلك تعمل على توظيف العقول المميزة فى أماكنها السليمة وربط العلم باحتياجات المجتمع». تذكر موقفا تعرضت له أثناء إعدادها رسالة الماجستير حين واجهت قلة المعلومات عن الصناعات الدوائية فى مصر فطلبت من إحدى الجهات فى مصر بحثا لم تستطع فتح رابطه على الانترنت، فوجئت بهذا الرد «التقرير تمت إزالته لأسباب سياسية» تعلق على ذلك قائلة: «هناك مشكلة فى الوصول إلى المعلومات، خاصة حين تطلبها بنفسك فتثير الشكوك بطلبك، المفاجأة أن لى صديقا عزيزا أرسل إلى الأبحاث بعد ما شكيت له». الجذور مصرية والفرصة أمريكية تنتمى هبة إلى أحدث أجيال الهجرة إلى الخارج، سواء كانت هجرة مؤقتة أو دائمة، وتضع الدكتورة اعتماد علام أستاذ علم الاجتماع بكلية البنات فى جامعة عين شمس أسبابا رئيسية تدفع أصحاب الكفاءات إلى الهجرة خارج البلاد، وتلخص ذلك فى أن عدم وجود حركة فكرية واضحة تحتوى ذوى الكفاءات العلمية، يزيد من إحساسهم بالاغتراب والإحباط وعدم التقدير. وترصد فى ورقة بحثية تحت عنوان «الأبعاد الاجتماعية لهجرة الكفاءات العلمية المصرية للدول المتقدمة». تطور الخلفيات الاجتماعية لحركة هجرة الكفاءات العلمية فى مصر، إذ كانت الفترة بعد الثورة حتى عام 64 مشحونة بالوعى القومى إلى جانب توافر الكثير من القيود على السفر إلى الخارج عدا الإعارات المنظمة، وانتقالات محدودة من الرأسماليين الذين أحسوا بانعدام الأمان فى مصر الاشتراكية! لكن بعد هزيمة عام 67 وتراجع معدل النمو الاقتصادى من 6.5% إلى 2% واتجاه الأموال إلى المجهود الحربى زادت المعوقات التى تقف ضد تطوير مهارات أصحاب الكفاءات، خاصة مع غياب الفرص أمامهم، ونتيجة هذه التطورات تم إقرار الهجرة الدائمة والمؤقتة بشكل معلن فى دستور عام 71، وهو ما أثر بشكل واضح على معدلات الهجرة إلى الخارج. وتذكر الدراسة أن أرقام الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء رصدت أن 9% فقط كانوا يفضلون البقاء فى الخارج قبل عام 73، لكن النسبة ارتفعت بين عامى 73 و78 لتصل إلى 40% بقوا خارج مصر. هذه الفترة هى التى أنتجت عددا من الباحثين العالميين أمثال العالم أحمد زويل وفاروق الباز وغيرهما من العلماء الذين توجهوا إلى الولاياتالمتحدة فى نهاية الستينيات، وفى كتاب عصر العلم (دار الشروق، ط12، 2010)، يذكر العالم المصرى أحمد زويل أسباب شغفه بالدراسة فى أمريكا قائلا : «لم تكن الولاياتالمتحدة وقتذاك فى وضع يسمح لها بأن تكون صديقة حميمة لمصر،... ومع ذلك فقد عقدت العزم على أن أذهب إلى الولاياتالمتحدة وأستكمل دراستى فيها، لأننى أعرف أن أفضل الأبحاث فى مجال تخصصى كانت تجرى هناك». كذلك كان الدكتور زويل متعلقا بأساتذته الذين تصادف أن عددا كبيرا منهم طور مهاراته بسبب دراسته فى أمريكا، ولا يخفى أنه «فى ظل النكسة وشعور اليأس العارم والظروف الاقتصادية المضطربة والكئيبة قرر عدد كبير من خريجى الجامعات، مكرهين، الهجرة». سجل زويل فى ثنايا كتابه بعض المقارنات بين الجامعة التى عمل بها فى أمريكا ومناسبات حضرها فى مصر قبل حصوله على نوبل ولمس أثناءها عدم الانضباط. ورغم نجاح هذه الشخصيات وتحققها فى الخارج إلا أن إطلالتهم على بلادهم أحيانا ما تثير الشجن، كان أوضح مثال على ذلك مقال «جيل الفشل» الذى كتبه العالم المصرى فاروق الباز عام 2006 بجريدة الشرق الأوسط بادئا إياه بعبارة: «فشل جيلى فشلا ذريعا فى تحقيق آمال الشعب العربى». ويصف هذا الجيل بأنه «الذى تتلمذ بالمدارس والجامعات حتى أعلى المستويات فى الخمسينيات والستينيات»، داعيا إلى تأسيس جيل جديد مسلح بالثقة المتولدة عن العلم. إلى العالم المتقدم تعد مصر من أكثر الدول العربية التى تعانى من هجرة العقول والكفاءات، ويشير التقرير الإقليمى لهجرة العمل العربية لعام 2008 إلى أن مصر فى عقد التسعينيات كانت أكثر الدول العربية عرضة لاستنزاف عقولها وكفاءاتها، إذ كانت تمثل نسبة 22% من حجم هجرة العقول العربية فى العام 1990 مقارنة بنسبة 17.5% فى العام 2000، وأغلب هذه الكفاءات تتجه إلى دول العالم المتقدم فى أمريكا وأوروبا. هذه الملاحظة رصدتها هبة ونيس بحكم عملها فى منظمة مهتمة بالعالم النامى، ولاحظت أن هجرة الكفاءات ليست حكرا فقط على مصر أو العالم العربى، بل هو أمر يمتد إلى دول أخرى فى الظروف نفسها. ومن موقعها الحالى فى جنيف، لا تخفى حيرتها من المجتمع فى مصر الذى يواجهها بعدم تقبل هجرة الفتيات للعمل فى الخارج، لذا تتابع أخبار مصر بشكل دائم، وتشعر بقلق على التغييرات التى تطرأ على البلد، والتفكير فى مدى توافر وظائف مناسبة فى حالة العودة، وتعلق على ذلك: «أنا فى جنيف للعمل الآن، وأستطيع البقاء هنا لفترة طويلة أن أخترت ذلك، ومن الواضح أننى سأختار الاستقرار هنا، على الأقل فى هذه المرحلة من حياتى.