«على شاشتنا يرى الناس أنفسهم، فبعد أن كانوا مجرد مشاهدين عاديين لإعلانات السمن والشيبسى والشامبو أصبحوا الآن يشاهدون إعلانات للأشياء التى يحتاجون إليها فى حياتهم اليومية كمطعم الفول والطعمية ورقم الطبيب المجاور لسور المدرسة»، قالها وائل أبوطالب وهو يشير إلى أطباق الاستقبال المنزلية المنتشرة على أسطح المنازل فى مدينة سمنود بمحافظة الغربية، شمال شرق القاهرة... أبوطالب هو صاحب قناة «شاشة دريم»، وهى محطة محلية تبث إشاراتها عبر شبكات الدش المركزى المنتشرة فى جميع محافظات مصر ولكن بشكل سرى وغير معلن. «الوصلة» كما يطلق عليها هى ممارسة ممنوعة قانونا لمخالفتها شروط البث الفضائى، إذ تقوم تلك الشبكات على فكرة توزيع القنوات المشفرة وغير المشفرة على أفراد لم يدفعوا للقنوات حقوقها بل دفعها صاحب الوصلة مرة واحدة فقط وقام بإعادة بثها للآخرين مقابل مبلغ مالى بسيط نسبيا يحصله شهريا. وتستطيع تلك الشبكات بث قنوات خاصة لأفراد بعينهم دون الخضوع لرقابة الدولة. رغم تشابه اسم قناة «دريم» السمنودية مع القناة الفضائية المعروفة التى يمتلكها رجل أعمال شهير، إلا أن الفارق كبير بين الشخصين، فوائل أبوطالب بلغ الأربعين من عمره ولم ينجح فى تحقيق حلمه بأن يصبح ممثلا وكاتبا مسرحيا برغم دراسته للمسرح وحصوله على جائزة الدولة التقديرية. وقد استعاض عن حلمه بامتلاك قناة محلية بدون ترخيص قوامها جهاز كمبيوتر ومجموعة من الأفلام عبر الإنترنت، يبثها عبر وصلة غير شرعية يشاهدها مشتركو الوصلة من سكان مدينة سمنود فقط. أما الثانى فرجل أعمال شهير لديه عدة مشاريع استثمارية إلى جانب فضائيتين تتكلف كل منهما مئات الملايين من الجنيهات سنويا، ويبث عبر الأقمار الصناعية ويصل إرسال قنواته لكل العالم. يعتقد وائل أبوطالب أن صناعة الإعلام ليست صعبة ولا تحتاج لكل الملايين التى ينفقها رجال الأعمال قائلا: «الموضوع ببساطة يتعلق بالبحث عما يريده الناس ومايحتاجون إليه فعلا»، وهى الميزة التى يقدمها لأهالى بلدته. «التعبير عما يريد الناس»، جملة استخدمها وائل وكررتها د.منى الحديدى أستاذة الإذاعة، بكلية الإعلام جامعة القاهرة، لتفسير ظهور قنوات الوصلة. وأوضحت الحديدى: «هذه التجارب تعبر عن احتياجات أهالى المنطقة أكثر من أى شىء آخر، لذا يتابعونها أكثر فهى تحدثهم عن تفاصيل حياتهم اليومية، كما أنها تتيح للشباب التعبير عن أنفسهم باستخدام التطور الكبير الذى شهدته تكنولوجيا الاتصال فى مصر حتى فى الريف والصعيد». بدأ وائل أبوطالب قناته الخاصة قبل ست سنوات كاملة، اقتصر بثها فى البداية على ساعات محددة خلال اليوم يختارها ويبث فيها إعلانات بسيطة من إنتاجه إلى جانب أفلام عربية وأمريكية يختارها بنفسه ويشاهدها قبل بثها وقد يحذف ما يراه غير مناسب منها. كانت تجاربه الإعلانية الأولى بسيطة وتقتصر على إعلانات ثابتة معالجة بالفوتوشوب فقط ورغم ذلك كانت ترضى المعلنين وقتها، على حد قول أبوطالب، ولكن بعد عامين زادت أعداد القنوات المحلية فأصبحت المنافسة قوية، لذا طور أسلوب انتاج إعلاناته لتصبح أكثر احترافية. إعلانات سمنود.. بيتزا ونظارات يريدها مميزة وجذابة وغير مكلفة فى الوقت ذاته، فالمقابل الذى يحصل عليه من المعلنين لن يغطى حتى التكاليف، بعد تفكير طويل ولأنه لا يملك أموالا كثيرة قرر وائل الاستعانة بمصور أفراح ليجرب إعلانات الفيديو. يذهب للمتجر ويبدأ فى تصوير كل محتوياته بعدها يتوجه لمكتب الكمبيوتر الخاص بشريكه أحمد ليبدأ مرحلة المونتاج، ثم يؤلف أغنية مناسبة ليكون إعلانا تليفزيونيا بحق ينافس إعلانات المشروبات الغازية الشهيرة ولكن بصوت أبوطالب، فهو معروف بكونه فنانا يجيد تقليد أصوات المشاهير وكونه منولوجست سابقا، فمرة تسمعه يقلد عمرو أديب وأخرى تسمعه يعطيك نفس درجة السرسعة لصوت فطوطة ومرة ثالثة يقلد رشدان بطل سلاحف النينجا فى إعلان عن مطعم للبيتزا. «بصريا بركات.. يامزاجو.. عندنا كل الماركات يا دماغه.. نظارة شمسية يامزاجو.. بصريات بركات.. من قده.. إلخ»، الكلمات السابقة جزء من إعلان «بركات للبصريات» الذى يعرض على «شاشة دريم» ولكنه لم يعد مجرد إعلان بل أصبح شعارا يرفعه كل من يدخل المتجر أو يتصل به حسب ما قاله الحاج محمد بركات. تحمس الحاج محمد لإنتاج إعلان عن متجره بعد مشاهدته إعلانات المنافسين على شاشة دريم، قرر أن يجرب ويرى بنفسه خاصة أن الإعلان تكلفته زهيدة لا تتعدى خمسين جنيها شهريا مقابل بث الإعلان كل ساعة مع مضاعفة هذا الرقم إذا كثف العرض ليصبح كل نصف ساعة. اكتشف صاحب بركات للنظارات أن الإعلان مؤثر خاصة مع زيادة نسبة البيع برغم مرور عام واحد على افتتاح متجره إلا أنه أصبح الأشهر، مرجعا السبب لإعلانه المستمر على قناة دريم حيث يشاهد الأهالى كل محتويات المحل وأرقام الهاتف والعنوان. فيما قرر أشهر جزار فى مدينة سمنود استخدام القناة ولكن بطريقة مختلفة فوضع «بانر» إعلانى دائم مثبت أسفل الشاشة عليه عنوان محل الجزارة وأرقام الهاتف. وهو ما يراه وائل تنوعا فى طريقة العرض والتنفيذ حسب رؤية المعلن وحاجته. خطوط حمراء لأنها قنوات فردية يتحكم فى محتواها صاحبها دون أى قيود أو حدود تتنوع القنوات المحلية سواء فى محتواها أو مواعيد البث أو حتى قيمة الاشتراك. محمد فتحى مثلا صاحب قناة «711» بالمحلة الكبرى يرى أن المصارعة هى أهم فقرات قناته، فجمهورها كبير من الكبار والصغار. أما وائل أبوطالب فيرفض عرض حلقات المصارعة لأنها تروج لمفهوم العنف وتضر بالأطفال، لذا قرر منح وقت الذروة على «شاشة دريم» للأفلام الأمريكية الأعلى إيرادا لأن جمهورها من الشباب عريض، خاصة أنه يوفرها فى وقت يتزامن مع عرضها فى السينما عبر تحميلها من الإنترنت! وائل يعرف جيدا أن هناك قانونا لحقوق الملكية الفكرية يحظر ما يفعله ولكن مبرره أن تراثنا القديم بأكمله تمت سرقته وتهريبه للخليج ولدول كثيرة وحرمنا نحن منه دون أن يتحرك جهاز المصنفات الفنية، كما أن هناك مئات الآلاف من البشر يحصلون على أفلامنا العربية بالطريقة نفسها فلماذا لا يفعلها هو! وائل أبوطالب لم يحصل على إذن ليمتلك قناة، يحمل الأفلام من الإنترنت بدون شرائها، يبث عبر وصلة غير شرعية، ولكنه وبرغم كل المخالفات السابقة يضع لنفسه خطوطا حمراء لا يتخطاها، فلا يبث لقاءات الشيوخ ولا يتحدث فى السياسة أبدا، كما لا يتهاون فى أى لقطات قد تحمل إيحاءات جنسية. لا إعلانات انتخابية يدرك وائل جيدا أنه يمتلك أداة إعلامية، فقبل أيام رفض أن يبث إعلان أحد المرشحين للانتخابات التشريعية فى دائرتهم برغم أن أحد مؤيدى المرشح ألح عليه ليفعل ذلك وعرض عليه مبلغا كبيرا من المال، ويبرر رفضه قائلا: «المرشح يمتلك الشارع كله يغرقه بلافتاته كما يريد، أما بث إعلان تليفزيونى فيدخل ضمن التأثير على الجمهور وحثهم على انتخابه وحده، وهو ما أرفضه لأن من حق كل فرد أن يختار المرشح الذى يمثله، هذا إلى جانب أن السياسة خط أحمر بالنسبة لى». وحول تقييمها لتجربة قنوات الوصلة تقول د.منى الحديدى: «التجربة فى غاية الأهمية ولكنها مرهونة بتعامل أصحابها مع المواد التى تبث ومدى وعيهم بخطورة هذه القنوات، وبالتالى فهى فى المجمل إيجابية ولكن بالطبع هناك حالات تسىء استخدامها لذا وجب نشر الوعى بين الجميع بأهمية تطويعها لما ينفع المجتمع». منذ ظهورها قبل بضع سنوات ورغم انتشارها بطول الريف والحضر والصعيد لم تتحدث دراسة واحدة منشورة عن عدد قنوات الوصلة، ولم تناقشها رسالة ماجستير حتى الآن، لذا لا نملك إحصائية تخبرنا عن حجم الظاهرة، فكل ما نعرفه هو حصيلة تجارب فردية عبر تلقى إشارات القنوات بشكل شخصى أو التعرف عليها من آخرين يتلقون إرسالها فى منازلهم. ففى قرية «صروة» بمحافظة كفر الشيخ تقتصر خدمات قناة القرية على بث الأفراح والمناسبات الخاصة بأهالى القرية وفق ما قالته سمر حسين حيث يعيش أهلها هناك وتشاهدها هى عندما تذهب لزيارتهم. فى حين تركز قناة «توب» على بث أفلام الرعب طوال ساعات بثها الذى يغطى المنطقة القريبة من معهد السينما بشارع الهرم، كما حكت رشا خليل التى تتلقى الإشارة بالفعل رغم امتلاكها طبقا خاصا بها إلا أنها اشتركت فى الوصلة، دون أن تعلم من أين يبث صاحبها الإشارة. فالكثيرون يستقبلون هذه القنوات والقليلون يمكنهم معرفة التفاصيل، فهى قنوات سرية علنية.. ربما يكون هذا هو الوصف المثالى لها فبرغم محاولات أصحابها إخفاء كل معالمها إلا أنهم يذهبون للناس ويخبرونهم عن أحدث القنوات ويحثونهم على الاشتراك، وبرغم أنها ممنوعة إلا أن الأسلاك التى تجعلها متاحة لمشتركيها تتسلق أعمدة الإنارة المنتشرة فى الشوارع وتعتلى أسطح المنازل وتحتل مساحة ظاهرة من نوافذ البيوت علنا وأمام الجميع. وكما أننا لا نملك إحصائية بعدد تلك القنوات أو اهتماماتها فلا يعرف وائل أبو طالب أيضا نسبة مشاهدى قناته الخاصة ولم يشغل باله كثيرا بمعرفة ذلك، فهو يكتفى بمعرفة رأى أهل قريته فيما يعرض على القهوة، فى التوك توك، فى الشارع يسألهم ويعرف ما يطلبون فينفذه بكل سرور.. ويتساءل صاحب «شاشة دريم» عن سر عداء المصنفات الفنية فى مصر لمثل هذه القنوات، مشيرا إلى أنه يقوم بدور اجتماعى مهم فى سمنود فهو يعلن فى قناته عن الأطفال الذين فقدوا، كما يقوم ببث إعلانات الضرائب مجانا. ويعتبر ما يقوم به دورا مهما فشلت فيه القنوات المحلية التى تدعمها الدولة بالملايين وفى النهاية لا يشاهدها أحد فى حين يشاهد قناته أغلب سكان مدينة سمنود لأن الوصلة تصل لنحو 25 ألف منزل. حلم بدون ترخيص قبل أيام كان وائل لا يزال قادرا على الحلم بالعثور على منتج لفيلمه السينمائى الأول «بطل أفريقيا» الذى يناقش قدرة المواطن المصرى على الإنتاج والكسب فى أسوأ الظروف، لذا يستحق أن يكون بطل أفريقيا الأول لأنه قادر على الحصول على المال «من عين العفريت» على حد تعبيره. «نفسى أعمل فى كل قرية قناة، تحكى عن هموم الناس وتفرحهم وتساعدهم وتحل مشكلاتهم»، هكذا قال وائل أبوطالب قبل أن يقرر الانصراف لموعد بروفة مسلسل جديد يدرب الشباب عليه. ربما لا يستطيع إضافة حلم آخر إلى مجلده القابع داخل حقيبته السوداء التى لا تفارقه أبدا، لأنه الآن خارج منزله بعد أن صدر بحقه أمر ضبط وإحضار بعد عرض «تليفزيون الحارة»، الفيلم التسجيلى الذى تحدث فيه عن تجربة قناة «شاشة دريم» التى لم تعد متاحة لا فى مدينة سمنود ولا فى أى مكان آخر..