حريق يلتهم 4 أفدنة قمح في قرية بأسيوط    متحدث الصحة عن تسبب لقاح أسترازينيكا بتجلط الدم: الفائدة تفوق بكثير جدًا الأعراض    بمشاركة 28 شركة.. أول ملتقى توظيفي لخريجي جامعات جنوب الصعيد - صور    برلماني: مطالبة وزير خارجية سريلانكا بدعم مصر لاستقدام الأئمة لبلاده نجاح كبير    التحول الرقمي ب «النقابات المهنية».. خطوات جادة نحو مستقبل أفضل    ضياء رشوان: وكالة بلومبرج أقرّت بوجود خطأ بشأن تقرير عن مصر    سعر الذهب اليوم بالمملكة العربية السعودية وعيار 21 الآن ببداية تعاملات الأربعاء 1 مايو 2024    600 جنيه تراجعًا في سعر طن حديد عز والاستثماري.. سعر المعدن الثقيل والأسمنت اليوم    تراجع أسعار الدواجن 25% والبيض 20%.. اتحاد المنتجين يكشف التفاصيل (فيديو)    خريطة المشروعات والاستثمارات بين مصر وبيلاروسيا (فيديو)    بعد افتتاح الرئيس.. كيف سيحقق مركز البيانات والحوسبة طفرة في مجال التكنولوجيا؟    أسعار النفط تتراجع عند التسوية بعد بيانات التضخم والتصنيع المخيبة للآمال    رئيس خطة النواب: نصف حصيلة الإيرادات السنوية من برنامج الطروحات سيتم توجيهها لخفض الدين    اتصال هام.. الخارجية الأمريكية تكشف هدف زيارة بليكن للمنطقة    عمرو خليل: فلسطين في كل مكان وإسرائيل في قفص الاتهام بالعدل الدولية    لاتفيا تخطط لتزويد أوكرانيا بمدافع مضادة للطائرات والمسيّرات    خبير استراتيجي: نتنياهو مستعد لخسارة أمريكا بشرط ألا تقام دولة فلسطينية    نميرة نجم: أي أمر سيخرج من المحكمة الجنائية الدولية سيشوه صورة إسرائيل    جونسون: الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين داخل الجامعات الأمريكية نتاج للفراغ    قوات الاحتلال تعتقل شابًا فلسطينيًا من مخيم الفارعة جنوب طوباس    استطلاع للرأي: 58% من الإسرائيليين يرغبون في استقالة نتنياهو فورًا.. وتقديم موعد الانتخابات    ريال مدريد وبايرن ميونخ.. صراع مثير ينتهي بالتعادل في نصف نهائي دوري أبطال أوروبا    معاقبة أتليتيكو مدريد بعد هتافات عنصرية ضد وليامز    موعد مباراة الأهلي والإسماعيلي اليوم في الدوري والقنوات الناقلة    عمرو أنور: الأهلي محظوظ بوجود الشناوي وشوبير.. ومبارياته المقبلة «صعبة»    موعد مباريات اليوم الأربعاء 1 مايو 2024| إنفوجراف    ملف رياضة مصراوي.. قائمة الأهلي.. نقل مباراة الزمالك.. تفاصيل إصابة الشناوي    كولر ينشر 7 صور له في ملعب الأهلي ويعلق: "التتش الاسطوري"    نقطة واحدة على الصعود.. إيبسويتش تاون يتغلب على كوفنتري سيتي في «تشامبيونشيب»    «ليس فقط شم النسيم».. 13 يوم إجازة رسمية مدفوعة الأجر للموظفين في شهر مايو (تفاصيل)    بيان مهم بشأن الطقس اليوم والأرصاد تُحذر : انخفاض درجات الحرارة ليلا    وصول عدد الباعة على تطبيق التيك توك إلى 15 مليون    إزالة 45 حالة إشغال طريق ب«شبين الكوم» في حملة ليلية مكبرة    كانوا جاهزين للحصاد.. حريق يلتهم 4 أفدنة من القمح أسيوط    دينا الشربيني تكشف عن ارتباطها بشخص خارج الوسط الفني    استعد لإجازة شم النسيم 2024: اكتشف أطباقنا المميزة واستمتع بأجواء الاحتفال    لماذا لا يوجد ذكر لأي نبي في مقابر ومعابد الفراعنة؟ زاهي حواس يكشف السر (فيديو)    «قطعت النفس خالص».. نجوى فؤاد تكشف تفاصيل أزمتها الصحية الأخيرة (فيديو)    الجزائر والعراق يحصدان جوائز المسابقة العربية بالإسكندرية للفيلم القصير    حدث بالفن| انفصال ندى الكامل عن زوجها ورانيا فريد شوقي تحيي ذكرى وفاة والدتها وعزاء عصام الشماع    مترو بومين يعرب عن سعادته بالتواجد في مصر: "لا أصدق أن هذا يحدث الآن"    حظك اليوم برج القوس الأربعاء 1-5-2024 مهنيا وعاطفيا.. تخلص من الملل    هل حرّم النبي لعب الطاولة؟ أزهري يفسر حديث «النرد» الشهير (فيديو)    هل المشي على قشر الثوم يجلب الفقر؟ أمين الفتوى: «هذا الأمر يجب الابتعاد عنه» (فيديو)    ما حكم الكسب من بيع وسائل التدخين؟.. أستاذ أزهرى يجيب    هل يوجد نص قرآني يحرم التدخين؟.. أستاذ بجامعة الأزهر يجيب    «الأعلى للطرق الصوفية»: نحتفظ بحقنا في الرد على كل من أساء إلى السيد البدوي بالقانون    إصابات بالعمى والشلل.. استشاري مناعة يطالب بوقف لقاح أسترازينيكا المضاد ل«كورونا» (فيديو)    طرق للتخلص من الوزن الزائد بدون ممارسة الرياضة.. ابعد عن التوتر    البنك المركزي: تحسن العجز في الأصول الأجنبية بمعدل 17.8 مليار دولار    نصائح للاستمتاع بتناول الفسيخ والملوحة في شم النسيم    "تحيا مصر" يكشف تفاصيل إطلاق القافلة الإغاثية الخامسة لدعم قطاع غزة    القوات المسلحة تحتفل بتخريج الدفعة 165 من كلية الضباط الاحتياط.. صور    أفضل أماكن للخروج فى شم النسيم 2024 في الجيزة    اجتماعات مكثفة لوفد شركات السياحة بالسعودية استعدادًا لموسم الحج (تفاصيل)    مصدر أمني ينفي ما تداوله الإخوان حول انتهاكات بسجن القناطر    رئيس تجارية الإسماعيلية يستعرض خدمات التأمين الصحي الشامل لاستفادة التجار    الأمين العام المساعد ب"المهندسين": مزاولة المهنة بنقابات "الإسكندرية" و"البحيرة" و"مطروح" لها دور فعّال    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البحث عن حيوان قومى جديد للبلاد 6
نشر في الشروق الجديد يوم 19 - 11 - 2010


أسرار استحمار الحمار
مُلخص ما نُشِر : بعد جولة واسعة فى استكشاف الحيوان القابل لاتخاذه حيوانا قوميا رمزيا للبلاد، واستقرار الراوى وصاحبه على اختيار الحمار الذى كان المصريون هم أول من دجنوه فى تاريخ البشرية منذ ستة آلاف عام، تجرى عملية بحث موسع عن موقع الحمار فى تاريخ الأمة الحديث كما القديم ، وبين التردد والأقدام، يتواصل اقتراح اتخاذ الحمار حيوانا وطنيا رمزيا للأمة، لكن، يحدث أن تحرن فى شئونه وشجونه أسئلة مُعلَّقة عديدة، يركبها سؤال كبير!
فى كتاب المُنظِّر المؤسساتى الأمريكى فرانيسيس فوكوياما «نهاية التاريخ»، استنتج من سقوط الاتحاد السوفييتى ليس فقط انتهاء الحرب الباردة، بل نهاية عصر الأيديولوجيات، وانتشار الديمقراطية الليبرالية، على النمط الأمريكى طبعا، وكانت باكورة بشارته فى العراق، التى أشعلت فيها قوات الاحتلال الأمريكية نيران الفوضى التى لم تكن خلاقة أبدا، والتى أجهضت نظرية فوكوياما وسخرت من سيناريوهات نبوءته، وكانت السخرية وحشية ودامية فى كل الأحيان، ولم يسلم من مسخرة مجازرها حتى الحمار!
هذه الفوضى التى لم تكن خلاقة أبدا، ولَّدت عودة شرسة لأيديولوجيات بلا قلب تواجه ظلم السعار العسكرى الأمريكى بظلامية مسعورة مدفوعة الثمن من أجساد العراقيين العزل، ولم تستثن هذه المواجهة بين الشريرين أطفالا ولا شيوخا ولا نساء ولا حتى المرضى العقليين الذين كانوا يُحمَّلون بالشحنات المتفجرة، ويُرسَلون للموت والقتل، وكذلك الحمير! فقد تم تجنيد الحمير لحمل شحنات متفجرة ومستقبلات أجهزة تفجير عن بعد، للقيام بعمليات انتحارية فتكت بالحمير، وسفكت دماء البشر!
الحمير لم تنقذها ليبراليتها الغريزية من السحل بين أيديولوجيتين شريرتين كلاهما تمثل وجه الأخرى، أيديولوجية اليمين الصهيونى الأمريكى بزعم مقرطة العراق من ناحية، وأيديولوجية الإجرام التكفيرى بزعم المقاومة وأسلمة العراق على النمط الزرقاوى من الناحية المقابلة، وفى حمامات الدم العراقية اختلطت أشلاء البشر بأشلاء الحمير! لتؤكد أن عصور الحمير البشرية الدموية لم تزل بعد فى بدايتها، فشعرنا، صاحبى وأنا، بتعاطف شديد مع حمارنا الحمار، الذى ليس دمويا ولا بشريا ولا تكفيريا ولا عسكريا أمريكيا، ولا صهيونيا بالطبع، والذى كان أجدادنا أول من سلبه حريته واحتلوه بالتدجين، فعدنا إليه ليس بدافع التماهى معه هذه المرة كحيوان رمزى أو التماهى معنا، بل بدافع الشعور العميق بالذنب حياله!
•••
الحمار حمارنا، لم ولن نستطيع تجاهل وجوده فى تاريخنا، من عمق أعماق هذا التاريخ وحتى سطحه، وما دام ذلك كذلك فسيظل مرشحنا لموقع الحيوان القومى هو الحمار، اتفقنا، وأخذنا نستجلى الصفات النفسية والبدنية له، ونستنبط منها معطيات سياسية واجتماعية ونفسية للأمة، وبينما صديقى فى عمق تركيزه، شردت منه، وسألنى «رحت فين»، فلم اخبره بالمكان الذى رحت إليه، لأنه يعرف هذا المكان ويعرف أسرارى فيه، فقد تصاحبنا وتزاملنا عاما كاملا فى مدينة كييف قبل أن ينتقل هو للدراسة فى موسكو، وبقيت أنا مرابطا حيث ماء نهر «الدنيبر» الدفاق وخضرة التلال السبعة وحسن وجوه وقدود أجمل بنات الدنيا، وإن لم يكُنَّ الألطف.
ظل انخطافى من جدية صاحبى فى بحثنا بشأن حيواننا الوطنى لا يبعد أبدا عن الحمار، وإن كان موقع البحث قد ذهب بى بعيدا هذه المرة، هناك هناك فى العاصمة الأوكرانية. فقد ساقتنى الأقدار يوما لأتفسح مع صديقة من هذا البلد فى حديقة حيوان كييف، وبينما كانت هى مأخوذه تماما ببدائع المخلوقات، كنت أنا مأخوذا ببديع خلقتها، لكنها فجأة روعتنى وهى تصرخ : «يجيبيتسكى آسيول . يجيبيتسكى آسيول».
لم أفهم بالضبط ماذا تعنى، ومن تقصد بصرختها «حمار مصرى. حمار مصرى»، طاف بى طائف شيطانى يوسوس لى أنها ربما كانت تقصدنى على محمل الهزار البايخ، ووجدت منحنى الأدرينالين يقفز قفزة شرسة فى دمى، لولا أننى تتبعت سبابتها الجميلة إلى حيث تشير، فعلا «حمار مصرى»، هكذا كانت تقول اللافتة المكتوبة باللغة الروسية، وهكذا رأيت حمارنا الغالى، لكنه كان يرفل فى جلد مكسو بوبر أبيض نظيف، ومعرفته مقصوصة بشياكة، وكان ريانا وعيونه تلمع.
كان مرتاحا، وسعدت بارتياحه. لكنه أثار فى نفسى حنينا عجيبا لمصر، وحنانا راعشا على غربته التى هى قاسية مهما كانت هناءته. وكمصرى طبيعى، وجدتنى أهرب من الحزن إلى النكتة، وسألت صاحبتى «لماذا نعتبر الحمار حمارا؟» ولما وجدتها تتحير وحيرتها تُنذِر بإجهاض النكتة، رحت أشرح لها ما يحيط بموقع الحمار فى ثقافتنا الشعبية، حتى لا يحدث «صدام الثقافات» بينما كان سعينا المشترك هو «عناق الثقافات».
وعدت أسألها «لماذا نعتبر الحمار حمارا؟ ولما غُلب حمارها، أطلقت تتمة النكتة: «لأنه لا يعرف قيمة ما عنده». هاها ها ها، كنت أنا الذى يضحك، بينما كانت هى مرتبكة تتلون وتتوهج لأنها التقطت المغزى غير المؤدب للنكتة برغم أنها كانت طالبة دراسات عليا فى الآداب.
وخوفا من إحراق المراحل فى مكان غير ملائم للحريق، صببت ماء باردا على النكتة وعلى ضحكى وعلى احمرارها، وقلبتها جد..
أخذت أسهب فى فضل وفضائل الحمار، وأزعم أنهم يستحمرونه لأنه لا يعرف قيمة ما عنده من خصال حميدة وفضائل جمة، فهو طيب، متسامح، عنده صبر وجَلَد، وذكاؤه الذى ينكرونه عليه يتجلى فى قدرة فائقة على معرفة الطريق وحده، سواء فى المشاوير القروية بين البيت والحقل، أو فى الطرق الجبلية والصحراوية بين نقطة تهريب وأخرى.
وهو حنون لطيف، لدرجة أنه لو تصادف وجود مُهر مع أبويه فى مكان فيه حمار، يترك المهر أبويه فورا ويذهب ليلعب مع الحمار، فالحمار ودود حمول كجد أو جَدَّة، بينما الفرس أم المهر، وكذلك أبوه الحصان، عصبيان يتملكهما توتر دائم يمكن أن ينفجر فى وجه الصغير لأقل هفوة يرتكبها، وحتى بلا هفوات!
ثم إن الحمار عندما يفقد قواه سواء بالشيخوخة العادية او الشيخوخة المبكرة، لا ينعدم فضله على الأقارب والأباعد من السوائم، فهو يستسلم للذبح، ليقتات من لحمه إخوته الأسود والنمور والنسور فى حدائق الحيوان، قلت هذا كله للبُنيَّة الأوكرانية لأقرِّب ما بين ثقافتينا، وكان ذلك منذ ربع قرن أو يزيد، فلم تكن ملاحم الحمير النافقة قد قامت بعد عندنا، لهذا لم آت على ذكرها، ولم أقل ما يمكن أن أضيفه لفضل الحمير حتى وهى نافقة، إذ يُتخَذ من لحمها مفروم للكفتة مفرطة الشعبية او للحواوشى العشوائى، بل حتى للكباب الفاخر فى 30 محل مشويات فى مناطق كرداسة وبولاق الدكرور وفيصل والجيزة، وهذا مما اعترف به بطلا ملحمة لحم الحمير النافقة محمد خليفة ووصفى بولس، واللذان كشفا عن عصابات أخرى منخرطة فى مثل هذه الملاحم، كعصابة زينهم وتيتى وفارس ووحيد، المتخصصة أيضا فى تشفية لحوم الحمير النافقة لطبيخ البشر، بينما الحمير المتقاعدة أو المعقورة فظلت على عهدها تُنحر ليُقدَّم لحمها «بعضمه» لأسود السيرك القومى المكتئبة، والتى قد يكون اكتئابها تضامنا مع اكتئاب فنانى السيرك الذين يريد الوزير الفنان نفيهم إلى الصحراء، بزعم تطوير السيرك، لتنكشف «حتة» الأرض التى يخيم عليها سيركنا القومى، وتصبح دانية من فم أحد مستثمرى «الأمر المباشر» ممن لم يكفوا عن التلمظ شوقا لها والغناء منذ سنين فى حبها من وراء الستار: «حلاوتها زايدة حتة / ياكلوها الساعة ستة!» فالمسألة مسألة توقيت للهبر المُنتَظر الذى أرجِّح أن الوزير ليس مُشاركا فيه أو عالما به،
أما قناعته بتطوير السيرك، فهذه كان ولايزال ممكنا إحداثها والسيرك فى مكانه الثقافى الاستراتيجى فى قلب العاصمة، فليس بنفى الثقافة عن محيطها البشرى ينجح التطوير، والسيرك منارة تثقيف مدهشة واضح أن الفنان لا يدرك خطورة إشعاعها التجسيدى لا التجريدى، خاصة لدى الصغار الذين يكتشفون عبر السيرك معنى عظمة قدرات الجسد البشرى، واختراقات المهارات الإنسانية، وجموح الخيال، تطوير السيرك لا يكون بنفيه وتحطيم فنانيه، بل باتباع خط التطوير العالمى فى مزج فنون السيرك بفنون المسرح والباليه والموسيقى، هذا ما يحدث فى العالم الآن، وبناقص ترقيص الدببة وتصفيف الأفيال وتلعيب النمور والأسود نط الحبل، فهذه لم تعد ضمن عروض السيركات الحديثة فى العالم لاعتبارات خاصة بحقوق الحيوان، ولندعها للحلوة بنت الحلو خارج سيركنا القومى.
ثم إن إخراج تلعيب الأسود والنمور من سيرك البالون ليس متوافقا فقط مع اتجاه ميثاق حقوق الحيوان العالمى فيما يخص الوحوش، بل ينطبق أيضا على الحمير والجحوش، المعقورة منها على وجه التحديد، لأن عدم وجود وحوش السيرك، يعنى عدم ذبح وتقطيع المزيد من الأحمرة المتقاعدة وبنيها المُعاقين، ومن ثم محو آخر ذريعة لنقل السيرك القومى من قلب القاهرة العجوز فى العجوزة بسبب ما تنشره موائد لحم الحمير وعظامها بين أنياب السباع من روائح كريهة وذباب أزرق، وهى حجة نجحت تجربة إزالتها بقليل من زيادة ميزانية النظافة واستخدام عدد قليل من عمال التنظيف بأجور زهيدة، ومع ذلك لا يزال مخطط نفى السيرك مستمرا، وتفوح منه رائحة زاكمة تحوم حول «حتة» الأرض، فالمسألة واضحة ومفهومة حتى للحمير والجحوش، والقضية هى «الحتة»، على حد تعبير وزراء بيع هبرات أراضى الدولة للهبيشة بأبخس الأسعار، يهبها من لا يملك لمن لا يستحق. صحيح أن هذه «الحتة» ليست بمساحة هبرة مدينتى أو هبرة توت آمون، لكنها «حتة» ولا كل الحتت، تطل على النيل الصغير، أو البحر الأعور كما فى إحدى تسمياته بالخرائط القديمة، وترمقها من الضفة الأخرى عمائر الزمالك ونادى الصيد والبرج المُدوَّر الذى يسكنه الغبار والعفاريت، وتحدق فيها بعيون مغرورقة بالدمع كل كنوز شارع أبو الفدا المغدورة، وسقى الله أيامك يافيلا أم كلثوم، يا قطعة من شدو أرواحنا ذبحها مستثمر غشوم ليقيم بمكانها برجا مثل حلل الألمونيوم السوقية الرخيصة التى تصيب مستخدميها مبكرا بعته الزهايمر، رحمة الله عليك يا ثومة، فى زمن صار نجوم الغناء فيه من ماركة «سعد الصغير»،
وإن كنت أقدر له اختراقه الغنائى عندما غنى للحمار، أغنية تأملية متماسكة المنطق من العيار الثقيل، برغم خفته فى الرقص، وطراوة دينا الفلسفية الرجراجة! وعند هذه النقطة، وجدت صاحبى يعود إلى ولعه بالضحك، وألقى اليمين «عليا الطرب بالتلاتة لنسمع ونشوف أغنية الحمار على ال(يوتيوب)»، ولعلعت فى مركزنا البحثى العلمى الأغنية، وسخن المكان بحماوة الرقص عبر شاشة الكمبيوتر: «وباحبك يا حمار / ولعلمك يا حمار / أنا بازعل قوى لما / حد يقولك ياحمار!».
•••
ما إن أغلقنا ملف الأغنية حتى وجدتنى أعود لشرودى فى موقف حديقة حيوان كييف، وكنت أتساءل عما يمكن أن يكون استدرج هذا الحمار المصرى إلى هذه الغربة، ولم أجد سببا إلا أنه كان هدية من مصر لأوكرانيا أيام كانت تقدم لنا أفضل الدبابات والطائرات ومناظير القتال الليلية والتصنيع المشترك لأقمار البحث العلمى الفضائية للرصد والاستكشاف عن بعد، وبتنا نقصدها ليجلب منها المستوردون القمح المخصص لإطعام الحيوان هناك، ليأكله البشر هنا، كما يستورد منها مستثمرو «الفنون الإيقاعية» فيالق الصبايا الجميلات لتطعيم فرق الرقص التعبيرى، وتطوير الرقص السريرى!
«رحت فين»، نبهنى صديقى فعدت لتوى من حديقة حيوان كييف، لشوارع حيوان مصر، ووجدتنى أتساءل عن أصول أحمرتنا، وكيف وصل بهم الحال إلى ما وصلوا إليه بعد أن كانوا طلقاء فى البرية منذ ستة آلاف سنة، ومعروف أن الحمار تم تدجينه فى مصر، وعلى أرض النوبة تحديدا، وهو سليل الحمار البرى الأفريقى (Equus africanus) الذى كان يرتع فى شمال الصحراء الأفريقية، مزودا بسرعة توازى سرعة أفضل الخيول، وقدرة على التلاؤم مع قساوة البيئة مذهلة، فقد كان يمكنه العيش على شربة ماء عذب واحدة كل ثلاثة أيام، بل كان يستطيع شرب ماء البحر فيرتوى.
وكانت أذناه الكبيرتان تعملان كأجهزة تكييف طبيعية تخفف عنه هجير الصحراء. فكان يستمتع بركضه الطليق تحت الشمس فى النهار، وينعم بالمبيت فى الليل تحت ناموسية لا نهائية الرحابة، من قطيفة سوداء شفافة يرصعها تألق ماسات النجوم!. فلماذا تخلى عن كل هذه البكارة والأصالة؟ ولماذا كان المصرى القديم هو الذى انتزع هذا الحمار من براريه، وسلبه حريته، ودجنه؟
والتدجين على فكرة غير الترويض، فهناك حيوانات يتم ترويضها لكنها لا تُدجّن، كالأسود والنمور والأفيال، فهى تضطر لمجاراة مدربيها بعد أن تُؤسر، وبين تهديد الكرباج وسن الحربة، أو إغراء قطعة اللحم أو حزمة الخضرة، تكون هذه الكائنات البرية المقهورة مضطرة لإبداء الطاعة الكاذبة، فتقف الأفيال على قوائمها وترفع قوادمها لتحيى النظارة، أو تقفز النمور عبر حلقات النار، أو تصطف الأسود مقعية فى أدب، وتدور على مؤخراتها مع دوران الموسيقى! لكن هذا كله لا يعنى أنها دُجنت، فهى تظل تحت جلدها برية لأنها لا تتناسل فى هذه الظروف ولا تتوالد، سواء فى السيرك أو حدائق الحيوان أو بساتين قصور النوفوريتش المتوحشين لدينا ولدى غيرنا.
تدجين الحيوان يعنى أنه يتوالد فى الأسر، يرضى بعيشة الحظائر والأقفاص ويخنع للقمة التى يقدمها له سجَّانه، وتكون ذروة خنوعه هى التوالد والاستسلام لتقديم أولاده طوعا كعبيد للبشر، ولا ينطبق هذا على استيلاد الحيوانات البرية غصبا عنها، بعد تخديرها وانتزاع بويضات إناثها وحيامن ذكورها وعمل تلقيح صناعى للحصول على أشبال أنابيب أو جراء أنابيب، تُكره على حملهم ثم ولادتهم الإناث البريات فى الأسر، وبرغم ذلك يظل الحيوان البرى بريا، وكذلك نسله! وتظل جميعها تضمر نية الثأر من آسريها ومُهينيها والمستهينين بها حتى تحين اللحظة، وهو ما حدث من احد أسود السيرك القومى الذى نهش لحم مدرب الوحوش الكبير عندنا على مرأى من النظارة، عندما برقت فى عينيه الكهرمانيتين فرصة الانتقام من سوء أحواله!
فهل تقبَّل حمارنا التدجين لأنه لا يملك أنياب الأسود ولا مخالبها؟ أبدا. فالأفيال أيضا استعصت على التدجين، وهى فى الأسر إما أن تنتحر جوعا أو تكف عن التوالد، وليست الغزلان بعيدة عن ذلك، ثم إن الحمار البرى لا يخلو من قوة وحيلة كانتا كافيتين ليقاوم بهما الأسر، ويتمرد على التدجين، خاصة أن تدجينه قاده هو وعياله وعيال عياله لأحط مراتب الحيوانات المُستأنَسة، فقد صار بهيمة للركوب والحمل والجر، ملطشة ومسخرة ! فلماذا يا حمارنا؟ لماذا يا حمار؟
شردت ثانية من صاحبى لكننى لم أكن أفكر فى حديقة حيوان كييف ولا ما كان فيها، بل كنت أفكر بجد فى أن حمارنا المصرى، كما كل الحمير المستأنسة، لم تعد تعرف فى بلهنية إذعانها قيمة ما تملكه، ولا اقصد هذا الشىء الذى يجعل وجوه البنات تحمر، ولكن اقصد ما كان يمتلكه الحمار البرى حين كان حرا، والذى لو أنه ظل محتفظا به أو استعاده، لكان كفيلا بأن يحافظ على كرامته وفضائل جَلَده واحترام جِلدِه، فقد كان فى حياة البرارى حرا، يعيش فى جماعات تجعل الكثرة ترعب الشراسة، وتخشى الضوارى بأس رفساتها التى لاتقل فعاليتها عن أفتك المخالب والأنياب لأنها ترفس بالرجلين معا، بينما الحصان يرفس برجل واحدة لزوم الأناقة. أما النهيق البرى الذى كان مداه يصل حتى ثلاثة كيلومترات دون ان يفقد زخمه، فهو سلاح صوتى شديد الفعالية فى مملكة الحيوان، خاصة عندما يضرب طبلات آذان السنوريات، كالنمور والفهود والأسود، والتى تفوق حدة سمعها عشرات المرات حدة سمعنا، فهى تستقبل نهيق الحمير كما لو كان قصفا بالمدفعية الثقيلة!
تخلى الحمار البرى عن أسلحته الطبيعية هذه كلها، عن حريته كلها، عندما أصابته خسة الهمة وأسلم أمنه وأمانه للإنسان الذى تصادف أنه كان مصريا قديما منذ ستة آلاف سنة. فارق الحمار جماعته، ورضى بوهم الخلاص الفردى، قابلا بمضغة البرسيم أو حفنة التبن وشربة الماء والمبيت تحت سقف حظيرة بدلا من سقف السماء العالية. توهم أنه صار فى أمان، فوجد العصا تسوقه، والشتيمة تدفعه، والسُخرة تُخضعه وتذله، فيحمل ويجر ويصير مركوبا للكبار والصغار، وينهق شاكيا بلواه إن تشكّى، دون أن يفكر أبدا فى الخلاص، ولوبالرفس والنهيق والعض، أو حتى بالزربحة التى هى أضعف الفرار!
فهل نستمر متمسكين باختيارنا الحمار «ناشونال آنيمال» رمزيا لنا؟ ونقول له طوبى؟ أم نلفظه ونُلقى عليه ألف طوبة وطوبة، وعلى كل من يماثله من الحمير.. الحميرالحمير، والبشر الحمير؟!
و..(خلاص)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.